الانكشاف المالي لـ”حزب الله“

تجفيف مصادر "الكاش" وتدمير "الشركات الواجهات" ومصانع إنتاج المخدرات وقطع شبكات الإمداد ومعابر التهريب

نيل ويب
نيل ويب

الانكشاف المالي لـ”حزب الله“

تأسس "حزب الله" عام 1982، وبعد ثلاث سنوات، أعلن في "رسالة مفتوحة إلى المستضعفين" عام 1985 أن هدفه هو القضاء على إسرائيل، كما التزام حكم الإسلام و"ولاية الفقيه". بعد توقيع إتفاق الطائف عام 1989، تمسك الحزب بسلاحه باعتبار أنه "مقاومة إسلامية" هدفها الوحيد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. لكن إشكالات كثيرة ومتباينة لازمت الحزب منذ نشأته. فهو لم يتأسس بشكل قانوني، إذ لم يحصل على علم وخبر من وزارة الداخلية كبقية الأحزاب، وهو لو سعى إلى ذلك، لكان الجواب حكما الرفض لارتباطه بمرجعية أجنبية. فأمينه العام السابق، حسن نصر الله، أعلن بالصوت وبالصورة أن مصدر تمويله هو إيران، وأن الحزب يأتمر بأوامر مرجعية أجنبية، هي مرجعية "الولي الفقيه".

كذلك، لم يراع الحزب كمقاومة، الأصول والقواعد المتعارف عليها في العمل المقاوم. فالمقاومة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر "هي ديمقراطية حقيقية من المستحيل أن يتلمس المرء فيها أي تمييز هرمي بين مقاوم رئيس وفرد، فالإثنان مكلفان المسؤولية نفسها ومكشوفان على الأخطار نفسها وملتزمان قيود الانضباط نفسها". وهذا ما غاب عن مقاومة "حزب الله"، فهناك من هم على الجبهة وهناك من هم بعيدون عنها، وهم فئة المعممين القادة، الذين يشجعون مريديهم ويدفعونهم إلى الموت تحت عنوان "الجهاد والاستشهاد"، كما حدث في الحرب الأخيرة حتى وقف إطلاق النار الهش.

هناك أيضا تمركز مشبوه في السلطة داخل الحزب. فنصر الله، الذي كان صاحب الكلمة الأولى في الحزب، ابن خالة هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي للحزب، الذي كان يعتبر الرجل الثاني في الحزب، وشقيق الأخير عبد الله صفي الدين، كان المشرف على نقل الأموال إلى لبنان من مصدرها الرئيس، إيران. ومعروف أن هيكلية "حزب الله" تتضمن العديد من الكوادر لكل منها رواتب وميزات. فمقاتل "حزب الله" يكسب نحو 1500 دولار شهريا، أما الجندي في الجيش اللبناني فيتقاضى 300 دولار فقط، تدفع ثلثيه الولايات المتحدة وقطر.

ومن المفيد في هذا المقام التذكير بمقولة المناضل نيلسون مانديلا أن "المقاوم لا يعود مقاوما عندما يتقاضى أجرا مقابل مقاومته" ويتحول إلى مرتزق.

لم تلتزم العمليات التي قام بها الحزب منذ نشأته، هدفه أو حدوده الجغرافية، فعمل كـ"مقاومة إقليمية" أكثر منها وطنية، مستهلا نشاطه بخطف عدد من الغربيين وبتفجير مقر "المارينز" والقوات الفرنسية في بيروت عام 1983

كذلك، لم تلتزم العمليات التي قام بها الحزب منذ نشأته، هدفه أو حدوده الجغرافية، فعمل كـ"مقاومة إقليمية" أكثر منها وطنية، مستهلا نشاطه بخطف عدد من الغربيين وبتفجير مقر مشاة البحرية الأميركية "المارينز" والقوات الفرنسية في  بيروت عام 1983، تلاه تفجير مركز يهودي في الأرجنتين عام 1994، ثم تفجير الحافلات في بلغاريا عام 2012، وآخرها دخول الآلاف من مقاتليه إلى سوريا وإرسال آخرين إلى العراق واليمن، مما أكسبه خبرة كبيرة في القتال في بيئات متنوعة، منها ضد تنظيمات متطرفة، ووصل إلى حد توجيه سلاحه إلى شعبه عند اجتياحه بيروت ومناطق أخرى عام 2008، وأعلن الأمين العام للحزب المناسبة بأنها "يوم مجيد".

نشاطات إجرامية تدر مئات الملايين من الدولارات

واللافت تزامن اجتياح العاصمة مع إطلاق حملة أمنية دولية تحت مسمى "كاساندرا" (Cassandra)، على إثر جمع إدارة مكافحة المخدرات في الولايات المتحدة وفي عدد من الدول الأوروبية أدلة تثبت أن "حزب الله" تحول من منظمة عسكرية وسياسية تعمل في الشرق الأوسط إلى عصابة دولية للجريمة المنظمة تمارس أنشطة إجرامية تدر مئات الملايين من الدولارات سنويا، من بينها تهريب المخدرات والأسلحة وغسل الأموال. فكان التوجه الدولي المشترك الأول لتفكيك بنية الحزب العسكرية وتقويض قدراته المالية. 

نيل ويب

وفي عام 1995، صنفته الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية وانضمت إليها في هذا التصنيف ألمانيا وكندا والمملكة المتحدة وهولندا وكوسوفو، وأخرى في أميركا اللاتينية مثل كولومبيا، وهندوراس، وغواتيمالا وغيرها. 

لاحقا، قرر الاتحاد الأوروبي في يوليو/تموز 2013 إدراج الجناح المسلح لـ"حزب الله" على قائمته السوداء للإرهاب، واعتبر القرار سياسيا أكثر منه قضائيا كون الحزب لا يقسم نفسه إلى جناحين، مسلح وسياسي، وهو غير مسجل أصولا لدى الدولة اللبنانية، مما يعني صعوبة في تحديد العناصر التي سيطبق عليها الحظر المفروض. ويحصر هذا الواقع أثر القرار الأوروبي بتعميق الضرر بمكانة الحزب الدولية، والسماح بتعاون أفضل بين مسؤولي إنفاذ القانون الأوروبيين في مواجهة أنشطته.

مصادر متنوعة لتمويل "حزب الله"

في يناير/كانون الثاني 2018، أعلنت وزارة العدل الأميركية إنشاء وحدة خاصة للتحقيق في تمويل "حزب الله" وفي إتجاره بالمخدرات. وفي أكتوبر/تشرين الأول، صنفه المدعي العام الأميركي، جيف سيشنز، من أهم المنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية، إلى جانب أربع عصابات للمخدرات في أميركا اللاتينية. 

لجأ الحزب إلى بدائل لنقل الأموال إلى لبنان بوسائل مختلفة، أو تمليك ممثلين للحزب مشاريع استثمارية وشركات واجهة، أو تخصيصه بعائداتها وغيرها من الوسائل

يعتبر الحرس الثوري الإيراني المصدر الرئيس لتمويل "حزب الله"، وكان يقدر في البداية بملايين عدة من الدولارات شهريا، ارتفع بعدها إلى مئات الملايين سنويا اثر إبرام الاتفاق النووي الإيراني. وتفاخر زعيمه السابق حسن نصر الله علنا بهذا التمويل، وهو أمر انتقده الكثيرون على أساس أن "من يعطي يأمر"، بحسب القول الفرنسي الماثور: (Qui Donne Ordonne). 

جدير بالذكر أن إيران مدرجة منذ عام 2007 على اللائحة السوداء لـ"مجموعة العمل المالي" (FATF)، وقد عملت حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني مع بدء المفاوضات النووية لتوقيع خطة العمل المشتركة في عام 2015، على تحسين علاقات بلاده بالمجموعة، متعهدة في عام 2016 بالامتثال لمعاييرها، مما دفع المجموعة إلى نقل إيران من "اللائحة السوداء" إلى "اللائحة الرمادية"، لكن تأخر مجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام في الموافقة على مشروعين في شأن انضمام طهران إلى اتفاقية مكافحة تمويل الإرهاب ومعاهدة مكافحة الجريمة المنظمة، فضلا عن تمسك طهران بعلاقتها مع "حزب الله" على أنه مقاومة وليس منظمة إرهابية، دفع المجموعة إلى إعادة إيران إلى اللائحة السوداء في فبراير/شباط 2020، مما يعني استحالة استخدام إيران النظام المالي العالمي لتحويل الأموال إلى "حزب الله".

