في مثل هذه الأيام بالضبط، قبل ثماني سنوات، أُخرجت "الفصائل السورية"، ومثلهم آلاف المدنيين المعارضين من شرق مدينة حلب، بعد ست سنوات من سيطرتها على قرابة النصف الشرقي من المدينة. خلال هذه السنوات الطويلة، حدثت معارك ضارية، وتبادل الطرفان أشكالا من الحصار المديد، حُطمت خلالها أدنى القيم والاعتبارات الإنسانية، فقد بسببه آلاف الأطفال وكبار السن حياتهم، جراء الجوع والبرد، إذ فُقدت أدنى مستلزمات الحياة الضرورية، مثل الوقود والأدوية، ورغم كل التدخلات وأشكال التفاوض، لم يُحسم الملف إلا بحرب شديدة القسوة، بلغ ضحاياها الآلاف.
كانت أحداث شرق حلب وقتئذ درسا قاسيا في الشأن السوري، وخلاصة واضحة عن الكيفية التي صُممت حسبها "المعادلة السورية" كنموذج مشيد على مزيج من العدمية الأخلاقية والصفرية السياسية، وتعبيرا عن جاهزية كل الأطراف لإلغاء أي نزوع للسياسة أو الدبلوماسية.
اليوم، يُستعاد الأمر نفسه، وبمقدمات تؤشر إلى عنف وقسوة منتظرة، وإن مستقبلا، ستتجاوز كل ما حدث من قبل. فأطراف الهيمنة اليوم ستصبح متساوية من حيث القوة والدعم الإقليمي، وربما الشرعية، ودون شك لن تقبل بأية تنازلات متبادلة، وتاليا ستفتتح فصلا جديدا من حرب طويلة، تستعيد فيها هيمنتها على مجتمعاتها المحلية، وتبُسط سلطتها القائمة على عنف مفتوح دون أي أفق سياسي أو اقتصادي أو حياتي.
هجوم الفصائل "الجهادية" و"المعارضة" على مدينة حلب، واندحار الجيش السوري، يعيد تأكيد ثلاث حقائق رئيسة، كانت قد حدثت وتضافرت قبل ست سنوات، وأدت إلى انبلاج "مأساة حلب" وقتئذ، وهي تتكرر راهنا بنفس الآلية والشكل، ما يؤكد طبيعتها "المنطقية"، المستعادة مرة بعد أخرى، وتاليا جدارتها بأن تكون "درسا". فهزيمة قوات الحكومة السورية عسكريا راهنا هي نتيجة طبيعة لتعنته السياسي طوال سنوات كثيرة، فصلت بين هيمنتها على أغلب المناطق الحيوية من سوريا منذ عام 2016 والراهن. فدمشق تصرفت على أساس أن "ليس من مشكلة سياسية في البلاد"، وأن الأمر مجرد "إشكال أمني"، آملا في عودة سوريا إلى ما كانت عليه في عام 2011، مشيدة كل رؤيتها وسلوكها حسب ذلك.
هزيمة قوات دمشق عسكريا راهنا هي نتيجة طبيعة لتعنتها السياسي طوال سنوات كثيرة، فصلت بين هيمنتها على أغلب المناطق الحيوية من سوريا منذ عام 2016 والراهن
خلال هذه المرحلة، فشلت كل أنواع الوساطات والمؤتمرات والتحولات الإقليمية والدولية في دمشق لتغيير استراتيجيتها تلك، فوقعت سوريا في مواجهة كل القوى الدولية وأغلب الدول الإقليمية، ومارست أشكالا لا تُعد من الابتزاز بحق المجتمع السوري، حتى إنها صارت تستخدم "حقها" الحصري في إصدار الأوراق الرسمية، تحديدا "وثائق السفر" كـ"ضريبة غلبة" على السوريين الخضوع لفروضها البيروقراطية والسياسية والمالية. وأدى ذلك السلوك النافي لكل سياسة إلى الهزيمة الراهنة، لأنه بني على مجموعة من الأوهام.
وغالبا سيفعل المهيمنون الجدد الكثير من ذلك، لأنهم يمنون النفس بهيمنة مطلقة على سوريا، ومجتمعاتها وخيراتها وشرعيتها، وهو ما لن يسلم من ملاقاة المصير الذي لاقته الحكومة السورية نفسها، ولو بعد حين، لأنها فعليا لم تنتج إلا ذلك طوال مسيرتها منذ ثلاثة عشر عاما.
"درس حلب" هو إشارة واضحة إلى الشرخ العمودي الذي يصيب المجتمع السوري، أو المجتمعات السورية بتعبير أدق
إلى جانب ذلك، فإن الهزيمة الراهنة هي نتيجة لتبدلات وصفقات ذات طابع إقليمي واضح. فكما كانت الفصائل المسلحة داخل مدينة حلب قبل ست سنوات ضحية التفاهمات الإقليمية الروسية/ الإيرانية مع تركيا، حيث عقدت هذه الأخيرة صفقة على حساب الفصائل من أجل احتلال إقليم عفرين وإخراجه من قبضة "قوات سوريا الديمقراطية" لاحقا. فإن الانهيار الميداني الراهن لقوات الجيش السوري هو نتيجة طبيعية لتقلص نفوذ إيران الإقليمي، وغالبا تفككه، بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على أذرعها.
وبهذا المعنى، يقول "درس حلب" في واحد من فصوله إن الرعاية الإقليمية، وحتى الدولية، لن تكون مفيدة إلا في مرحلة أو سياق واحد فحسب، وكل طرف يبني رؤيته على أساس ديمومة تلك الرعاية الإقليمية وصلاحها الدائم، سيدفع أثمانا باهظة لذلك.
أخيرا، فإن "درس حلب" هو إشارة واضحة إلى الشرخ العمودي الذي يصيب المجتمع السوري، أو المجتمعات السورية بتعبير أدق. فحين كان ناس شرق حلب يواجهون أقسى أشكال الحصار والحرب في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2016، كان أناس آخرون من سوريا، بما في ذلك سكان ومجتمعات مدينة حلب، يعتبرون الأمر "نصرا سياسيا وعسكريا"، لا يتورعون عن الاحتفال والفرح بـ"خلاصهم" من جهات كانت تقصف المدينة بقذائف عشوائية طوال سنوات.
اليوم يصح الأمر، وإن بصورة معكوسة. لأجل ذلك، فإن كل من يتخيل أن المسألة مجرد "غلبة عسكرية"، وأن المجتمعات في النهاية ستوافقه على رؤيته السياسية، إنما يبني "صرحا من خيال".