فارق عالمنا المخرج والمصور والناقد السينمائي العراقي قيس الزبيدي (1939-2024) بعدما قدّم أكثر من 12 فيلما وثائقيا بارزا، من بينها "بعيدا عن الوطن (1969)، "وطن الأسلاك الشائكة" (1980)، و"فلسطين سجل شعب"(1984) كما كتب وأخرج فيلمه الروائي التجريبي الطويل "اليازرلي" (1974)، وأسس منهجا نقديا متفردا. أسس "الأرشيف السينمائي الوطني الفلسطيني" بالتعاون مع الأرشيف الاتحادي في برلين بألمانيا، وساهم بشكل كبير في توثيق تاريخ السينما الفلسطينية. حازت أفلامه جوائز عدة في مهرجانات عربية ودولية، مما عزز مكانته كأحد رواد السينما الوثائقية.
لم يكن قيس الزبيدي مجرد تقني في السينما أو الدراما. فالمونتاج الذي درسه في البداية بمعهد بابلسبرغ العالي، أول جامعة سينمائية مرخص لها في ألمانيا، كان بوابة لفهم ماهية الصورة وكيفية تسلسلها. لكنه لم يكتف بذلك، بل استمر في دراسة الإخراج والتصوير، حيث تطورت تجربته بما يتماشى مع حاجته للتعبير.
لم يكن هدفه فقط أن يكون خلف الكاميرا، بل أن يعبّر من خلالها، وهو ما يفتح المجال للتفكير في قدرته العميقة على إدراك السينما وفهم العالم الدرامي عبر خبرته. ثم انتقاله السخي والشديد العلمية للكتابة عن السينما، وفي أن يجعل جزءا من اختصاصه التاريخي أن يؤرشف السينما الفلسطينية، ويكرس علاقة مختلفة مع الكتابة.
البدايات
لم يتعلم الزبيدي تفكيك الصورة وتوليدها عبر المونتاج أو تقسيمها فحسب، بل أتقن وضعها ضمن تجربة شعورية وحسية متكاملة تنبع من ذاته، من إبداعه الخاص، حيث تتحول إلى ذاكرة إدراكية تُنتج المعنى والمشهد معا.
يظهر العمق الشخصي والدراسة المضنية بوضوح في فيلمه التسجيلي المذهل "بعيدا عن الوطن" (1969)، الذي يوثق مأساة المخيمات الفلسطينية في اليرموك برؤية سينمائية تقدم فيها الكاميرا لغة بصرية مميزة. في هذا العمل، تصبح الكاميرا أداة لتحويل ما تراه أمامها إلى ذاكرة حية، عبر معالجة حسية وشعورية استثنائية.