المشترك في الحربين المتجددتين في سوريا ولبنان، أنهما تشيران إلى استعصاء ترميم ما سقط من بنى الدولة في البلدين. فالسلطة في سوريا غير قادرة على العودة إلى ما كانت عليه قبل 2011 فيما الصدوع الفاصلة بين الجماعات اللبنانية لا تني تتسع مع كل جولة قتال خارجي أو توتر داخلي.
أول ما أثار المخاوف في تمدد "هيئة تحرير الشام" وحلفائها نحو ريف إدلب حلب، هو وقوع صدامات مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي يشكل الأكراد أكثريتها وتعرّض المسيحيين في حلب إلى انتهاكات تهدد سلامتهم وأمنهم. وحضور العنصرين العرقي والطائفي يؤشر إلى الخطر الداهم من اشتعال جبهات عدة في آن واحد تتوازى مع القتال بين الجيش السوري و"إدارة العمليات العسكرية" من جهة و"قسد" من جهة ثانية على ما ظهر أخيرا، وتضيف إلى الصورة المعقدة أصلا، المزيد من الإرباك والمخاوف وتستدعي المزيد من التدخلات الخارجية.
في لبنان، عمّق الهجوم الإسرائيلي الأخير النفور السائد بين الطوائف منذ عقود والذي تفاقم بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005 وحرب يوليو/تموز 2006 وغزو بيروت في 2008 وصولا إلى إخفاق محاولة الإصلاح من الشارع التي مثلتها انتفاضة اللبنانيين في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ظهّرت الأحداث هذه، الصعوبات الهائلة التي تحول دون العودة إلى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية (1975-1990) والذي طُبق وفق تفسيرات عكست موازين القوى في مرحلة ما بعد الحرب تلك. فقد انضوى قسم كبير من الشيعة اللبنانيين في ظل "الثنائي" الذي يضم حركة "أمل" و"حزب الله" فيما باتت أصوات المسيحيين المطالبين بعدم العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر 2023 أعلى وتشمل دعوات إلى اعتماد نظام فيدرالي يحفظ لكل جماعة خصوصيتها ويوفر لها الأمن سواء من التجريف الديموغرافي أو الانجرار كل بضع سنوات إلى حرب مدمرة لا يرى كثر من المواطنين أي مصلحة أو علاقة لهم فيها على غرار 2006 و2024.
ما من عاقل يتصور أن يستأنف حزب "البعث العربي الاشتراكي" حكمه الذي أفلست صيغته القديمة حتى قبل 2011، وجاءت الثورة ثم الحرب الأهلية لتفرز مجموعة من الكيانات شبه المنفصلة عن بعضها أقواها "قسد"
الخطاب السائد بين السياسيين اللبنانيين عن أساليب الخروج من الوضع الكارثي الحالي يدور حول ترميم "اتفاق الطائف" والتزام الجميع بمندرجاته. عزز هذا الاتجاه إعلان الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم في خطابه الأخير أن "الحزب" سيعمل "تحت سقف الطائف" الذي يوزع المناصب الرسمية مناصفة بين المسيحيين والمسلمين ويضع سلطات واسعة بتصرف مجلس الوزراء مجتمعا. بيد أن هذا كلام يفتقر إلى المعنى. ذلك أن التجارب المتعاقبة منذ 2005 واتفاق الدوحة في 2008 وتنصل "حزب الله" من إعلان بعبدا المتضمن عدم انخراط لبنان في الصراعات العربية في 2014، وتضخم القوة العسكرية والأمنية لـ"الحزب" وحلفائه إلى مستويات تحول دون أداء الدولة اللبنانية الحد الأدنى من وظائفها ولو على الصعيد الإداري والقضائي مثلما ظهر من إحباط التحقيق في تفجير مرفأ بيروت في 2020، كلها أمور تجعل "القول أسهل من الفعل" وتشجع على طرح مقاربات من نوع الفيدرالية أو حصول المسيحيين على المزيد من الضمانات الدستورية، مقابل استحالة العودة إلى دولة مركزية تحكمها "البيوتات السياسية" التي تطغى على المشهد العام في لبنان منذ عقود.
وفي سوريا ثمة مظاهر مشابهة. فما من عاقل يتصور أن يستأنف حزب "البعث العربي الاشتراكي" حكمه الذي أفلست صيغته القديمة حتى قبل 2011، وجاءت الثورة ثم الحرب الأهلية لتفرز مجموعة من الكيانات شبه المنفصلة عن بعضها أقواها "قسد"، من دون إغفال ما يجري في محافظة السويداء ذات الأكثرية الدرزية منذ عامين ولا حالة الترقب في درعا منذ المصالحات التي أشرفت روسيا عليها.
ولا يزال الحديث عن إعادة النظر في النظام السياسي السوري بمثابة "المحرم" (التابو) حتى بالنسبة إلى أكثر القوى معارضة للرئيس بشار الأسد، فيما يقول الواقع إن أنهرا من الدم ستسيل إذا حاول أي طرف القضاء على مناطق الحكم الذاتي الكردي القائم بقوة الأمر الواقع.
وفي نظرة أبعد قليلا إلى مستقبل سوريا، لا بد من الإشارة إلى أنها تقع بين نموذجين لنظامين سياسيين مختلفين التركي والعراقي. هناك أولا تركيا، الدولة الوطنية المركزية التي تشهد منذ الأعوام الأخيرة للسلطنة العثمانية اضطرابات قومية عميقة. كان مضمونها القضية الأرمنية في العقدين الأول والثاني من القرن الماضي، ثم ظهر الأكراد كمطالبين بالحقوق السياسية والثقافية. ومضى قرن على الدولة المركزية والقومية في تركيا، وانتقلت من العلمانية المتشددة إلى الإسلام السياسي المخفف، ولم يجر التوصل إلى حل للمسألة الكردية.
من ناحية ثانية، حقق أكراد العراق انتصارا تاريخيا بحصولهم على حكم ذاتي يقره الدستور ويحميه بعض عقود من الصراع مع المركز في بغداد. وعلى الرغم من أن العلاقات بين الحكومة العراقية وأربيل ليست شهر عسل متواصلا والخلافات حقيقية وحساسة، فإنه لا خطر وجوديا يحيط بإقليم كردستان العراقي في الوقت الحاضر على الأقل.
وعليه، ربما آن أوان الاعتراف بأن الصدوع عميقة بين مكونات لبنان وسوريا وأن الإصرار على الأدوية القديمة للأمراض المزمنة لم يأت بالشفاء المطلوب، من ناحية. وأن الطريق إلى ابتكار صيغ جديدة للحكم والشراكة والسلطة، لا زال طويلا ويحتاج إلى بعض التواضع والإقرار بحقائق هذه المنطقة من العالم. وأن مقولة "الوحدة" التي تسببت بما لا يحصى من ضحايا وخسائر، قابلة للاستبدال "بالتعدد ضمن الوحدة" أو الفراق بمعروف.