فريق ترمب للسياسة الخارجية والفرصة الجديدة في الشرق الأوسط

شعور أميركي مبرر بأن المنطقة بإزاء تحول كبير مفيد لواشنطن

رويترز
رويترز
مؤيدون يجتمعون خارج مقر إقامة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب في مار إيه لاغو في بالم بيتش، فلوريدا، الولايات المتحدة، 3 ديسمبر

فريق ترمب للسياسة الخارجية والفرصة الجديدة في الشرق الأوسط

كان لافتا التغيرُ في سلوك دونالد ترمب رئيسا منتخبا للمرة الثانية للولايات المتحدة الأميركية في عام 2024 عنه منتخبا للمرة الأولى في عام 2016، إذ غاب، هذه المرة، حس الفوضى والدهشة اللذين هَيمنا على اختياراته للمناصب المهمة بعد فوزه الأول. هذه المرة، بعد الفوز الثاني، ثمة حس عال بالانضباط والترتيب وحتى السرعة في هذه الاختيارات والإعلان عنها.

يحتاج كل رئيس أميركي أن يرشح نحو 4000 شخص لشغل مناصب مهمة في الحكومة الاتحادية، من ضمنهم وزراء ورؤساء إدارات ومديرو وكالات اتحادية وسواها يكونون في مجموعهم مسؤولين عن تنفيذ أجندة الرئيس السياسية ويشكلون كلهم بدءا من الرئيس ونائبه (الشخصان الوحيدان المنتخبان في أي إدارة أميركية) ما يُعرف واسعا في الإعلام والسياسة باسم "الإدارة الأميركية". يحتاج نحو 1200 من هؤلاء مصادقة مجلس الشيوخ على تعييناتهم، فيما يستطيع الرئيس تعيين الآخرين بشكل مباشر. هذه التعيينات والترشيحات، سواء المباشرة منها أو المشروطة بموافقة مجلس الشيوخ عليها، تستغرق أشهرا طويلة وتستمر بعد تولي الرئيس المنتخب مهام منصبه في البيت الأبيض.

وما تشهده الفترة الفاصلة بين انتخاب الرئيس في نوفمبر/تشرين الثاني وتنصيبه رسميا في يناير/كانون الثاني، نحو شهرين ونصف الشهر، هو إعلان التعيينات والترشيحات للمناصب الأهم، خصوصا المناصب الوزارية البالغ عددها 15. بخصوص ترمب، بين الذين أعلن ترشيحهم وتعيينهم على نحو سريع هم الكبار في فريق السياسة الخارجية. يشمل هؤلاء مايك والتز مستشارا للأمن القومي الذي لا يحتاج منصبه موافقة مجلس الشيوخ، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيكسث، اللذين يحتاج منصباهما موافقة المجلس. وسيمر ترشيح روبيو دون مشاكل، فيما سيواجه ترشيح هيكسث بعض المصاعب التي لا يمكن التنبؤ بشدتها الآن، لكن عموما وعلى أساس السجل التاريخي، من النادر جدا أن يقوم مجلس الشيوخ برفض ترشيح الرئيس لوزير في حكومته. ويعود آخر رفض من هذا النوع إلى عام 1989، أي قبل 35 عاما عندما رفض المجلس ترشيح جورج بوش الأب جون تاور لمنصب وزير الدفاع. والأكثر حدوثا هو انسحاب المرشح من الترشيح قبل تصويت المجلس لتلافي هذا التصويت إذا تأكد أنه سيكون سلبيا.

أ.ف.ب
علم يحمل صورة دونالد ترمب يرفرف فوق جزيرة بينغهام بالقرب من نادي مارالاغو الذي يملكه ترمب في بالم بيتش بولاية فلوريدا، في 3 ديسمبر 2024

وسواء مر ترشيح هيكسث أم لا، فإن بديله المحتمل لن يختلف عنه كثيرا فاللافت في ترشيحات ترمب أن المرشحين، بخلاف مرشحيه في رئاسته الأولى، ينتمون إلى رؤيته الأيديولوجية ويوالونه كشخص.

وتعكس ترشيحات الرجل لفريق سياسته الخارجية فهمَه للعالم الخارجي وكيفية التعاطي معه أميركيا. وهذا ما ستشهده السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الأربع المقبلة: حس ملحوظ بالانعزالية مصحوب بنزعة لا تخلو من التعالي التي يغذيها تفوق تاريخي، اقتصادي وعسكري، أميركي، مع انتقاء محسوب، على أساس اعتبارات برغماتية قوية، للقضايا التي تحتاج المصالح الأميركية الدخول فيها.