.أ.ف.ب
إبراهيم أمين السيد، خلال مؤتمر صحافي يعلن بداية عمل "حزب الله" في بيروت، 13 مارس 1985.

 لذا لجأ الحزب إلى بدائل أخرى لنقل الأموال إلى لبنان بوسائل مختلفة، أو تمليك ممثلين للحزب مشاريع استثمارية وشركات واجهة، أو تخصيصه بعائداتها وغيرها من الوسائل. وكان هناك استبعاد لفكرة الحوالة أو استخدام العملات المشفرة في التحاويل كما فعلت "حماس" لفترة من الوقت، وذلك بعد نجاح إسرائيل في تتبع واختراق تحاويل التبرعات المرسلة إليها بالعملات المشفرة.

عائدات المخدرات وغسيل الأموال

أما المصدر المالي الثاني لـ"حزب الله"، فهو عائدات الممنوعات. فقد أثبتت تحقيقات عدة، تطوير الحزب لشبكة إجرامية متورطة في مجموعة من الأنشطة غير القانونية يتقدمها الإرهاب وتصنيع المخدرات وترويجها، خصوصا الكبتاغون والتزوير وغسيل الأموال.

وكان هناك تأثير بالغ للبيئة التي نشأ فيها الحزب على تعامله بالممنوعات، وظهر الأمر خصوصا بعد تصاعد الاقتتال في سوريا، وتوقف الجيش اللبناني عن دوريات مراقبة زراعتها، كما الممرات غير المشروعة، وحصل الأمر ضمن دائرة محلية فإقليمية فدولية، وتخطت عائدات تجارة المخدرات 40 في المئة من إيرادات الحزب، كما ذكر تقرير لصحيفة "تلغراف"، وزاد انغماس النظام المصرفي اللبناني بغسل أرباح هذه التجارة.

تعامل الحزب بتجارة المخدرات أكدته تحقيقات عالمية، في مقدمها العملية الأمنية الشهيرة المعروفة بـ"كاساندرا"، التي شاركت فيها أجهزة الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا، وكشفت "تورط الحزب في عمليات تهريب مخدرات ضخمة وتبييض للأموال من خلال هذه الدول"

وفي ما يتعلق بالمخدرات، تذكر مصادر "حزب الله" أن إسرائيل هي أول من أطلق تهمة تشريعه للمخدرات في اجتماع للجنة "الحرب على المخدرات" في الكنيست الإسرائيلي في 16 يونيو/حزيران 1997، ليتبناها الأميركيون ويعمموها. وقد رد نصر الله على ذلك بأنه محاولة لتشويه صورة المقاومة، وهو أمر نقضه الأمين العام الأسبق للحزب، صبحي الطفيلي، الذي أكد في حوار تلفزيوني أن الحزب يرعى نشاط المخدرات في لبنان كما تفعل قوى "محور الممانعة" في إيران والعراق وسوريا.  

وقد ذكر "إي. إيه. واين" في بحث له صدر في مجلة "كريستيان ساينس مونيتور" في مارس/آذار 1988، أن جميع المتقاتلين في لبنان لجأوا إلى إنتاج المخدرات وتسويقها، وأن مرجعا شيعيا أصدر فتوى شرّع فيها إنتاج الأفيون والهيروين لبيعه إلى "الأعداء" تحت شعار "إذا كنا غير قادرين على قتلهم بالسلاح فلنقتلهم بالمخدرات".

تحقيقات "كاساندرا" العابرة للدول

لكن تعامل الحزب بتجارة المخدرات أكدته تحقيقات عالمية، في مقدمها العملية الأمنية الشهيرة المعروفة بـ"كاساندرا"، التي شاركت فيها أجهزة الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا، وكشفت "تورط الحزب في عمليات تهريب مخدرات ضخمة وتبييض للأموال من خلال هذه الدول"، كما ذكرت تقارير "كاساندرا".

