آلام الاقتصاد الإسرائيلي تتعاظم بين حربين طويلتين

عجز الموازنة 8,3% وتراجع النمو إلى 1,5 %... تأجيل مشاريع القطاع الخاص بنسبة 6,8 % وارتفاع التضخم إلى 3,6%

أدريان أستورغانو
أدريان أستورغانو

آلام الاقتصاد الإسرائيلي تتعاظم بين حربين طويلتين

يواجه اقتصاد إسرائيل تحديات خطيرة بسبب الحرب مع "حماس" و"حزب الله". فقد ارتفعت النفقات العسكرية، مما دفع عجز الموازنة إلى 8,3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تأثرت قطاعات رئيسة مثل شركات التكنولوجيا سلبا نتيجة نقص العمالة والاضطرابات. ويلوح في الأفق عدم يقين المستثمرين، وتفاقم التضخم، ومخاوف من ضياع النمو الذي حققته إسرائيل خلال عقد من الزمن، مما يهدد الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل.

الاقتصاد الإسرائيلي، الذي كان يُعتبَر ذات يوم مثالا للنمو والابتكار التكنولوجي، يواجه الآن أزمة غير مسبوقة، مدفوعة بأطول نزاع مع "حماس" وحرب اعتبرت الأشد مع "حزب الله". فقد ألحقت الحرب، التي بدأت بهجوم "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أضرارا اقتصادية جسيمة بكل القطاعات تقريبا، وهزّت الأسس المالية لإسرائيل. وما كان ذات يوم اقتصادا مزدهرا مع قطاع تكنولوجي قوي وأداء مالي عام مستقر، يتعرّض الآن إلى ضغوط هائلة، مع ارتفاع النفقات العسكرية، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية، واضطرابات العمالة التي تشكل تهديدات وجودية للاستقرار الاقتصادي في الدولة العبرية.

وفق ياكوف شينين، الخبير الاقتصادي ومستشار رؤساء وزراء ووزراء إسرائيليين على مدار عقود من الزمن، قد تصل التكلفة الإجمالية للحرب إلى 120 مليار دولار. وتقدّر وزارة المالية الإسرائيلية تكاليف الأعمال العسكرية اليومية بنحو 130 مليون دولار، فيما تحدّد وزارة السياحة خسائر القطاع بـ5 مليارات دولار بعدما تراجعت أعداد السياح بنسبة 78 في المئة منذ بداية الحرب.

كان الأثر المباشر للحرب محسوسا في زيادة النفقات العسكرية. ففي منتصف عام 2024، ارتفع الإنفاق الدفاعي بنحو 48,4 مليار دولار، مما دفع عجز الموازنة الإسرائيلية إلى 8,3%

وقدّرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية أن نحو 48 ألف شركة في الدولة العبرية أعلنت إفلاسها منذ انطلاق المعارك ورجحت ارتفاع العدد إلى 60 ألفا في نهاية العام. ونقلت تقارير حكومية إسرائيلية أن عدد النازحين في داخل الدولة العبرية ينوف على 120 ألف شخص.

خفض توقعات النمو إلى 2,7%

وخفض صندوق النقد الدولي توقعاته لمعدل نمو اقتصاد إسرائيل هذا العام إلى أقل من النصف عند 0,7 في المئة، مقارنة بـ1,6 في المئة في توقعات سابقة أصدرتها المؤسسة في أبريل/نيسان. ويمثّل هذا التوقع المنقّح انخفاضا كبيرا عن النمو البالغ 3 في المئة الذي توقعه الصندوق لإسرائيل في أوائل أكتوبر/تشرين الأول من العام المنصرم. وبالنظر إلى عام 2025، خفض الصندوق توقعات نمو اقتصاد إسرائيل إلى 2,7 في المئة من التقدير السابق البالغ 5,4 في المئة. وبالإضافة إلى خفض توقعات النمو، رفع صندوق النقد توقعاته لمعدّل التضخم عام 2024 إلى 3,1 في المئة، مقارنة بتقدير سابق بلغ 2,4 في المئة، متجاوزا نطاق هدف الحكومة الإسرائيلية بين واحد في المئة و3 في المئة. ورفع الصندوق توقعاته لمعدّل التضخم لعام 2025 إلى 3 في المئة من 2,5 في المئة.