وسيعني هذا أشياءَ محددة بخصوص الشرق الأوسط بوصفها إحدى المناطق التي ستحظى باهتمام أميركي في ظل الإدارة الترمبية المقبلة التي تعتقد أن ابتعادها عن المنطقة أو تجاهلها في إطار رؤيتها الانعزالية العامة سيكلف الولايات المتحدة كثيرا.

معظم فحوى "الشرق الأوسط الجديد" مُتضمن بوضوح، من دون تسميته، في قرارات دولية، مثل قرار مجلس الأمن الدولي 242 في 1967 والقرار 338، المتعلقين بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي

ثمة شعور أميركي مبرر بأن الشرق الأوسط بإزاء تحول كبير مفيد لواشنطن، قد لا يحصل وترتد الأشياء إلى ما هو أسوأ في حال غياب الولايات المتحدة عن هذا التحول ورفضها المساهمة في إنضاجه وإكماله. جوهر هذا التحول هو ما نتج عن عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 من حرب شرسة بين حليف أميركا الأقرب والأقوى في المنطقة، إسرائيل، وخصوم أميركا الأشد فيها، إيران و"محور المقاومة" المرتبط بها ("حزب الله"، "حماس"، الحوثيون، الفصائل المسلحة العراقية). 

ورغم آلامها الكثيرة وتكلفتها الهائلة، يُنظر إلى هذه الحرب واسعا، غربيا ودوليا ووراء الكواليس العربية الرسمية، على أنها فرصة سانحة لمنع حروب مستقبلية وتحقيق سلام دائم وحقيقي في الشرق الأوسط عبر إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية ومن ثم الذهاب إلى تطبيع سياسي يقود إلى تعاون اقتصادي، تكون إسرائيل جزءا منه. ويُطلق كثير من المناهضين لهذا السيناريو عليه تسمية "الشرق الأوسط الجديد"، لكن في إطار تشويه معنى هذا المصطلح وتحريف محتواه، عبر تضمينه إشارات مغلوطة، وشعبوية غالبا، بخصوص تغيير كبير مقبل في الخرائط وإلغاء دول وهيمنة إسرائيلية أميركية على دول المنطقة الأخرى ومسخ الهويات المحلية لصالح هوية "دخيلة" غربية تُفرض على الجميع. يستفيد هذا التشويه من تحريف فج لتصريح قديم لوزيرة الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس في عام 2006 في إطار المواجهة العسكرية حينها بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي تحدثت فيه عن تحولات تحصل في المنطقة. 

أ.ب
ترمب برفقة مستشاره للشؤون العربية والشرق الأوسط مسعد بولس في ديربورن بولاية ميشيغان، 1 نوفمبر 2024

في الحقيقة، معظم فحوى "الشرق الأوسط الجديد" مُتضمن بوضوح، من دون تسميته، في قرارات دولية، مثل قرار مجلس الأمن الدولي 242 في 1967 والقرار 338، المتعلقين بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، والأهم في ما عُرف بمبادرة السلام العربية التي حملت موافقة الدول العربية على كامل فحوى هذا السيناريو من خلال قرار صريح بهذا الصدد في القمة العربية في بيروت 2002 عُرف بـ"الأرض مقابل السلام". وفي السياق الغربي، يشير عادة مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" أو "الكبير" إلى هذا الفهم العام الشبيه، المتعلق بتحقيق السلام عبر حل القضية الفلسطينية من خلال دولة فلسطينية قابلة للحياة، ثم إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل أو ما يُعرف بـ"التطبيع". بسبب خليط من الدعاية الإيرانية القوية وسوء فهم عربي عام، اكتسب مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" دلالات سيئة مرتبطة بقبول الهزيمة والتبعية للغرب وإسرائيل وفقدان الاعتداد الوطني، وذلك في إطار صعود "محور المقاومة" المدعوم ايرانياً على خلفية النجاح الأميركي في الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003، والسعي التالي الفاشل لإقامة نظام رصين ديمقراطي ناجح بدلا منه.

