أنطولوجيا لشاعرات لبنانيات: نصوص عن الحرب والموت والمنفى

كيف سنكتب نحن الذين فقدنا أطرافنا؟

أنطولوجيا لشاعرات لبنانيات: نصوص عن الحرب والموت والمنفى

في السنوات الأخيرة صدر الكثير من الأنطولوجيات للشعر العربي باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وسواء ركزت هذه المختارات على بعض البلدان، مثل فلسطين وسوريا، أو شملت الشعر العربي عامة، فإنها تمثل مبادرة مهمة لتعريف القراء بلغات أخرى بالشعر العربي الحديث والمعاصر.

"الغسق" هو عنوان أنطولوجيا جديدة لشاعرات لبنانيات معاصرات صدرت أخيرا في باريس بثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنكليزية، وضمت سبعا وخمسين شاعرة لبنانية ولدن في القرن العشرين وكتبن قصائدهن خلال هذا الزمن وما بعده.

جاء في مقدّمة المختارات التي كتبتها المحرّرتان ندى غصن وبولينا سبيكوفيتش أن "هذا المجلد جمع أصواتا معروفة وأخرى ناشئة، ليروي قرنا من الشعر وتحولات بلد في تطور مستمر".

وقد قُسّمت الأنطولوجيا بشكل موضوعي حمل عناوين: غرق، العدم، بيروت، الليل، انتفاضة، قالب، آفاق، حلم، وميض. متجاوزة بذلك النمط الكلاسيكي للكتب المشابهة، واختير لكل شاعرة قصيدة أو أكثر وزّعت حسب عناوين المواضيع. غير أن غياب المعلومات عن أماكن ولادة وعيش الشاعرات حال دون إعطاء تصور واضح عن أزمنة النصوص وأماكن كتابتها، فبعضها يشي من خلال مفرداته بأنه كُتب خارج لبنان.

بين الرماد

هناك ملمحان رئيسان في معظم النصوص المختارة هما الحرب والموت. فنجد أن مفردة الحرب قد تخللت العديد منها، وإن كانت لم تضعها كعنوان مثل بقية المواضيع التي انتظمت النصوص في سياقها. الشاعرة فيوليت أبو الجلد (1974) تتساءل في البداية "كيف سنكتب عن الحرب/ نحن الذين فقدنا أطرافنا في حروب صغيرة". أو كيف سنتذوق "بكل هدوء عسل كل هؤلاء الشعراء" و"نحن أبناء اللغة المُرّة،/ أصحاب الندوب الفاترة/ حتى آخر الموت". فيما تكتب إيتل عدنان (1925- 2021): "أن تروا عبر التلفزيون إخوانكم يموتون/ وأنتم لا تحرّكون ساكنا. هم الآن/ في عالم آخر جديد/ بلا منفذ".

في هذه الحروب تتكشف فظائع تبقى في الذاكرة من خلال عناوين أمكنتها، كهذا النص الذي يحمل عنوان "قانا" لميرا برنس (1961):

"معجزة سالبة

عوسجٌ بين العواسج الصاخبة

أرض الأعراس الأخيرة

ثملةٌ من الدم

الليل أحمر

قرعة ناقوس الألفية

حشرجة ملطخة

رغوة مدفونة

مشاعل الطفولة

أكاليل الهمجية

ورماد بين الرماد المتطاير".

تتضمن المختارات نصوصا لشاعرات ابتداء من عشرينات القرن الماضي مرورا بشاعرات عُرفن لاحقا وصولا إلى أصوات الجيل الجديد

وفي السياق نفسه من استحضار الحروب وفظائعها، تكتب تاميراس فاخوري (1975) نصا بعنوان "حرب عام 1982" جاء فيه:

"أتساءل لماذا وصل القطار صامتا الليلة

ولماذا تتجمد البحيرة باكرا

أتساءل لماذا يرسم الشفق أقمارا نصف متشابكة ونصف مغلقة

ولماذا لا تعترف الشمس بهزائمها؟

أتساءل لماذا لم تعد قريتي لي

ولم يعد حبيبي معي

أتساءل ما إذا كانت حرب العام 1982 ما تزال تعترف بروائح مئزرتي

ما الذي حدث في تلك الأثناء؟

من فكّك الأشياء؟

من كسر الأقفال؟

من أعطى الإذن للآخرين بالمكوث أو المغادرة؟

من سمح للقناصة بتكبيل القمر؟

من سمح للمحيط بغزو زنازين سجننا؟".

ومن نص بعنوان "الحروب اللامتناهية" لأماندا دوفور (1992):

"قيل لنا إن الحرب لن تزورنا،

ثم قلنا لأطفالنا الشيء نفسه

بينما ما نزال نرمّم منازلنا

وهم بدورهم يقولون الشيء نفسه لأطفالهم،

وهم يلوّحون بآخر الدبابات

ويتذكرون أسلافهم المفقودين

في كل الحروب التي وعدونا

أنها لن تكون".

Rabih DAHER - AFP
لاجئة سورية تحتضن طفلها بعد غارة إسرائيلية قرب بلدة برج الملوك.

