ما إن بدأ سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل عند الرابعة فجر الأربعاء بتوقيت بيروت، حتى تدفقت جموع النازحين على الطرقات الرئيسة باتجاه الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب، مستعجلين لتفقد بيوتهم وأرزاقهم.
وانقسم العائدون إلى فئتين: فئة اختارت العودة الفورية بغض النظر عن الدمار والأخطار، وأكثرهم ممن لجأ إلى مراكز الإيواء، وفئة فضلت التريث، وأغلبهم أهالي قرى الحافة الأمامية في الجنوب.
العودة إلى البقاع والضاحية كانت مسهلة، أما نحو الجنوب فالوضع كان مغايرا، حيث لم يتمكن كثيرون من الوصول إلى قراهم التي لا تزال محتلة، بعدما منع الجيش الإسرائيلي الدخول أو التجول في نحو 71 قرية، وربط العودة إليها بهدنة الستين يوما المذكورة في نص الاتفاق.
أول مشهد يطالعك في المناطق المدمرة، هو مشهد الجرافات التي تعمل على فتح الطرقات، ويصدمك مشهد الأهالي الذين يبحثون عن مفقودين ما زالوا تحت الركام، وآخرين يجهزون للجنازات، لا وقت لديهم إلا للبكاء ولعدّ الخسارات، أما القرى فتحولت إلى مساحات واسعة من الخراب.
صور
عند وصولنا إلى صور، كانت الجرافات تتقدم العائدين، وتعمل على فتح الطرق الرئيسة، الشوارع تشهد زحمة سير وفوضى كبقية المدن التي تستقبل أهلها، المحلات والدكاكين والمؤسسات كلها مغلقة، خدمات الكهرباء والمياه والإنترنت غير متوفرة، العائدون انتشروا في الأحياء يحاولون رفع الركام والحجارة، وإنقاذ ما تيسر من بقايا منازلهم وإخراج الحاجيات الأساسية منها، ثم العودة إلى نزوحهم، قلة من قرروا البقاء.
لا يوجد مبنى في صور لم يتضرر، هناك مربعات سكنية سويت بالأرض وما نسبته 60 في المئة من مباني المدينة لحقه الضرر، البلدية تسرع في تصليح الأعطال الخدماتية وإزالة الركام، ولكنها بحاجة إلى تعاون، التحدي أكبر من قدراتها البشرية والمادية.
لا أحد استطاع حبس دموعه، العائدون ابتعدوا عن الكلام السياسي وحديث النصر والهزيمة، وانصرفوا إلى لململة أشلاء مدينتهم
على الميناء، المراكب راسية منذ بداية الحرب، والصيادون ممنوعون من الإبحار، فصور منطقة حدودية، والعدو ما زال يضع قيودا على حركة القوارب، والجيش اللبناني لم يعط إشارة العودة إلى البحر بعد، حفاظا على حياة الصيادين.
البقاع
في بعلبك يتكرر المشهد، حيث انطلقت قوافل العائدين فور إعلان وقف إطلاق النار، وبدأت على الفور عملية فتح الطرقات، وباشر أصحاب المباني والمحال بإزالة الردم والركام، البلدات البقاعية عبارة عن معرض صور للقتلى الذين سقطوا في الحرب، وهي تتحضر للمزيد، بعدما ارتفعت أعداد القتلى إثر توسيع الحرب في الشهرين الأخيرين، حيث كانت مناطق البقاع تشهد مجازر يومية.
صدمة العودة كانت كبيرة، خصوصا في بعلبك التي فقدت منشيتها (حديقتها) العثمانية وتهدم جزء من فندقها الشهير "بالميرا" الذي كان يستضيف فيروز وفنانين أيام مهرجانات بعلبك، مشهد الدمار كان مؤلما، لكن الإحساس بـ"النصر" يهون الكارثة، كما أخبرني أحدهم.
تجربة نزوح أهالي محافظة بعلبك- الهرمل إلى قضاء دير الأحمر، كانت فرصة للتعارف والانفتاح على الآخر، كما وصف أحد الأهالي، وقال: "كانت علاقتنا بأهل دير الأحمر قمة في التوتر، بسبب الخلاف السياسي والاختلاف الديني لكن للحرب حسناتها أيضا، فقد كسرت الحواجز التي بيننا وعرفتنا على بعضنا بعضا، كذللك مع أهل عرسال الطيبين".