وأعاد "طوفان الأقصى" والردود الإسرائيلية والغربية، الأميركية خصوصا، إحياء مقولة "الشرق الأوسط الجديد" بقوة وعلى نحو مختلف جدا على جانبي الصراع، في سياق سعي غربي هذه المرة لتحويل الحرب المتصاعدة وقتها إلى فرصة أخرى لسلام دائم تال يقوم على تسوية القضية الفلسطينية. وبعد أكثر من عام على اندلاع هذه الحرب، تبرز نتيجتها لصالح إسرائيل عموما، بثمن إنساني باهظ من الألم والموت والتهجير والتدمير لبنانيا وفلسطينيا، لكن النصر العسكري الإسرائيلي ليس نهائيا ولا حاسما، كما أنه بذاته، حتى لو تحقق كاملا ليس كافيا لصناعة التحول الذي تسعى إليه أميركا وإسرائيل. وتاريخيا، انتصرت إسرائيل عسكريا في معظم الحروب التي خاضتها ضد العرب، ولديها تفوق عسكري دائم، وذراع عسكرية طويلة تضرب في مناطق كثيرة خارجها، فضلا عن دعم أميركي هائل والتزام رسمي بالدفاع عن أمنها، (وهذه كلها ظهرت بقوة في ردها العسكري بعد "طوفان الأقصى"). لكن كل هذا لم يقد إلى السلام ولا إلى تحقيق الاستقرار المستمر، ولا إلى القبول بإسرائيل في المنطقة كجزء طبيعي فيها.

أقصى ما تبنته إدارة ترمب الأولى هو "صفقة القرن" وهي تقوم على فهم اقتصادي ومشوه للحقوق الفلسطينية لا يراعي المعنى الوطني والتاريخي للأرض

وثمة حدود لما يمكن أن تحققه القوة والتفوق العسكريان، وهنا يأتي دور أميركا في ظل ترمب: تحويل النتائج العسكرية إلى وقائع سياسية تترسخ على مدى الزمن المقبل.

يأتي فريق السياسة الخارجية الأميركي الجديد من هذا الفهم للصراع، لكن بآلية تنفيذ مختلفة لإنهائه. على العكس من الإدارات الديمقراطية في البيت الأبيض، من ضمنها إدارة بايدن الحالية، التي كانت تركز على إيجاد تسوية فلسطينية-إسرائيلية للصراع تكون إحدى نتائجها تهميش دور إيران السلبي القائم على تأبيد الصراع في المنطقة والاستفادة سياسيا من هذا التأبيد لمد النفوذ الإيراني لمناطق جديدة، تركز إدارة ترمب على الجمهورية الإسلامية بوصفها الخطر الأكبر الذي يهدد احتمالات التسوية والاستقرار في المنطقة ويتطلب مواجهة مباشرة معه لدحره أولا.

وعلى مدى سنوات ترمب المقبلة، ستكون إيران محور الاهتمام والقلق الأميركيين، عبر سعي هذه الإدارة إلى حسم ثلاث ملفات خلافية مع إيران باستخدام أدوات الضغط الأميركية التقليدية الهائلة (عقوبات اقتصادية، حصار سياسي، قوة عسكرية). هذه الملفات هي برنامج الصواريخ الباليستية والبرنامج النووي و"محور المقاومة". بعكس الإدارات الديمقراطية التي كانت تُفرق بين هذه الملفات لتعطي الأولوية للملف النووي، وتصر إدارة ترمب، كما حاولت في فترتها الرئاسية الأولى، على حل هذه الملفات الثلاثة في سلة واحدة.

وما يقوي موقف ترمب في الرئاسة الثانية المقبلة هو الضعف الشديد الذي يعانيه "محور المقاومة" الآن جراء حرب غزة التي امتدت إلى لبنان وحُسمت في هذا الأخير باتفاق وقف إطلاق نار لصالح إسرائيل تشرف على تطبيقه أميركا وفرنسا، إذ يُعتبر هذا الملف، الذي يشير أميركيا وعربيا إلى نفوذ إيران الإقليمي في المنطقة، الأشد تعقيدا والأكثر حساسية بين الملفات الثلاثة. وتواجه إيران أيضا تحديا عسكريا إسرائيليا مفتوحا ومباشرا يتجاوز قدرتها على ردعه، فضلا عن التحدي الاقتصادي الكبير المقبل في ظل إدارة ترمب التي، على الأكثر، سَتفُعِّل حملةَ "الضغط الأقصى" على طهران التي تراخت إدارة بايدن في تطبيقها وغضت الطرف عن الكثير من تصدير النفط الإيراني بالضد من العقوبات الأميركية بهذا الصدد. وفي ضوء كل هذا، ستكون واشنطن في موقع قوي جدا إزاء طهران، وهو موقع قوة غير مسبوق ولم يكن متيسرا لإدارة ترمب الأولى.

