زيارة ماكرون إلى السعودية... لحظة فارقة في مسار الشراكة

توصف الزيارة بـ"الاستثنائية"

واس
واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الرياض

زيارة ماكرون إلى السعودية... لحظة فارقة في مسار الشراكة

حسب أوساط قصر الإليزيه، تمثل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية (من 2 إلى 4 ديسمبر/كانون الأول) محطة استثنائية في مسار العلاقات الفرنسية- السعودية. وبالفعل تعكس طبيعة هذه الزيارة (زيارة الدولة هي الأهم في التسلسل الهرمي البروتوكولي) نوعية العلاقات القائمة بين الطرفين، ولا سيما العلاقات الوثيقة بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

من خلال زيارة بلد ديناميكي واعد، وقوة إقليمية رئيسة في منطقة مضطربة، أراد رئيس الدولة الفرنسية الحفاظ على موقع فرنسا ومصالحها، عبر تمتين الصلات مع المملكة اللاعب الحيوي والمركزي في إقليم محوري لجهة التحولات الجيوسياسية والصراعات الدولية.

تحمل هذه الزيارة في توقيتها ومضمونها دلالات استراتيجية، ويعول الجانبان عليها من أجل بحث الأزمات المعقدة والتحديات المطروحة على الساحتين الإقليمية والدولية. وتؤكد هذه المناسبة في الوقت ذاته على أن الرياض أصبحت مقصداً للشركاء الدوليين ومركزاً عالمياً للاستثمار والثقافة والسياحة والابتكار. لذا أبدت فرنسا استعدادها لتطوير الشراكة الثنائية كي تتقاطع مع أهداف "رؤية 2030” التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

على الصعيد السياسي برز واضحاً أن مباحثات الطرفين تدفع للإسهام المشترك في صياغة السياسات الدولية والاقتصاد العالمي. وسيكون المحك تطوير مبادرات دبلوماسية ووضع أسس لتفاهمات مشتركة واستثمارات تعزز الشراكة الاستراتيجية التاريخية المتواصلة منذ ستة عقود. ويشير برنامج العمل وتنوع الملفات إلى آفاق مبشرة لعلاقات أكثر تميزا.

أبعاد زيارة الدولة ورهاناتها

وبينما تتميز المملكة العربية السعودية باستقرارها السياسي ودورها الريادي، تعاني فرنسا من مخاطر عدم الاستقرار السياسي منذ انتخابات الصيف الماضي وعدم وجود أكثرية نيابية موالية للرئيس. لذا يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون ليكون نشاطه الدبلوماسي فرصة للتخفيف من آثار الأزمات السياسية وأزمات الميزانية في الداخل التي يمكن أن تسقط حكومة ميشال بارنييه وتعيق النفوذ الفرنسي على المستوى الدولي. ومن الطبيعي أن تتعامل المملكة العربية السعودية مع الجمهورية الفرنسية بمثابة شريك اختبرت العلاقة معه منذ سبعينات القرن الماضي وضمن سياسة تنوع الشركاء.

ومن جهته، يعتمد إيمانويل ماكرون على تجربة العمل مع المملكة، ودوره الأخير في التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان ومبادرات فرنسا الدبلوماسية لتعزيز أواصر الثقة بين البلدين ومعالجة الأزمات التي تهز المنطقة. كما أن هذه الزيارة التي تحل في سياق عالمي مضطرب، قبل أسابيع قليلة من عودة دونالد ترمب إلى الرئاسة الأميركية، توفر فرصة لتحديد معالم علاقة خاصة ومتعددة الأبعاد بين الرياض وباريس.