المنفى والملل

الموت مرادف آخر للحرب، لكنّه يتشكّل في بعض النصوص من الأشياء المعتادة، كما في نص لفينوس خوري غاتا (1937)، أو من المشاهد المتتالية في "المنفى"، وهو عنوان نص لكريستيان صالح (1953):

"أود لو كنت ظلا نباتيا هادئا

إني غواصة

ماتت في زمن الهدوء

فالعاصفة كانت بعيدة

متُّ من الرتابة

المتدفقة برفق

بين ثنايا الأمواج

البحارة هناك

قد ثمِلوا من التبجّح

ومن النساء

وأنا متُّ

دون حسرات ولا مراسم

في رِقّة الشعاب الصخري

وفوق عيني

ثقب من الطحالب الخضراء

عرّابات منفاي".

مع ذلك، هناك نظرات مختلفة ترى ما لا يريح الآخرين وكأنّه جزء من حيوية مألوفة، كما في نص لهوغيت كالان (1931- 2019): "كم هو حبي لهذا البلد... كم أحبه. حبي له يفوق كل ما كنت أخبئه من حب... أحبه مجردا وملموسا ومملوءا بالجثث، مشوها، تنتشر في جسده سرطانات على عدد حبيبات رماله الملوثة. إنه بلد أكثر حيوية من البلدان اللطيفة ذات المروج المُمَهّدة التي تنزّ بالملل، أسوأ أشكال الموت".

IBRAHIM AMRO - AFP
مواطن لبناني يزورقبر شقيقه في مقبرة الشياح بعد وقف إطلاق النار.

بلا معنى

تتضمن المختارات نصوصا لشاعرات ابتداء من عشرينات القرن الماضي وما تلاها مثل إدفيك شيبوب ومي المر وهدى النعماني وإيتل عدنان والميرا شكال وأندريه شديد وفينوس خوري غانا وايفون سرسق (ليدي كوكران) وهوغيت كالان وتيريز عواد بصبوص وكلير جبيلي وناديا تويني وعفاف زريق. مرورا بشاعرات عُرفن لاحقا مثل صباح زوين وندى الحاج وعناية جابر وجمانة حداد وسوزان عليوان وصولا إلى أصوات الجيل الجديد مثل ريتا بدورة ورنيم طاهر وأماندا دوفور ونادين مكارم وغيرهن. وهناك إشارة من المحررتين، في المقدمة، إلى استبعاد الشاعرات والناشطات النسويات المشهورات مثل مي زيادة وإيمي خير وجمانة الأحدب "اللواتي اتّبعن قواعد نظم الشعر".

شعر المرأة اللبنانية يخلو من كل ما هو حميمي وخاص، وإنما يمكن القول إنّه في كلّ تجلياته جاء طافحا بالشعر والمغامرة والحياة

تظهر النصوص تحولات في الهواجس الشعرية وفقا لتبدلات الأمكنة كما في نص لكاتيا صوفيا حكيم (1988): "الليل بطيء كقطار الضواحي، إنه الشتاء الأخير من عمري العشرينيّ، الوركان، ونقطتان تفتحان الاقتباس: إنني نحيفة كفتاة في السابعة عشرة. الثلج يحمل خطوات أمي لخفّتها. الوقت صرخات في كمان، حزن، حزن سيارة لا تنطلق. خففت بياض عينيّ، هل سيتساقط لون شعري قريبا؟ الليل المنحدر مثل قطار الضواحي يخترق صوف المعاطف الزرقاء القديمة".

وفي نص لدارين حوماني (1977) تبدو المتغيرات المعاصرة وكأنها بلا معنى:

"قريبا ستتوقف الحضارة

عن تنشق الشتاء

وسنقبع بلا معنى

داخل عالم إلكترونيّ

يفصل بيننا صحنٌ طائر

ووهمٌ عميق".

وهناك تجارب شكلية، وإن بدت قليلة، تمثلت بنص على هيئة إطارات للشاعرة الميرا شكال (1927) وآخر استخدمت فيه خاصية "الشطب" لبعض الأسطر للشاعرة رومي لين عطية (1982).

shutterstock
امرأة تتصفح رفوف الكتب داخل مكتبة محمد بن راشد.

اللافت لقارئ هذه الأنطولوجيا أن نصوص الشاعرات اللبنانيات تبدو مختلفة عمّا كُرّس في ظاهر شعر المرأة العربية، الذي يميل غالبا إلى الرومانسية في لغته وهواجسه أكثر من اجتراحه للغة اليومية المعيشة. فهذا الشعر، بإيقاعاته الصورية والغنائية أحيانا، جاء مشتبكا مع التحولات العاصفة التي حلّت بلبنان، يقاربها أحيانا بشكل واضح ومباشر وأحيانا تنبعث من بين السطور والعبارات في حالات لا فرار منها. لا يعني هذا القول أن شعر المرأة اللبنانية يخلو من كل ما هو حميمي وخاص، وإنما يمكن القول إنّه في كلّ تجلياته جاء طافحا بالشعر والمغامرة والحياة.

font change

مقالات ذات صلة