وخلصت تحقيقات أخرى إلى نجاح الحزب في إيجاد موطئ قدم لأنشطته الممنوعة في أفريقيا، كما في القارة الأميركية، خصوصا في فنزويلا وشبه جزيرة غواخيرا وجزيرة مارغريتا، وفي منطقتي البحر الكاريبي وتقاطع باراغواي والأرجنتين والبرازيل وفي بنما أيضا، حيث ثبت ارتباط الحزب بالمنظمة الشهيرة "واكد" (Waked) وبشركات تدور في فلكها منها "بالبوا بنك أند تراست" (Balboa Bank & Trust)، وشركتان أخريان للخدمات المالية. 

ويتهم "حزب الله" باستخدامه المشبوه لجمعية "مؤسسة القرض الحسن" التي تأسست كجمعية خيرية لتقديم القروض بالدولار الأميركي، في مقابل ضمانات من الذهب وفقا للمبادئ الإسلامية التي تحظر الفائدة، لكنها تحولت سريعا إلى غطاء لإدارة الأنشطة المالية للحزب ولوصوله إلى النظام المالي الدولي، مما دفع وزارة الخزانة الأميركية إلى فرض عقوبات عليها عام 2007، بعد تيقنها بأنها تنقل الأموال الملوثة بشكل غير مشروع من خلال حسابات وهمية ووسطاء، مما يعرض المؤسسات المالية المعنية لعقوبات.

ثمة المزيد من اللبنانيين ينظرون إلى "حزب الله" على أنه مافيا وليس فقط جماعة إرهابية، وهم لا يتهمونه حصرا بقضايا الفساد بل يرون أن جميع ساستهم الشيعة والسُنّة والمسيحيين والدروز هم في الحقيقة مجموعات مافيا همها تقاسم الغنائم

ميكائيل روبن، مؤرخ أميركي

في المقابل يدعي "حزب الله" أن مصادر تمويله الخاصة نظيفة وتأتي من محافظه الاستثمارية ومن التبرعات من أفراد ومؤسسات ورجال أعمال من داخل لبنان وخارجه، وحتى من الدولة اللبنانية. فعلى سبيل المثل، استقطب الحزب من أموال المساعدات العربية التي تلقتها الدولة، من خلال مشروع "وعد" التابع له. إذ كان على كل مواطن أن يقدم ما حصل عليه من الجهات الرسمية إلى النظام المالي للحزب ليتولى الأخير إعادة بناء ضاحية بيروت الجنوبية بعد حرب 2006.

على نقيض ذلك، يرى المؤرخ الأميركي ميكائيل روبن في مقال نشر في مجلة "الأمن القومي الأميركي" في تاريخ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024، أن المزيد من اللبنانيين ينظرون إلى "حزب الله" على أنه مافيا وليس فقط جماعة إرهابية، وهم لا يتهمونه حصرا بقضايا الفساد بل يرون "أن جميع ساستهم الشيعة والسُنّة والمسيحيين والدروز هم في الحقيقة مجموعات مافيا همها تقاسم الغنائم"، كما يقول روبن، لكن ما يميز "حزب الله" عن الآخرين، سطوته العسكرية التي مكنته من الحصول على منافع راجحة، منها إعفاءات ضريبية وتحصيل اقتطاعات مهمة من تخليص البضائع وتمرير الممنوعات في مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري والمعابر الحدودية، مما حمل منظمة الشفافية الدولية إلى تصنيف لبنان على أنه أكثر فسادا من روسيا ونيجيريا.

التصدي الأميركي والدولي لشبكة "حزب الله" المالية

على الصعيد العالمي، ظهر تعاضد دولي للتصدي ماليا لشبكة الحزب المنغمسة في قضايا الإرهاب والمخدرات والجريمة المنظمة والمتنامية عبر الحدود. وقد قادت الولايات المتحدة هذا التوجه.

.أ.ف.ب
سيدة من أنصار "حزب الله" تحمل العلم الإيراني وخلفها صورة رئيس المجلس التنفيذي لـ"حزب الله"، طهران، 24 أكتوبر 2024.

ففي 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، صدر القانون الأميركي، (Hizballah International Financing Prevention Act - HIFPA)، الذي منع التمويل الدولي لـ"حزب الله"، فحظر وفرض شروطا صارمة على فتح حساب مراسل أو حساب قابل للدفع في الولايات المتحدة، أو الاحتفاظ به، من قبل مؤسسة مالية أجنبية تسهل معاملات الحزب، أو أي شخص مدرج في قوائم محددة من المعينين العاملين نيابة عنه أو بتوجيه منه، وكل من انخرط في غسيل الأموال أو سهل أو قدم خدمة مالية كبرى من أجل ذلك.