وتوصف زيارة ماكرون الثالثة إلى السعودية منذ تنصيبه في الإليزيه، بـ"الاستثنائية" بسبب سياقها وموضوعاتها. وهي مختلفة عن زيارته الثانية في عام 2021 بسبب التحولات الداخلية الكبيرة في المملكة وتفاقم الاضطرابات الإقليمية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وستتيح الرغبة في تعزيز "العلاقات الاستراتيجية" بـ"إظهار طموح مشترك ومتجدد" للسنوات العشر المقبلة، والذي سيرتكز على خطة عمل مشتركة وفق التحول الاقتصادي والانفتاح الثقافي. وتعتزم فرنسا، بهذه المناسبة، أن تؤكد دعمها ومساهمتها في هذه العملية.

حسب سفير فرنسي سابق في المنطقة، سيحاول ماكرون إقناع المملكة بمزيد من الانخراط في الملف اللبناني إلى جانب فرنسا

وسيركز التنسيق الثنائي على مجموعة من المشاريع والفعاليات التي تنظمها السعودية مثل معرض "إكسبو الدولي 2030"، أو "الألعاب الأولمبية الشتوية" او "كأس العالم في كرة القدم" في 2034، ما يتيح للبلدين العمل والاستثمار معا في هذا المجال.

وتأمل باريس أن تؤكد مساهمتها في تعزيز مكانة فرنسا كشريك رئيس وموثوق للمملكة العربية السعودية وفي رؤيتها لتطوير تنويع اقتصادها وطموحاتها الثقافية والسياحية.

وترى باريس أن تجربة منطقة العلا التاريخية، والتي تساهم فيها فرنسا، "يمكن أن تكون مثالاً على ما يمكن للطرفين القيام به".

واس
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ووزير أوروبا والشؤون الخارجية في الحكومة الفرنسية جان نويل بارو بعد توقيع مذكرة تفاهم بشأن تشكيل مجلس الشراكة الاستراتيجي

الملفات السياسية وخصوصية لبنان

يوفر الوضع الدولي المتوتر والأزمات الإقليمية فرصة لكلا الجانبين لإطلاق مبادرات السلام والأمن في المنطقة وخارجها، وكذلك العمل على مواجهة التحديات العالمية. وستتركز المباحثات على القضايا الساخنة، مثل الأوضاع في غزة ولبنان واليمن وسوريا، إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بالتصعيد في المنطقة، بالإضافة إلى الملف النووي الإيراني ودور طهران.

حيال حرب غزة، تقدر باريس المساهمات التي قدمتها الرياض في إطار جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، ومبادرتها لتشكيل "التحالف الدولي لإقامة الدولة الفلسطينية وحل الدولتين"... وستتيح المحادثات تنسيق الجهود الفرنسية والسعودية للتوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة والبدء في إطلاق سراح الرهائن وحماية المدنيين، وفي نهاية المطاف، الخروج من الحرب بحل سياسي. وبحسب باريس فإن وقف إطلاق النار في لبنان قد تكون له تداعيات على وقف إطلاق النار في غزة.

واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الرياض

ومن دون شك، ركز الطرفان على لبنان نظراً لدور فرنسا التاريخي فيه، ولحرص المملكة العربية السعودية قبل توقيع اتفاق الطائف وبعده على بناء أقوى العلاقات الأخوية معه. وستكون الأولوية لانتخاب رئيس للجمهورية من أجل ملء الفراغ على رأس الدولة اللبنانية وتشكيل الحكومة. مع العلم أن البلدين يتحركان في إطار اللجنة الخماسية (مع الولايات المتحدة ومصر وقطر) للخروج من الأزمة الدستورية.

بشكل أدق، سيتعزز التعاون المشترك على تعزيز وقف إطلاق النار، وضرورة دعم الجيش اللبناني والاهتمام بعملية إعادة الإعمار في فترة لاحقة.

وحسب سفير فرنسي سابق في المنطقة، سيحاول ماكرون إقناع المملكة بمزيد من الانخراط في الملف اللبناني إلى جانب فرنسا.  ويستدرك هذا الدبلوماسي بالقول إن وجهات نظر باريس والرياض ليست متطابقة. ومع ذلك، تأمل باريس المضي قدماً مع السعودية في جوانب معينة من الملف اللبناني، ولا سيما في الملف الرئاسي أملاً في وصول مرشح قادر على مواجهة تحدي هذه الحقبة.

