اختتمت يوم السبت 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي الدورة الخامسة والعشرون من أيام قرطاج المسرحية بالعاصمة التونسية التي انتظمت تحت شعار "المسرح مقاومة... الفن حياة"، حيث احتضنت ندوة فكرية حول "المسرح والإبادة والمقاومة" دامت ثلاثة أيام، إلى جانب لقاءات أخرى وورش في فنون التمثيل والإخراج والكتابة المسرحية، كما تضمنت عروضا مسرحية أداها مساجين تونسيون تحت عنوان "مسرح الحرية"، وانطلق المهرجان بنبرة ما بعد استعمارية، بعرضِِ للمخرج العالمي ليمي بونيفاسيو الذي لا يُخفي نزعته نحو الابتعاد عن المركزية الأوروبية والغربية. وبينما أعطيت الكلمة خصوصا للجنوب في هذه الدورة، تشمل الباقة التي اخترناها من المسرحيات المتميزة في هذه الدورة، عروضا لا تنحو هذا المنحى فحسب بل تربط أيضا بين الشمال والجنوب بما أن المسرح فن يلتقي فيه الإنسان بالإنسان، وهو أبو الفنون التي هي جسر بين الثقافات.
"بيت أبو عبد الله": الجسد يحكي آلام الاضطهاد
"بيت أبو عبد الله" مسرحية عراقية تشكل تحفة فنية مخبأة وراء جدار من الصمت. فيها، لا ينبس أحد بكلمة، وفيها ثلاثة ممثلين رئيسيين: فتاة (التونسية ثريا البوغانمي) ورجل (الأستاذ محمد العمر) وكهل (أنس عبد الصمد، وهو كذلك المخرج)، وفيها جدران ثلاثة، يتغير موقعها حسب تطور الأحداث، ويلج الممثلون داخلها، ويطلون من أعلاها، ويجلسون في فتحاتها، ويقحمون رؤوسهم في ثقوبها، وهي مركز العرض ومحوره.
يشتغل أنس عبد الصمد كممثل ومخرج منذ سنوات على المسرح الصامت، وقد صقل موهبته بتجربة في اليابان، وسبق أن قدم في هذا الإطار عرض "توبيخ". عُرضت مسرحية "بيت أبو عبد الله" في مهرجان المسرح العربي في دورته الأخيرة ببغداد، وشاركت في أيام قرطاج المسرحية لسنة 2024 حيث فازت بالجائزة الثانية (التانيت الفضي).
إن كان المسرح الصامت مفتوحا على جميع التأويلات، تاركا الحرية للمتلقي في فهم خطاب الجسد، فإنه من الصعب ألا نستشف من مسرحية "بيت أبو عبد الله" قراءة في وضع الوطن العراقي وربما العربي أيضا، على الرغم من إمكان قراءته أيضا على مستوى العائلة أو حتى على صعيدٍ وجودي.
ينطلق العرض على مهل مع فتاة تتبع جدارا يتغير موقعه. تجلس إلى طاولة لتأكل فلا تستطيع. تأخذ صرة حمراء وتذهب إلى يسار الخشبة. تجلس على الأرض وتفتح الكيس، فتخرج قفاز ملاكمة وسكينا وأشياء أخرى. توحي الأجواء منذ البداية بالقتل أو بالدفاع عن النفس. ولما يتفكك الجدار إلى ثلاثة، وينكشف عن ديكور بيت عائلي، ويظهر بقية الممثلين، تتتالى المشاهد التي توحي بالقلق والعنف والاضطهاد، وباستحالة الفن والتواصل والحب والحياة. فعندما تحاول الفتاة أن تعزف على الكونترباص، يُسمع صوت منشارٍ يوقف الموسيقى، وعندما يحاول الممثلون أن يتشاركوا الأكل ويتقاسموا الجبنة الموضوعة على الطاولة، تتشنج حركاتهم وتتسارع وتتناثر الجبنة، ونسمع كعيص فأر تظهر صورته العملاقة على خلفية المسرح، وعندما يحاولون أن يعبروا عن حنانهم بحركات متزامنة على خدودهم، تسقط أيديهم.
نراهم يرتجون على صوت الجلبة في الخارج، أو طلقات الرصاص، أو حتى صوت الرقن على الكومبيوتر حيث تتحول الكتابة إلى مصدر للخوف والرهبة، ونرى الحيطان تنطبق عليهم، والمساحات تتقلص (من 100م2 مكتوبة على الخلفية إلى 91,9 م2 إلى 58 م2 إلى لاشيء)، ونرى الأطباء (ومن بينهم الممثل ماجد دردنش) يتعاملون مع أجسادهم كفئران تجارب تؤخذ منها عينات أو تُحقن دون موافقتها، ونرى الجدران تتحرك على عجلات بدفع من ممثلين مختفين تحت الرداء الأسود لملائكة الموت.