نيكولا أل... فنانة مفاهيمية تجسّد النسوية في أرقى أحوالها

معرض استعادي لأعمالها في لندن

نيكولا أل... فنانة مفاهيمية تجسّد النسوية في أرقى أحوالها

لم تكن إيفا هيسه (1936 ــ 1970) قد سبقتها إلى مفهوم النحت الناعم على الرغم من أن تجربة الفنانة الألمانية شكلت واحدا من أهم مصادر إلهامها. الفنانة الفرنسية نيكولا أل التي يقيم "مركز كامدن الفني" بلندن معرضا استعاديا لها، لم تغرها بالتوقف فكرة النسيج التي طورتها هيسه لتخلق من خلالها أعمالا فنية صارت اليوم جزءا عضويا مهما من تاريخ فن ما بعد الحداثة، بل تجاوزتها إلى إبتكار أشكال نحتية، لكن من خلال مواد لم تكن مدرجة في معجم النحت من قبل، كالجلد والبلاستيك والقماش.

ذلك ما دفع نقاد الفن إلى اختراع مصطلح "النحت الناعم" الذي صار لصيقا بتجربتها التي فتحت أمام النسوية آفاقا جديدة لم تعد الحرية الجنسية بعدها إلا مطلبا ثانويا.

ومثلما تجاوزت النحت من خلال إضافة مواد جديدة، فإنها أخرجت النسوية من مفهومها المتداول شعبيا وهو مفهوم أقل ما يُقال عنه إنه رخيص وبعيد عن القضية التي سبق لمفكرات من نوع سوزان سونتاغ أن وهبنها طابعا فلسفيا استفادت منه الفنانة في صياغة تجربتها الجمالية. وبغض النظر عما تطرحه أعمال نيكول أل من أفكار عميقة تتعلق بمعنى الحياة في سياقها المشترك بين الرجل والمرأة، فإن هناك ما يأسر في التجربة الجمالية التي نجحت الفنانة في تأليف عناصرها كأنها حكايات خفيفة: الأقدام الكبيرة التي بعثرتها على الأرض، المكعب الأسود الكبير الذي يمكن أن يدخله المرء حافيا لينفصل عن الواقع، الأجساد المعلقة والمصنوعة من القماش كأنها أشباح، ناهيك عن الأرائك التي تتشبه بالجسد البشري. ذلك كله، يرشدنا إلى المرأة باعتبارها خيارا مطلقا. أو كما قال الشاعر الفرنسي أراغون، "المرأة مستقبل الرجل".

حدود المزاج الساخر

نيكولا أل (1932 ــ 2018) في معرضها "أنا آخر امرأة"، يمكنها أن تكون موجودة بشكل صريح في منحوتتها "أنا آخر شيء يمكن أن تتخيله المرأة" (1969) التي تظهر المرأة فيها جالسة كأنها بوذا في جلسته التقليدية، باستثناء أن الفنانة غرست في بطن التمثال جهاز تلفاز يعرض رسالة تقول "أنا آخر شيء يمكن أن تتخيله المرأة. يمكنك أن تأخذ شفتي، وتلمس صدري، وتداعب بطني، وجسدي. ولكنني أكررها، إنها المرة الأخيرة".

هناك ما يأسر في التجربة الجمالية التي نجحت الفنانة في تأليف عناصرها كأنها حكايات خفيفة


الفنانة التي درست الرسم في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، ولدت في المغرب ولكن في عام 1964 طرح عليها الفنان الأرجنتيني ألبرتو غريكو سؤالا من شأنه أن يغير حياتها، "كيف يمكنك الرسم في الستينات؟"، كما روت في مقابلة أجريت معها قبل وفاتها. وبسبب ذلك السؤال، "أحرقتُ جميع لوحاتي التجريدية". شغفت يومئذ بفن "البوب"، غير أنها بالرغم من نجاحها المبكر لم تحظ بشهرة كبيرة مقارنة بالفنانين الأميركيين. كان عليها أن تنتظر طويلا لكي تظهر وسط قلة من الفنانين الكبار الذين أخطأتهم الشهرة التي كانوا يستحقونها.

كان معرض "العالم يتحول إلى بوب" الذي أقامه "تيت مودرن" بلندن عام 2015 والذي سلط الضوء على سلالات عالمية أقل شهرة في فن "البوب"، مناسبة للتعريف بها عالميا من خلال عرض أحد أعمالها. ليست نيكولا أل المرأة الأولى والوحيدة التي تم تجاهل إنجازها. كانت الفرنسية (الأميركية في ما بعد) لويزا بورجوا سبقتها إلى ذلك على الرغم من أن أعمالها أبهرت أندره بروتون زعيم الحركة السوريالية.