في البقاع أيضا باشرت البلديات بعملها المتواضع من جرف وإزالة الركام، وإحصاء البيوت المهدمة والمتضررة وإصلاح الأعطال الطفيفة، وهناك مبادرات أهلية لتأمين الحاجات الأساسية للنازحين خصوصا المازوت، والمساكن المؤقتة، وإصلاح المنازل القابلة للسكن.
النبطية
إلى النبطية، المدينة التي فقدت ملامحها بالكامل. للمرة الأولى على مدار الحروب الإسرائيلية، تُمنى النبطية بهذا الحجم من الدمار، في السوق التراثية، ساحة التسوق التي يناهز عمرها 400 سنة والمحلات على جانبيها التي يتجاوز عمرها 200 سنة، انمسحت عن وجه الأرض، كل العائدين نزلوا هناك بداية، أخذوا يطوفون في الشوارع كمن يقيم طقسا مقدسا، لا أحد استطاع حبس دموعه، العائدون ابتعدوا عن الكلام السياسي وحديث النصر والهزيمة، وانصرفوا إلى لململة أشلاء مدينتهم. فالمدينة كلها على الأرض، وبحسب الإحصاءات الأولية خسرت النبطية 75 في المئة من بيوتها، عدا خراب البنى التحيتة بالكامل، الجرافات فتحت منافذ في شوارع السوق لتمر السيارات، لكنها لا تزال تعمل على فتح مداخل الأحياء. الدخول إلى حي السراي المدمر لأتفقد بيتي، كان شاقا بالأخص عاطفيا.
وعدا إبادة السوق التراثية والبيوت، تعمد الجيش الإسرائيلي إبادة شخصية المدينة، التي شكلت على مر الأزمان نقطة لقاء وتجمع لسكان الجنوب كله، فدمر سراياها وإداراتها العامة وعياداتها ومطاعمها ومصارفها ومؤسساتها التجارية، خسارات النبطية، في العمران لا تعوض. فقدت بيوتا كانت شواهد على حقبات سياسية واجتماعية وثقافية كونت هويتها وجعلتها "حاضرة جبل عامل"، مثل منزل النائب محمد بيك الفضل أحد الموقعين عل علم الاستقلال، مبنى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وغيرها، وفقدت أيضا 120 شخصا من سكانها ما زالت جثث بعضهم تحت الأنقاض.
الضاحية
مداخل الضاحية بدورها، شهدت زحمة سير بسبب مواكب العائدين، السيارات ترفع أعلام "حزب الله" الصفراء، وصور الأمين العام السابق حسن نصرالله وخليفته هاشم صفي الدين، وتجوب الشوارع احتفالاً بـ"النصر الإلهي المؤزر".
النصر حديث الناس في الضاحية، بغض النظر عن هول الكارثة، يتعمدون الوقوف أمام الكاميرات والاقتراب من الصحافيين، يرددون عبارات النصر ووعود إزالة إسرائيل وتحرير القدس، ويرفعون شارات النصر، ويهتفون لنصرالله وخامنئي.
وبعيدا عن أعين الفضوليين والكاميرات، يتجول الناس، كمن يأكل الطير من رأسه، يحصون الدمار، ويحاولون الاقتراب من منازلهم لإنقاذ أي غرض منها، يلتقون بجيرانهم، يتعانقون ويغرقون في البكاء والعويل. الكارثة تفوق الاستيعاب، فقدان الأبناء وفقدان الأرزاق وثقل النزوح وعبء أيامه المقبلة قبل انطلاق قطار إعادة الإعمار.
على ركام المباني ترتفع رايات "حزب الله"، بعض المباني ترفع صورا لنصرالله، فيمر من قربها عابرون يسلمون عليه، ويخبرونه أنهم "انتصروا كما وعدهم"، ويكملون طريقهم بين الدمار.
ليل الأحد تجمع مناصرو "حزب الله" في المكان الذي اغتيل فيه نصرالله في حارة حريك، وأقاموا احتفالا تأبينيا أطلقوا عليه "نور من نور"، تضمن إضاءة بالليزر والشموع سطعت فوق الدمار العظيم في ليل الضاحية الكئيب.
