كانت إقامتنا - أنا وزوجتي- خلال الشهر الذي سبق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله"، في مدينة فيلادلفيا الأميركية. هذه المدينة لها من المزايا ما يجعلها فريدة بين المدن الكثيرة التي كان لي أن أزورها سابقا في الولايات المتحدة. فهي مدينة لها في وسطها طابع أوروبي حديث، فيه الكثير من الحيوية وأحيانا من الزحام. أما في ما يحيط بهذا الوسط، فهي مخططة تخطيطا دقيقا، على غرار المدن الأميركية الكبرى. لا يمكنك إلا أن تُعجَب بشوارعها المحفوفة بالأشجار، وبأرصفتها المكسوة بورق الشجر، وبحدائقها العامة التي تجعل من الضواحي متنزها كبيرا. وأكثر ما يلفت النظر بيوتها العريقة ذات الطابع الإنكليزي القديم، التي يرتاح بصرك إلى طرازها بألوانه الجميلة المتنوعة.
فيلادلفيا من أقدم المدن الأميركية، تأسست عام 1682. واسمها كلمة يونانية تعني "الحب الأخوي". وفيلادلفيا اسم أطلق على أمكنة عديدة في الشرق الأوسط. منها عمان عاصمة الأردن، التي كان اسمها القديم "ربة عمون" عندما كانت عاصمة العمونيين، وذلك قبل أن تقع تحت السيطرة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد غير اليونانيون اسمها إلى فيلادلفيا. ومن الأمكنة التي تحمل الاسم نفسه محور فيلادلفيا، الشريط الحدودي بين قطاع غزة ومصر.
إذن، شهر من الإقامة في فيلادلفيا (نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، حاولت خلاله أن آلَفَ هذه المدينة. وقد ألِفتها فعلا. ورحت أشعر يوما بعد يوم بأن كل شيء فيها قريب، ويمكن أن يصبح أكثر قربا. ليست موحشة كغيرها من المدن الكبيرة. والضواحي ليست مجرد امتدادات أو هوامش، بل أُرجّح أنها أصل المدينة، حيث الأبنية التي أقامها السكان الأوائل. ومن البيوت القديمة البيت الذي سكنّا فيه. وهو لسيدة عربية هي صديقة لابنتي التي تقيم في فيلادلفيا وتعمل أستاذة في جامعتها. يتألف هذا البيت من ثلاثة طوابق، وعمره يزيد على مئة وخمسين عاما. وقد ملكته صاحبته منذ ستة وعشرين عاما. هو بيت ذو طابع إنكليزي، جميل واضح العراقة، بألوانه ونوافذه وسلالمه وحديقته. وقد خُصص الجزء الأسفل من هذا البيت لإقامتنا، أنا وزوجتي. وهو جزء مريح وواسع ومفتوح على الحديقة.
في فيلادلفيا تعيش البيوت طويلا، وكلما تقادم بها الزمن، ازدادت عراقتها ورونقها حيال الأبنية الحديثة الشاهقة. أما عندنا، فغالبا ما تكون أعمار البيوت قصيرة، بسبب الحروب التي تتوالى على أرضنا
راق لي التنزه كل يوم مرة أو مرتين، في المنطقة المحيطة بمسكننا. وقد ساعدني في ذلك طقس جميل طيلة هذا الشهر من شهور السنة. فالطقس لم يكن باردا إلا على نحو منعش. والسماء لم تمطر سوى مرة واحدة، وكان رذاذها لطيف ومنعش أيضا. كنت أخرج وأمشي في أي اتجاه، في كل اتجاه، فأشعر بالأشجار الباسقة الرشيقة تحنو عليّ، وببُقع الشمس تدنو مني، وبلسعة البرد المنعشة تدغدغني برفق. وفي كل مرة كان الطريق يقودني، دون أن أشعر، إلى حديقة عامة تتطاول فيها الأشجار على نحو مدروس، وكأن ذراها تتعانق في الأعالي. وتشتبك الظلال في ممراتها على نحو مدروس أيضا، فتترك لبقع الشمس أن تتلألأ على نحو راقص. لا أدري لماذا أعادت لي هذه النزهات اليومية نفحات من الطبيعة الأثيرة لديّ، في قريتي في جبل عامل (لبنان الجنوبي).
في كل مرة أخرج للتنزه، أعود بفكرة أو بموضوع للكتابة. أعود بمشاعر متضاربة. أجدني أحيانا، وأنا أتأمل في البيوت الجميلة المتقدمة كثيرا في العمر، المرتدية ثيابا من الأشجار الباسقة المعمرة هي الأخرى، أجدني أفكر في أعمار البيوت في فيلادلفيا وأعمار البيوت عندنا في لبنان، وبالأخص في جنوبه. في فيلادلفيا تعيش البيوت طويلا، وكلما تقادم بها الزمن، ازدادت عراقتها ورونقها حيال الأبنية الحديثة الشاهقة. أما عندنا، فغالبا ما تكون أعمار البيوت قصيرة، بسبب الحروب التي تتوالى على أرضنا. كم مرة تهدمت بيوت كثيرة ثم تجددت؟ وكم من بيوت جربت ذلك مرارا؟
قبل نهاية الشهر الذي أمضيناه في فيلادلفيا، وصلَنا أن بيتنا في قريتنا الجنوبية أصابه القصف بأضرار كبيرة. هذا البيت عملنا في بنائه أكثر من ثلاثين عاما، في كل حرب خلالها كان يأخذ نصيبا من القصف، وكنا نعود إلى ترميمه وتجديده. ولكنه هذه المرة سيحتاج إلى تجديد جذري.
واظبت على التنزه يوميا، تراودني مشاعر متضاربة، ترافقني بُقع الشمس الدافئة ولسعة البرد المنعشة، فأجدني مخاطبا نفسي بهذا الشطر من بيت لأبي تمام: لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ.