أيضا، في تلك الحقبة توطدت علاقة إسرائيل بالدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، وباتت ضمن معسكر الولايات المتحدة في الصراع ضد الاتحاد السوفياتي (السابق)، وفي هذين التطورين رسخت إسرائيل مكانتها كدولة إقليمية قوية في الشرق الأوسط.
الانقلاب على حقبة التأسيس
الحقبة الثانية، تمثلت بهيمنة اليمين القومي الإسرائيلي على السياسة الإسرائيلية، ممثلا بحزب "الليكود"، بقيادة مناحيم بيغن (1977-1983)، ثم إسحق شامير (1983-1992) باستثناء عامي 1985 و1986. وهي فترة شهدت بروز التصدعات أو التمايزات في المجتمع الإسرائيلي، مع صعود التيارات الدينية، والاستقطاب بين اليهود المتدينين واليهود العلمانيين، ثم الاستقطاب بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، وبين اليسار واليمين، وبين دعاة "أرض إسرائيل الكاملة" (اليمين القومي والديني)، المعادين للتسوية مع الفلسطينيين، ودعاة "وحدانية شعب إسرائيل" (حزب العمل والأحزاب اليسارية) من دعاة التسوية، للحفاظ على يهودية الدولة وديمقراطيتها.
بن غوريون يتوسط مسؤولين إسرائيليين خلال إحياء ذكرى تيودور هرتزل عام 1948
وفي هذه المرحلة بدا أن إسرائيل تشهد إرهاصات تحول مهمة، بما يمكن عده بمثابة انقلاب على الحقبة التأسيسية، إذ اختفى تقريباجيل "الروّاد" من المستوطنين الأيديولوجيين المؤسسين: الزراعيين والعسكريين، الذي عمل على إقامة الدولة الصهيونية، وظهرت أجيال أخرى بكل ما لهذه المسألة من معانٍ تتعلّق بتغيّر طبيعة الحراك الاجتماعي السياسي الاقتصادي الأيديولوجي، في إسرائيل، ما أدى إلى حصول تغيرات مهمة في المجال الثقافي-القيمي في المجتمّع الإسرائيلي، بخاصّة لدى فئات الشباب، حيث باتت العادات الاستهلاكية والأفكار الليبرالية البرغماتية، والروح الفردية، تنتشر في هذه الأوساط، حتى إنه ثمة حديث عن تسارع مسار "الأمركة" بين الإسرائيليين (المأكل والملبس والموسيقى واللغة الإنكليزية)، وهذه ليست ظاهرة غريبة في هذا المجتمع، بسبب انتمائه للغرب أساساً، وبسبب تقدم مستوى المعيشة والاتصال المستمر بنمط الحياة الغربية.
عموما، شهدت هذه الفترة تراجعا في دور القطاع العام والمشترك لصالح النمو المتزايد للقطاع الخاص، وتآكل تدخل الحكومة في العمليات الاقتصادية، وتراجع الحكومة عن جزء كبير من التقديمات الاجتماعية، وتزايد حصة قطاع "الهاي تيك" والتكنولوجيا العالية في الاقتصاد، على حساب الصناعة والزراعة. وفي الحقيقة فإن هذه التأثيرات عبّرت عن ذاتها، في إسرائيل، بتراجع الأيديولوجيا والسياسة لصالح التوجهات الليبرالية وتنامي الهويات الأصلية، وضمور الأحزاب المركزية الكبيرة، مثل "العمل" و"الليكود"، وبروز دور الأحزاب الصغيرة، الإثنية والشخصية والمطلبية، كما تراجع دور المؤسسات الجمعية مثل: "الهستدروت" و"الكيبوتزات" والمؤسسة العسكرية والنقابات والقطاع العام، لصالح القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، وقد ساهم في ذلك اندماج إسرائيل في السوق العالمية والتوجه نحو خصخصة قطاعات الإنتاج وتحرير السوق وتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية وفي مجال الخدمات الاجتماعية.
من ناحية أخرى، هذه الفترة شهدت أفول الصراع العربي-الإسرائيلي، رسميا، مع عقد اتفاق كامب ديفيد 1979، وتدمير المفاعل النووي العراقي 1981، وانعقاد مؤتمر مدريد (1991) للتسوية، والذي أفضى إلى اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين 1993، لكنها شهدت، أيضا، حروب إسرائيل في لبنان، والتي توجت بغزو لبنان 1982، وإخراج قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية" وقواتها منه، كما شهدت اندلاع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى (1987-1993)، التي فرضت إقامة كيان فلسطيني في الضفة والقطاع وفقا لاتفاق أوسلو.
حقبة نتنياهو
الحقبة الثالثة هي حقبة نتنياهو، بكل معنى الكلمة، فهو الشخص الذي شغل موقع رئيس الحكومة في إسرائيل، أكثر من أي شخص آخر، وحتى أكثر من المؤسس بن غوريون (14 عاما)، إذ شغل موقع رئيس الحكومة في فترات ثلاث، الأولى 1996-1999، الثانية 2009-2021، الثالثة من أواخر 2022 حتى الآن، بمجموع 17 عاما.
وهذه الحقبة تميزت بصعود التناقضات الداخلية في إسرائيل، أكثر من أية مرحلة سبقت، وفي مقدمتها التناقض بين تياري المتدينين والعلمانيين، بخاصة بسبب تعزيز التحالف بين اليمين القومي والديني، وصعود دور المستوطنين الأيديولوجيين في السياسة الإسرائيلية، ومحاولة تعزيز طابع إسرائيل كدولة يهودية على حساب طابعها كدولة علمانية، في نظام الليبرالية الديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود)؛ وهو ما تم التعبير عنه في المصطلحات الإسرائيلية بمقولة إن "دولة يهودا سيطرت على دولة إسرائيل"، في إشارة إلى هيمنة اليهود المتدينين والقوميين المتطرفين من دعاة الاستيطان في "أرض إسرائيل الكاملة".
وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف ايتمار بن غفير ونتنياهو قبيل جلسة للكنيست في القدس في 23 مايو
لذا يمكن اعتبار فترة نتنياهو، بخاصة في حقبته الثالثة، أكثر فترة شهد فيها المجتمع الإسرائيلي تصدعا بين مكوناته (أو "قبائله") الإثنية والأيديولوجية، لأسباب داخلية، وأكثر فترة قامت فيها مظاهرات ضد حكومة إسرائيلية، الأمر الذي لم يخفف منه سوى شد عصب الإسرائيليين على محور الصراع الخارجي، في حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين، ثم على لبنان، بعد عملية "طوفان الأقصى" (7/10/2023)، التي روج لها بين الإسرائيليين باعتبارها حربا على الوجود.
وكما شهدنا، فقد تمثل هذان المساران، أولا، في إصدار الكنيست لقانون أساس يقضي بأن إسرائيل هي دولة قومية لليهود (2018)، الأمر الذي يقضم من مكانة المواطنة لفلسطينيي 48 وحقوقهم، الفردية والجماعية، ويضعهم في مكانة دونية في إسرائيل، ما يتناسب مع حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية. ثانيا، في محاولة حكومة نتنياهو، وسموتريتش، وبن غفير، تغيير النظام السياسي في إسرائيل، أو الانقلاب عليه، بتقويض السلطة القضائية، عبر تحجيم مكانة المحكمة العليا، والتخفّف من دورها في الرقابة على الحكومة.