قرى جنوب النهر
سكان قرى الحافة الأمامية لم يتمكنوا من العودة إلى ركام قراهم، كما دعاهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، وتشمل الحافة الأمامية شريطا متناثرا من القرى يمتد من الناقورة حتى شبعا بطول 120 كيلومترا وعمق 5 إلى 7 كيلومترات، قرابة 37 قرية منها انمسحت كليا عن الخارطة، بعدما عمد الجيش الإسرائيلي في الشهرين الأخيرين إلى تفخيخ بيوتها وتفجيرها وبث ذلك على الهواء مباشرة.
سكان قرى الحافة الأمامية لم يتمكنوا من العودة إلى ركام قراهم، كما دعاهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، وتشمل الحافة الأمامية شريطا متناثرا من القرى يمتد من الناقورة حتى شبعا بطول 120 كيلومترا وعمق 5 إلى 7 كيلومترات
قرى الحافة الأمامية هي من ضمن 71 قرية ممنوعة على أهلها، تقع كلها في منطقة جنوب النهر ما عدا اثنتين في شماله، هما: يحمر وأرنون في جوار النبطية. وبهذا التقدير سوف يبقى أكثر من 120 ألف مواطن بحكم النازحين، عدد كبير منهم كانوا قبل توسّع الحرب يقيمون في منطقة شمال النهر، مدينة النبطية وحدها استوعبت أكثر من 13 ألف نازح، لكن المشكلة اليوم في عدم قدرة منطقة شمال النهر على استيعاب النزوح، بسبب دمار العدد الأكبر من منازلها، لذلك عاد النازحون أدراجهم نحو بيروت وطرابلس وعكار وجبل لبنان.
قرى جنوب النهر ممنوعة على أهلها في الوقت الحالي، بسبب عدم التزام العدو بوقف إطلاق النار، وقد قسمها إلى منطقتين، منطقة محتلة مدمرة وفارغة، ومنطقة مدمرة أيضاً وتخضع لحظر تجوال يومي من الخامسة مساء حتى السابعة صباحا.
ملاحظات
كثيرون طلوا على بيوتهم وأرزاقهم فوجدوها عبارة عن حجارة مبعثرة وركام، وآخرون طلوا حيث سمح لهم الناطق باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي، زحمة العائدين إلى أماكن النزوح، كانت أقسى من زحمة العائدين منها.
حجم الدمار اليوم، يفوق بما لا يقاس حجم الدمار في حرب 2006، الجهات الرسمية كلها غائبة عن المشهد، ووعود إعادة الإعمار ما زالت عبارة عن بيانات رسمية، ورسائل صوتية عبر "واتساب" ترد من جهات حزبية، التعويضات الموعودة تشغل بال الناس وتلهيهم قليلا عن الكارثة، حتى بيئة "الحزب" تبدو غير مطمئنة، يقولون إن حجم الدمار يفوق قدرة إيران على التعويض، في 2006 بعد العودة مباشرة، كان مشروع "وعد" لإعادة إعمار الضاحية جاهزا أيضا، وباشرت "الهيئة الإيرانية لإعادة إعمار ما هدمته حرب تموز" بقيادة الجنرال في الحرس الثوري حسن شاطري المعروف باسمه المستعار حسام خوس نويس، بتسيير الجرافات لرفع ردم الضاحية ونقله إلى شاطئ كوستا برافا، وإعادة إعمارها "أجمل مما كانت".
حتى الآن لا توجد أرقام نهائية رسمية بخصوص البيوت المهدمة التقديرات تقول إن عدد الوحدات السكنية التي تدمرت كليا أو جزئيا بحسب "الدولية للمعلومات" نحو 220 ألفا.
أعداد القتلى بحسب إحصاءات وزارة الصحة يقارب 4 آلاف قتيل والجرحى نحو 16 ألفا، إضافة إلى 8 قتلى سقطوا وهم يحاولون التسلل إلى قراهم الممنوعة بعد وقف إطلاق النار، لكن هذه الأرقام لا تشمل قتلى "حزب الله"، القرى بانتظار كارثة ما زالت تحت الرماد أو الدمار، آلاف "المقاتلين" الذين لم يعودوا بعد ولم يعرف مصيرهم بعد، وغالبيتهم في عداد المفقودين.