ديانا استيفانيا روبيو

لا شك أن للنزاع آثارا بعيدة المدى في النمو الاقتصادي، والإيرادات الحكومية، والاستثمار الخاص، وحتى في الروح المعنوية العامة. قبل الحرب، كانت إسرائيل تتمتع بصحة اقتصادية قوية، فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4,8 في المئة عام 2022. وكان قطاع التكنولوجيا، الذي يشكل 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل وأكثر من 50 في المئة من صادراتها، محركا رئيسا للنمو ونقطة جذب للاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، غيّرت بداية الحرب هذه الديناميكيات في شكل كبير. مع امتداد القتال حتى عام 2024، أصبح المشهد المالي العام في إسرائيل محفوفا بالأخطار بشكل متزايد، وتلوح في الأفق مخاوف من حدوث انكماش اقتصادي مطوّل.

كان الأثر المباشر للحرب محسوسا في زيادة النفقات العسكرية. ففي منتصف عام 2024، ارتفع الإنفاق الدفاعي بمقدار 180 مليار شيكل (نحو 48,4 مليار دولار)، مما دفع عجز الموازنة الإسرائيلية إلى 8,3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزا بكثير هدف الحكومة البالغ 6,6 في المئة. وتطلّب النزاع تعبئة مستمرة لقوات الدفاع الإسرائيلية، واستُدعِي ما يقرب من 360 ألف جندي احتياط. ولم يؤدِّ غياب هؤلاء العاملين إلى تعطيل الأعمال فحسب، بل أدى أيضا إلى تكثيف نقص العمالة في القطاعات الرئيسة مثل التكنولوجيا والبناء والزراعة. وزاد تفاقم الأزمة، استبعاد 140 ألف عامل فلسطيني من دخول إسرائيل، مما فاقم اختلال التوازن في سوق العمل.

تكابد العديد من شركات التكنولوجيا، التي تعتمد على كل من العمالة الماهرة والاستثمار الأجنبي، للحفاظ على عملياتها. ومع مشاركة جزء كبير من قوتها العاملة في الخدمة العسكرية، تواجه تحديات تشغيلية

ومن المرجّح أن تكلف إعادة بناء البنية التحتية المتضررة أكثر من 20 مليار دولار، وهو رقم يضيف إلى العبء المالي العام المتزايد على إسرائيل. وفي غياب نهاية واضحة تلوح في الأفق، من المرجح أن تدفع هذه النفقات الإضافية عجز الموازنة إلى مستويات أعلى.

قطاع التكنولوجيا وتراجع الاستثمار

يتحمل قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل، الذي كان ذات يوم فخر البلاد، وطأة هذه الاضطرابات. إذ تكابد العديد من شركات التكنولوجيا الفائقة، التي تعتمد على كل من العمالة الماهرة والاستثمار الأجنبي، للحفاظ على عملياتها. ومع مشاركة جزء كبير من قوتها العاملة في الخدمة العسكرية، تواجه الشركات تحديات تشغيلية. كما  أن شركات تكنولوجيا دولية أوقفت عملياتها في إسرائيل نتيجة المخاوف الأمنية والأخطار السياسية المتزايدة.

أدريان أستورغانو

وانخفض الاستثمار الأجنبي، وهو شريان حياة حاسم للشركات الناشئة، بنسبة 4,7 في المئة، مقارنة بالعام المنصرم، مما يعرّض العديد من الشركات الفتيّة إلى خطر الانهيار. وإذ لا تزال الشركات الراسخة، لا سيما تلك العاملة في مجال الأمن السيبراني، تتمتع بالقدرة على جذب التمويل، فإن الشركات الناشئة، التي لا تزال في مراحلها المبكرة، تجد نفسها الآن في مواقف محفوفة بالأخطار مع تبني المستثمرين نهجا حذرا.