وتطبق العقوبات المحددة بموجب قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية على انتهاكات هذا القانون وتحدد وزارة الخزانة كل 180 يوما، أي مصرف مركزي أجنبي يقوم بأي نشاط محظور.

سبق لمصرف لبنان أن واكب عملية تصفية مصرفين هما "البنك اللبناني الكندي" و"جمال تراست بنك"، وأشرف عليها، بعدما تبين أن الحزب استخدمهما لتبييض أموال ملوثة، ولتنفيذ عمليات أخرى لصالحه

ويطالب القانون الرئيس تقديم تقارير إلى الكونغرس عن النشاطات الإجرامية العابرة للحدود التي يقوم بها "حزب الله"، بما في ذلك الإتجار بالبشر، والجهود الحكومية المعتمدة على نطاق واسع لمكافحة أنشطة الحزب، والدول التي تدعمه ويقوم فيها الأخير بأنشطة كبيرة لجمع الأموال وغسيلها. كما يطالب القانون وزارة الخارجية الأميركية بأن تقدم من جهتها تقريرا سنويا إلى الكونغرس عن نتائج برنامج المكافآت التابع لها للحصول على معلومات عن أنشطة "حزب الله" في جمع الأموال وغسيلها. 

وسندا للقانون الأميركي (HIFPA)، تدخل مصرف لبنان بالتعميم الرقم 137 وطالب المصارف والمؤسسات المالية بتنفيذ ﻋﻤﻠﻴاتها بما يتناسب مع مضمون هذا القانون. وأوضح أن المطلوب تجميد أو إﻗﻔـﺎل أي حساب لديها يعود إلى أحد عملائها المعنيين بالقانون الأميركي، أو الامتناع ﻋــن التعامل أو ﻓﺘﺢ أي حساب له.

وكان سبق لمصرف لبنان أن واكب عملية تصفية مصرفين هما "البنك اللبناني الكندي" و"جمال تراست بنك"، وأشرف عليها، بعدما تبين أن الحزب استخدمهما لتبييض أموال ملوثة، ولتنفيذ عمليات أخرى لصالحه.

وقد انتقد البعض مبادرة مصرف لبنان على اعتبار أن ما يصدر من قوانين وأنظمة في الخارج لا يلزم لبنان، إلا إذا أبرمت بموجب معاهدات دولية ثنائية أو جماعية وصدّقت أصولا ونشرت في الجريدة الرسمية. وقد فات أصحاب هذا الرأي، الموقع المتميز للدولار في تكوين الاحتياطات الرسمية من العملات الأجنبية، وتسوية المدفوعات للدولة، مما يستدعي الاستجابة لتوجهات السلطة السياسية التي تصدره. ويلتزم مصرف لبنان كغيره من المصارف المركزية في العالم توصيات ومعايير مرجعيات نقدية ومصرفية عدة، في مقدمها معايير "بازل"، من دون أي معاهدة دولية ومن دون المشاركة في عضوية المرجعيات المذكورة.

التصدي لشبكة "حزب الله" المالية و"المسهلين الماليين"

وحددت تصنيفات أميركية إضافية أسماء لأفراد ورجال أعمال وميسرين ماليين كبار (Super Facilitators)، يسهلون للحزب غسيل الأموال أو الوصول إلى المصارف اللبنانية، وأيضا لكيانات عاملة في لبنان أو في الخارج أو متعاملة معه، في قوائم تصدرها وزارتا الخزانة والخارجية لتمنح المصارف الغطاء لحماية النظام المالي اللبناني. وكانت هناك متابعة لهذه التصنيفات والتعيينات لتعديلها في بيانات العقوبات متى كان ذلك مناسبا وضروريا، مما جعل التشريع أكثر فاعلية.

