كنت أتوقع أن يتحول مسلسل "البطريق" إلى سردية مطولة ذات عشرة مواسم، لكن القائمين على المسلسل اكتفوا بثماني حلقات أنهوا بها القصة بصورة رائعة تجعلنا أمام واحد من أفضل مسلسلات السنة، إن لم يكن أفضلها. ذكرني هذا بمسلسل عربي وصل الآن إلى الحلقة 196 ولا ترى ولا تسمع إلا الصراخ، ولا تدري لم هم غاضبون! نحن بحاجة إلى معاهد حقيقية للتمثيل، وأن لا نعتمد على الموهبة فقط.
ذكرني مسلسل "البطريق" بكلمة لمارتن هايدغر، حين قيل له إنه قد كتب عن الفلاسفة إيمانويل كانط وفريدريش نيتشه، وأنه قد صوّرهم بصورة تختلف عن الصورة التي يعرفها الفلاسفة. فأجاب أنه لا بد من الحرث المتجدد. الفلسفة التي لا تُحرث بشكل مختلف تموت. وسيبقى التلاميذ يعيدون القراءة ذاتها ويكررون الكلام ذاته، ويلخصون المطوّل ويشرحون المختصر، ولا يخرجون بشيء جديد، فتموت الفلسفة.
الحل بالنسبة لهايدغر هو أن لا ندع الفلسفات العظيمة تموت، يجب أن يخلُد أمثال كانط ونيتشه. ولكي نحافظ على مثل هذه النصوص، لا بد من التفتيش عن المسكوت عنه، فكم ترك العباقرة من النصوص المُلغزة (هيراقليطس مثلاً). أتحدث عما تعمد الفيلسوف تركه للأجيال، وأيضاً عما يمكن أن نستخلصه نحن من المغفول عنه. ولذلك لا بد من القراءة على القراءة، ولا بد من الكتابة على الكتابة.
قبل قراءة هايدغر، كان المختصون ينظرون إلى نيتشه على أنه فيلسوف الطبيعة التجريبي، عدو الميتافيزيقا، وأنه كان يبحث عن تفسيرات سببية لقيمنا الأخلاقية. أما هايدغر، فتفسيره لنيتشه مثير للجدل وحاد، ومن المؤكد أنه سيمنحك طريقة جديدة تماماً لفهم نيتشه. إنه لا يراه عدواً للميتافيزيقا بل آخر فرسانها الذين نسوا الوجود.
ويضع هايدغر نيتشه بالكامل في إطار النظام الميتافيزيقي الذي كان يحاول هدمه عمداً. بالنسبة لهايدغر، فإن نيتشه هو الحداثة التي وصلت إلى أقصى استنتاجاتها، إلى أقصى ما يمكنها أن تصل إليه، وفي هذا الاستكشاف إلى أقصى الحدود، يضع نيتشه اللمسات الأخيرة على الحداثة، ثم يتركها لتنتهي.
فكرة الكتابة على الكتابة تعيدنا من جديد إلى مسلسل "البطريق" فبدلاً من الاكتفاء بالتصور السابق، شخصية شريرة من قصص "الكوميكس"، عكف عشرة كُتّاب سيناريو للخروج بهذا التصور الجديد الذي يطرح السؤال الفلسفي الجنائي: هل يختار الإنسان أن يكون مجرماً؟ أم إن المجتمع هو الذي يجعله كذلك رغم أنفه؟ أم إن بذرته بذرة مجرم ولا دخل للمجتمع؟
قبل قراءة هايدغر، كان المختصون ينظرون إلى نيتشه على أنه فيلسوف الطبيعة التجريبي، عدو الميتافيزيقا. أما هايدغر، فإنه لا يراه عدواً للميتافيزيقا بل آخر فرسانها الذين نسوا الوجود
الكتابة على الكتابة تتجلى مرة أخرى في عمل فني آخر هو "اغتيال جيسي جيمس على يد الجبان روبرت فورد". نرى الشيء ذاته، عندما ينطلق الكاتب في عملية "حرث" لقصة قديمة، قصة حقيقية ومهمة، فتقوده الكتابة على الكتابة إلى أن يناقش تلك الواقعة التاريخية التي لا زالت تثير اهتمام المجتمع الأميركي بصورة تختلف كثيراً عن اهتمامنا. فالجبان روبرت فورد يظهر هنا بصورة أكثر تعقيداً لدرجة أننا نشعر بالشفقة عليه ونتردد في الانحياز لأي من الطرفين، فهو يظهر في القصة القديمة على أنه شخص غدر بصديقه وأطلق عليه النار من الخلف. بعد الكتابة على الكتابة، أضيفت عناصر جديدة إلى القصة، واتضح أن فورد كان يعتبر جيسي جيمس مثله الأعلى في كل شيء، إلا أن تعاليه وسوء معاملته لهذا الشاب جعلته ينتقل إلى ضفة الخصوم، فنحتار. وثمة مشهد شهير يصوّر جيمس وعصابته وهم يهمّون بسرقة قطار، ويبدو لنا المشهد بديعاً للغاية عندما يقف جيمس على كومة أشجار تقطع سكة القطار. لكن ما إن ينتهي المشهد وتبدأ عملية السطو الفعلية حتى يظهر لنا جيمس كشخصية بغيضة متعجرفة. هذا بطبيعة الحال مقصود، أن ترتبك أكثر فتزداد صعوبة الحكم عليه. وفي المشهد الأخير حين يقتل فورد جيمس، تظهر لنا إشارة جديدة، ألا وهي أن جيمس ربما يكون قد انتحر، فقد تخلى عن سلاحه وصعد كرسياً ليمسح الغبار عن لوحة، كأنما كان يُشجع روبرت فورد على إنهاء حياته. الكتابة على الكتابة حقاً تبعث الحياة في النص الميت.