الشيكل يهتز والتضخم الى ارتفاع

كانت الجهود التي بذلتها الحكومة لدعم الاقتصاد سريعة لكن محدودة في أثرها. وتأسس صندوق قروض بقيمة 10 مليارات شيكل (2,7 مليار دولار) لتقديم المساعدة المالية إلى الشركات المتعثرة، في حين وُفِّرت المنح إلى الشركات التي تعاني من خسارة كبيرة في الإيرادات. ولمعالجة النقص في العمالة، بدأت إسرائيل في توظيف عاملين من الهند وسري لانكا لملء الأدوار التي أخلاها جنود الاحتياط والعاملون الفلسطينيون.

أحد الشواغل الرئيسة لآفاق إسرائيل الاقتصادية على المدى الطويل، هو خطر هجرة الأدمغة، واحتمال فقدان أفضل المواهب في قطاع التكنولوجيا

لا شك أن العملة الإسرائيلية، الشيكل، تلقت ضربة قوية، وهو ما يعكس مخاوف المستثمرين في شأن المسار الاقتصادي للبلاد. وانخفضت قيمة الشيكل إلى نحو 4 شيكل لكل دولار، مقارنة بـ3,85 قبل الحرب، فهبّ "بنك إسرائيل" (المصرف المركزي) إلى التدخل من خلال بيع ثمانية مليارات دولار من احتياطاته الأجنبية. غير أن هذه التدخلات لم توفر سوى إغاثة مؤقتة.

ديانا استيفانيا روبيو

وارتفع معدّل التضخم إلى 3,6 في المئة في أغسطس/آب 2024، مدفوعا بزيادة الإنفاق الدفاعي، وارتفاع الأجور، وارتفاع أسعار السلع. ورفع "بنك إسرائيل" معدلات الفائدة إلى 4,5 في المئة، وهو مستوى زاد الضغط على ميزانيات الأسر من خلال جعل الرهون العقارية والقروض الأخرى أكثر تكلفة. ويواجه العديد من العائلات صعوبات مالية نتيجة ارتفاع هذه التكاليف.

تأثير هجرة الأدمغة على قطاع التكنولوجيا

أحد الشواغل الرئيسة لآفاق إسرائيل الاقتصادية على المدى الطويل، هو خطر هجرة الأدمغة. فقد يواجه قطاع التكنولوجيا، الذي يعتمد في شكل كبير على العمالة الماهرة، احتمال فقدان أفضل المواهب، إذ يفكر بعض العاملين في الانتقال إلى الخارج بسبب المخاوف الأمنية وعدم الاستقرار السياسي. ويمكن أن يؤثر تدفق رأس المال البشري إلى الخارج بشدة في مكانة إسرائيل كمركز تكنولوجي عالمي.

ويحذر خبراء الصناعة من أن هجرة المواهب الجماعية ولو المتواضعة يمكن أن تعطّل الابتكار وتقوّض الميزة التنافسية لإسرائيل في مجالات مثل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. وإذا لم يُعالَج فقدان المواهب التكنولوجية، فقد تترتب على ذلك تداعيات بعيدة الأجل، قد تؤدي إلى عقد من الركود الاقتصادي.

على الرغم من استفادة قطاع الصناعات العسكرية من زيادة الإنفاق، إلا أنه ليس محصنا من التحديات التي تثيرها الحرب

على الرغم من استفادة قطاع الدفاع من زيادة الإنفاق العسكري، إلا أنه ليس محصنا من التحديات التي تثيرها الحرب. يخضع اعتماد إسرائيل على صادرات الأسلحة لتدقيق الحلفاء الدوليين، إذ تفرض دول عدة قيودا على المبيعات العسكرية بسبب المخاوف من سقوط ضحايا مدنيين في غزة. وقد تحد هذه القيود من إيرادات صادرات الدفاع، التي بلغ مجموعها 12,5 مليار دولار عام 2022.