 حتى إيفا هيسه لم يُلتفت إلى أهمية ما أنجزته إلا بعد موتها. ويبدو أن منظمي المعرض الحالي وفقوا في التقاط نقاط الذروة في تجربتها الفنية التي امتزجت من خلالها الأشكال بالمعاني في سياق فن معاصر ليس نسويا إلا في حدود المزاج الساخر من الذكورة، غير أن نسويته في المقابل كانت هي المجال الحيوي الذي انفتح من خلاله على فن "البوب".

الحب في متاهته

تقول الناقدة لوريتا لامارغيزي في وصف تجربة الفنانة: "خلال مسيرتها المهنية الغزيرة، شقت نيكولا أل مسارات غير متوقعة من خلال أعمال التصنيع التي قادتها من الوظيفة إلى الشكل، دائما بروح الدعابة الساخرة. لقد وسعت جسم الإنسان، واستكملته، وتضخم حجمه، حتى أصبح قويا وعمليا، الرجال كأرائك، والمقابض كحلمات".

أعمالها تمزج الأشكال بالمعاني في سياق فن معاصر ليس نسويا إلا في حدود المزاج الساخر من الذكورة


ذلك الجانب الساخر من عالم الفنانة يخفي بين جوانبه نظرة فلسفية ليست بعيدة عن السياسات الاجتماعية التي اعتنقت الحركة النسوية مبادئ تحديها والتصدي لها. في المعرض الحالي، هناك عمل كانت المكواة فيه عبارة عن العضو الذكري، فيما منضدة الكي هي عبارة عن جسد أنثوي. ذلك هو المعنى الذي أرادته، غير أن الشكل يبدو مغمورا بالسخرية. "نحن نرغب في التنفس"، تكتب على أحد أعمالها الجدارية، فيما تكتب على الآخر "الجلد نفسه لكل جسد". وفي العملين هناك وجوه شبحية نافرة تبحث عن هويتها. واحدة من أهم المشكلات التي تعالجها نيكولا أل، تكمن في الهوية على الرغم من أنها تؤكد من خلال أعمالها أن المسافة بين الجنسين تظل مغمورة بسوء الفهم. ليس الرجل عدوا في أعمالها. تلك فكرة لا تعتدّ بها في النسوية، كما أن المرأة ليست وحشا جميلا. لا تقف نيكولا حائرة بين كائنين غريبين عنها. لا تحدثنا عن الحب بشكل مباشر، غير أننا يمكننا العثور على دروبه وسط المتاهة التي صنعتها. في جزء من معرضها يمكننا أن نشعر بالحب.

كمال جمالي وفكر متمرد

بين الأريكة وخزانة الكتب، مسافة حياة بالرغم من أن أحدهما لا يبعد عن الآخر في المعرض على الأقل إلا أمتارا قليلة. شاءت نيكولا أل أن يكون الرجل أريكة وفي المقابل كانت المرأة هي خزانة الكتب. ليس من المستبعد أن تأخذنا جماليات الصنيع الفني إلى نوع من الرمزية التبسيطية التي حاولت الفنانة ألا تسيطر على عملية تأثيثها الماكر لبيت، تتخطى نسويته الفكرة الأحادية إلى المفهوم الشامل.

تلك هي صورة العالم كما رأته الفنانة التي وهبت الفن المفاهيمي قيما تصويرية كانت استبعدت من قاموس الفنون المعاصرة، وخصوصا في جانبها المفاهيمي. هناك لوحتان عُلقتا على شكل لافتتين من قماش ضمتا أشباح وجوه نسائية، كتبت نيكولا أل العبارتين اللتين سبق أن ذكرتهما، "نريد أن نتنفس" و "الجلد نفسه لكل جسد". تنطوي العبارتان على فهم متكافئ لنمط العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يشكل خرقا للفكر النسوي بمفهومه المتداول، أو أنه إضافة متمردة تضفي على الفن طابعا إنسانيا لا ينسجم مغ الفكر الجاف.

ذلك ما يهب وجود تلك الفنانة أهمية استثنائية، فهي تملأ بتمردها فراغا فكريا حدث بفعل حراك سياسي عاصف، وبأعمال هي غاية في الجمال والجاذبية من جهة كمالها. 

font change

مقالات ذات صلة