الجرائم المرتكبة من "حزب الله" متعددة الأشكال، فهي لم تعد تقتصر على تهريب الكوكايين أو الكبتاغون وغسيل الأموال، بل تتعداه إلى فعل أي شيء يمكن كسب المال منه

وعلى صعيد المتابعة، كان هناك تقييم مستمر من الجهات المالية الأميركية المعنية، لخطط التصدي لشبكة "حزب الله" المالية، وعقدت اجتماعات وجلسات استماع عدة في الكونغرس لمناقشة الفجوات، وخلصت إلى توصيات عدة أهمها ضرورة تعزبز التعاون لتشكيل قوة عمل مشتركة وقيادة استراتيجية موحدة، لأن الجرائم المرتكبة متعددة الأشكال، فهي لم تعد تقتصر على تهريب الكوكايين أو الكبتاغون وغسيل الأموال، بل تتعداه إلى فعل أي شيء يمكن كسب المال منه. كما أن الشبكات القائمة باتت تعمل بتعاون وثيق بين المركز الرئيس في إيران والوكلاء في العراق وسوريا ولبنان وباكستان وأفغانستان ودول الخليج وأفريقيا وأوروبا والأميركيتين.  

دور إدارة أوباما السلبي

على الصعيد الدولي، عززت الاجتماعات المشتركة، مثل "المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب"، ودعم التنسيق بين وكالات إنفاذ القانون في كل أنحاء العالم ومجتمع الاستخبارات، للعمل على أفضل الممارسات لمكافحة النشاطات غير المشروعة وشبكات تمويلها. فالعلاقة بين المخدرات والإرهاب والجريمة باتت وثيقة للغاية وأصبح التنسيق مهماً وضروريا للتصدي لها.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي الأسبق بارك أوباما، خلال مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، واشنطن 3 فبراير 2009.

وظهرت في الاجتماعات إشكالات عدة، فالاتحاد الأوروبي يميز بين الجناحين العسكري والسياسي للحزب، وحجته أنه لا يجوز إلقاء الحظر على كيان له نواب منتخبون بشكل قانوني في لبنان، بعكس موقف الولايات المتحدة وكندا ودول أخرى.

كان هناك أيضا توقف عند التدخل السياسي في الأمور، كما حصل عندما تدخلت إدارة الرئيس أوباما في جهود إنفاذ القانون بدافع الخوف من التأثير سلبا على صفقة الاتفاق النووي التي عمل أوباما على إبرامها مع إيران.

وفي هذا يقول الدكتور ديفيد أولبرايت، مفتش الأسلحة السابق في الأمم المتحدة، إن إدارة أوباما قلصت التحقيقات والملاحقات لتفكيك "حزب الله"، فمنعت أو قطعت عنه التمويل، على أساس أن ذلك يهدد بعرقلة أجندة سياستها التي تركز على إيران. وكان رأيه أنه يتعين القيام بكلا الأمرين وليس إما هذا الأمر أو ذاك. وقد رد عليه بأن لا معاهدة مع خصم كانت شاملة في التاريخ. فأول معاهدة لحظر التجارب النووية التي أجراها الرئيس جون كينيدي مع نيكيتا خروشوف لم تتعرض للسلوكيات السوفياتية الأخرى. ووصلت الأمور في تعديل الأولويات إلى دعوة مدير وكالة الاستخبارات المركزية، جون برينان، إلى "استيعاب أكبر لـ"حزب الله" في النظام السياسي اللبناني"، بدلا من توجيه الاتهام اليه كمشروع، أثبتت تحقيقات "كاسندرا" بأنه "منظمة إجرامية دولية بارزة".

طلب الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان من الحرس الثوري ومكتب المرشد، إعادة النظر في الدعم المالي للميليشيات، الأذرع في العراق واليمن وسوريا ولبنان وغزة، لأن هذا الأمر يثقل كاهل الاقتصاد المتدهور أصلا

كذلك، هناك حذر من أخطار استخدام العقوبات الاقتصادية، إذ أثير خوف من أن يؤدي استهداف "البنك اللبناني الكندي"، بعدما تبين أنه في قلب تمويل "حزب الله"، ويفوق حجم عملياته خمسة مليارات دولار، وإغلاق الحسابات المصرفية لأعضاء الحزب والشركات التابعة له، إلى انهيار القطاع المصرفي، لكن شيئا من هذا لم يحدث ولم يكن هناك أي رد فعل انتقامي باستثناء تفجير قنبلة عند البوابة الخلفية لأحد أكبر المصارف في لبنان، في تهديد واضح للقطاع، وتبين لاحقا أن العقوبات ليست تقويضا للاقتصاد اللبناني، بل لحمايته من الانغماس في غسيل الأموال التي تورط فيها "حزب الله" بشكل عميق.