أما ارتفاع تكلفة تجديد المخزونات العسكرية، بما في ذلك المسيّرات والذخائر الموجهة بدقة، فزاد الضغوط المالية. وعلى الرغم من هذه الضغوط، لا تزال إسرائيل ملتزمة الحفاظ على تفوقها العسكري، وهو موقف يؤكد إعطاء الحكومة الأولوية للأمن على حساب المخاوف الاقتصادية.

ديانا استيفانيا روبيو

وأعرب مسؤولون إسرائيليون عن تفاؤلهم في شأن قدرة البلاد على التعافي من الصدمة الاقتصادية بمجرد انحسار النزاع. وشدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش على مرونة الاقتصاد الإسرائيلي، مشيرَين إلى تعافٍ سابق من نزاعات مثل حرب غزة عام 2014. مع ذلك، يحذر العديد من الاقتصاديين من أن الوضع الحالي مختلف اختلافا جوهريا، ذلك أن الطبيعة المطولة للنزاع، إلى جانب اضطرابات العمالة، وعدم يقين المستثمرين، وتراجع التجارة الخارجية، عبارة عن تطورات تمثل تحديات لا يمكن التغلب عليها بسهولة.

سيكون التوازن بين الاستعداد العسكري والاستقرار الاقتصادي حاسما. وذلك تبعا لنتيجة الحرب، وتنفيذ سياسات اقتصادية فاعلة وجذب الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية  

مراجعة توقعات النمو إلى 1,5% واحتمال الركود

عدّلت الحكومة الإسرائيلية توقعاتها للنمو لعام 2024 من 3 في المئة إلى 1,5 في المئة فقط، مع تحذير بعض المحللين من ركود محتمل. وأثارت التحديات المالية العامة مخاوف من فرض إجراءات التقشف، بما في ذلك الزيادات الضريبية المحتملة ومزيد من الخفوضات في الإنفاق العام.

ويمكن لتدابير كهذه أن تضعف ثقة المستهلك وتعوق الانتعاش الاقتصادي، ولا سيما إذا ظلت التوترات الجيوسياسية من دون حل. واحتمال ضياع عقد من الزمن من النمو، يذكرنا بالركود الاقتصادي الذي أصاب الدولة العبرية في أعقاب حرب عام 1973 مع مصر وسوريا، وهو احتمال يلوح الآن في شكل كبير على مستقبل إسرائيل الاقتصادي.

Shutterstock
استمرار تراجع قيمة الشيكل الإسرائيلي.

وبينما تجتاز إسرائيل هذه الأوقات المضطربة، سيكون التوازن بين الاستعداد العسكري والاستقرار الاقتصادي حاسما. ذلك أن نتيجة الحرب، إلى جانب قدرة الحكومة على تنفيذ سياسات اقتصادية فاعلة وجذب الاستثمارات والمساعدات الاقتصادية من الجهات المانحة، التي تتردد الآن في تقديم الدعم نظرا لاحتجاج الرأي العام في ضوء عدد القتلى غير المسبوق في صفوف المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، ستحدد ما إذا كان في إمكان إسرائيل تجنب الانكماش الطويل الأجل. يتوقع أن تكون الأشهر المقبلة محورية بالنسبة إلى اقتصاد إسرائيل، إذ تواجه البلاد تحديين مزدوجين هما النزاع وعدم اليقين الاقتصادي. ومع عدم وجود نهاية حاسمة لحربي غزة ولبنان في الأفق، قد تجد إسرائيل نفسها في منعطف حرج، وتواجه احتمال حدوث صعوبات اقتصادية على المدى الطويل إذا لم تُتّخَذ إجراءات حاسمة.

font change

مقالات ذات صلة