وتكمن نقطة الضعف الكبرى في الاستراتيجية الترمبية المقبلة في صمتها عن الحقوق الفلسطينية، تحديدا المتعلقة بحق تقرير المصير، أي إيجاد حل مباشر وواضح للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من خلال تبنٍ صريح وقوي، كما فعلت إدارة بايدن الديمقراطية، لحل الدولتين، حتى لو عنى ذلك الضغط المستمر على إسرائيل.

وأقصى ما تبنته إدارة ترمب الأولى هو "صفقة القرن" وهي تقوم على فهم اقتصادي ومشوه للحقوق الفلسطينية لا يراعي المعنى الوطني والتاريخي للأرض والتهجير منها بالنسبة للفلسطينيين ولا ينتبه للظلم الطويل الأمد الذي تعرضوا له، والناشئ- في معظمه- من تحويلهم في المنظور الغربي إلى كائنات مشروطة تُقاس قيمتهم وحتى حقوقهم بمقدار تهديدهم للأمن الإسرائيلي أو إضرارهم المحتمل بالمصلحة الإسرائيلية.

في أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية التي كانت أصلا شحيحة جدا في نقاشها حول السياسة الخارجية، لم يتناول ترمب إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة

ويمكن أن يؤدي هذا النظر الحصري للفلسطينيين عبر الحاجات الأمنية والسياسية الإسرائيلية إلى إفشال كامل الاستراتيجية الأميركية، فحتى الاتفاقات الإبراهيمية التي استثمرت فيها كثيرا إدارة ترمب الأولى وحققت فيها نجاحات عبر إقامة علاقات بين إسرائيل ودول عربية (المغرب، السودان، الإمارات، البحرين) لم تقد إلى تفكيك القضية الفلسطينية، أو تراجع الاهتمام والدفاع العربيين عن الحق الفلسطيني بدولة مستقلة وقابلة للحياة. فحتى الدول العربية التي وقعت هذه الاتفاقيات ما تزال تطالب بهذه الدولة، ومجتمعاتها تتضامن حول الفكرة نفسها كما هو الحال في الدول العربية التي توقع هذه الاتفاقيات. 

وفي أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية التي كانت أصلا شحيحة جدا في نقاشها حول السياسة الخارجية، لم يتناول ترمب إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وليس معروفا عن فريق سياسته الخارجية الاهتمام بهذا الموضوع كشأن مستقل قائم بذاته. وتزداد احتمالات نجاح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط إذا كرست جهدا حقيقيا ومتواصلا لتحقيق هذا الهدف. ومن هنا تأتي أهمية الموقف السعودي باشتراط التطبيع مع إسرائيل في إقامة هذه الدولة الفلسطينية.

أ.ف.ب
فلسطينيون يعودون إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة بعد توقف القصف الإسرائيلي على المخيم في 29 نوفمبر

ويمكن لهذا الاشتراط إذا تحول إلى إصرار مدعوم عربيا أن يشكل ضغطا كافيا على إدارة ترمب المهتمة كثيرا بعلاقات قوية مع السعودية، يدفعها إلى تضمين استراتيجيتها الشرق أوسطية إقامة دولة فلسطينية كمحور أساسي في هذه الاستراتيجية وليس فقط الاكتفاء بمواجهة النفوذ الإيراني. وحينها، ستحصل أميركا على كثير من الدعم السياسي العربي المؤسساتي والعام لاستراتيجيتها مما يساعد على ترجمة هذه الأخيرة إلى وقائع ملموسة دائمة ويمنعها من التحول إلى مجرد محاولة سياسية أميركية جديدة لحل نزاع صعب معقد، تُضاف إلى سجل طويل من محاولات سابقة باءت معظمها بالفشل لأنها لم تنتبه بما يكفي للمطامح الفلسطينية المشروعة.

font change

مقالات ذات صلة