على صعيد الاستثمارات، شهدت الشركات الفرنسية في المملكة زيادة ملحوظة، إذ ارتفع عددها من 259 شركة في عام 2019 إلى 336 شركة بحلول 2022، مدفوعة برؤية المملكة 2030

وعلى مستوى أشمل، سيتطرق اللقاء بين ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي على "الاستقرار الإقليمي"، وبهذا المعنى، فإن رسائل باريس المشفرة الموجهة إلى طهران تدور حول "ضرورة التوقف عن دعم الأطراف التي تدعمها وتساهم في زعزعة استقرار المنطقة". وعلى نحو مماثل، فإن المواقف الحازمة الأخيرة للترويكا الأوروبية في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني تثبت تمسك باريس بالأمن الإقليمي وأمن أسواق وممرات الطاقة انطلاقاً من هذه المنطقة الحساسة والحيوية.

الصلات المتنوعة والمشاريع المستقبلية

أسهمت المناقشات بين الجانبين على تعميق "التعاون في المجالات الاستراتيجية"، بما في ذلك الدفاع والأمن وانتقال الطاقة، والاتصالات، والثقافة، والسياحة.

وتطورت العلاقات الاقتصادية بين فرنسا (الاقتصاد السابع عالميا والمركز المالي الأهم في أوروبا)، والمملكة العربية السعودية (الاقتصاد السادس عشر عالمياً والدولة الأساسية في إنتاج الطاقة وتنظيم سوقها). وفى عام 2023 تخطى حجم التبادل التجاري بين البلدين 10 مليارات دولار، ليصل نصيب صادرات المملكة العربية السعودية نحو 6.3 مليار دولار، بينما استوردت منتجات فرنسية بقيمة 4.4 مليار دولار.

وعلى صعيد الاستثمارات، شهدت الشركات الفرنسية في المملكة زيادة ملحوظة، إذ ارتفع عددها من 259 شركة في عام 2019 إلى 336 شركة بحلول 2022، مدفوعة برؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في مجالات المدن الذكية، والطاقة المتجددة، وإعادة التدوير.

ويمثل قطاع الطاقة ركيزة أساسية في العلاقات السعودية-الفرنسية، حيث تعد الشراكة بين "أرامكو" السعودية و"توتال إنرجي" الفرنسية، مثالًا بارزا على التكامل بين الخبرة التقنية الفرنسية والإمكانات السعودية. أما في قطاع الدفاع، فيكشف مصدر فرنسي أنه ليس هناك من تحضيرات لتوقيع عقود كبرى في مجال التسليح، رغم الحضور القوي لكبار المسؤولين من هذا القطاع ضمن الوفد الفرنسي من المعنيين بملفات مقاتلات "رافال" وأقمار المراقبة وطائرات النقل العسكري. لكن مصدرا من قطاع صناعة الأسلحة يكشف عن فرصة محتملة لـ"رافال" في السعودية بفضل الفيتو الألماني بشأن تصدير طائرات "يوروفايتر-تايفون" المصنعة من قبل "كونسورتيوم يوروفايتر".

ولن تقتصر التبادلات على هذه القطاعات، بحسب مصدر من الإليزيه، الذي أوضح: "ستركز المناقشات أيضًا على مجالات الاستثمار المستقبلي، مثل التكنولوجيا المالية والسيبرانية والذكاء الاصطناعي، فيما ستنظم فرنسا قمة العمل من أجل الذكاء الاصطناعي في فبراير/شباط المقبل"

يثبت جدول الأعمال المزدحم ومستوى الثقة أهمية هذه الزيارة في هذه اللحظة لكلا الشريكين.

font change

مقالات ذات صلة