تصدع خطير في "الميدان المالي"

لطالما رددت قيادة "حزب الله" أن الكلمة النهائية في القتال هي لـ"الميدان"، في إشارة منها إلى أن الانتصار النهائي في الميدان العسكري، هو بالتأكيد للحزب، على أساس أن المقاومة تفوز إذا لم تخسر بحسب هنري كيسينجر، وهي لن تخسر لأن الصمود عندها عقيدة وواجب، والشهادة اصطفاء وارتقاء. بيد أن تتبع الأمور على الأرض يشير إلى بدء معاناة الحزب من ضمور ثلاثة من مصادره الرئيسة للنقد، وقد بدأت تضغط سلبا على التزاماته تجاه بيئته، مما سينعكس تقلصا في مكانته لديها. 

فالرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان طلب أخيرا من الحرس الثوري ومكتب المرشد، إعادة النظر في الدعم المالي للميليشيات، الأذرع في العراق واليمن وسوريا ولبنان وغزة، لأن هذا الأمر يثقل كاهل الاقتصاد المتدهور أصلا في ظل العقوبات الدولية.

.أ.ف.ب
نموذج للدمار في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، 27 نوفمبر 2024

ولاحقا  أعلن "فيلق القدس" الإيراني فتح حساب مصرفي وطلب من المواطنين الإيرانيين تقديم مساعدات نقدية لقوات "حزب الله" في لبنان، في توجه غير مسبوق، حيث كان الفيلق يمد "حزب الله" بالمال من موازنته الخاصة، والنتائج محبطة مع التضخم السائد واعتراض الكثيرين على الإنفاق على الأذرع الخارجية. 

وهدد الإسرائيليون باستهداف الرحلات الجوية الإيرانية المتجهة إلى بيروت، التي تحمل الأموال وليس الأسلحة فقط. كما استهدفوا مسؤولين عن وحدة تحويل الأموال إلى "حزب الله" في دمشق وضاحية بيروت الجنوبية. وذكر ديفيد آشر، المسؤول السابق في وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين، أن هناك خوفا لدى مصرفيين في لبنان وممولين للحزب من أن تستهدفهم إسرائيل، فيما لو قرروا الاستمرار بمساعدة الحزب. من هنا تشددهم في الحؤول دون الوصول إلى خدماتهم المصرفية والمالية.

تمدد الحزب سابقا بفضل المال الوفير الذي تأمن له وأغدق منه على بيئته. لكن الأمور تغيرت اليوم، فالتحويلات النقدية من إيران ومن المتبرعين ضمرت، وعائدات مصانع المخدرات تقلصت، وتسهيلات المصارف جفت

كذلك استهدفت إسرائيل مراكز "مؤسسة القرض الحسن"، فدمرت معظمها وضربت مراكز تخزين النقد والذهب، في حين أن الهدف يتعدى ذلك إلى القضاء على "القرض الحسن" كفكرة ومؤسسة تعزز روابط الحزب ببيئته بعد الانهيار المصرفي في لبنان. فأتت الأحداث العسكرية لتقضي على الثقة والأمل بهذه المؤسسة. 

تمدد الحزب سابقا بفضل المال الوفير الذي تأمن له وأغدق منه على بيئته. لكن الأمور تغيرت اليوم، فالتحويلات النقدية من إيران ومن المتبرعين ضمرت، وعائدات مصانع المخدرات تقلصت، وتسهيلات المصارف جفت، وفروع "القرض الحسن" تحولت من مورد إمداد إلى مصدر التزامات مرهق بردّ ما فقد خلال الحرب من أموال العملاء وضماناتهم الذهبية. فالإخلال بهذه الالتزامات وبغيرها، خصوصا تلك المتعلقة بالرواتب والأجور واحتياجات المؤسسات الصحية والاجتماعية والتعليمية، ينذر بردود فعل سلبية من بيئة الحزب.

فهل يقوى على الاستمرار في حربه بسيف غير فضي، ناقضا القول المأثور للفيلسوف ديدييه ايراسم: "طالما أن سيفك الذي تقاتل به من فضة فأنت منتصر على الدوام"؟

font change

مقالات ذات صلة