عاجلا أم آجلا… وقف إطلاق نار جديد في سوريا

ما هي حسابات كل من أنقرة وموسكو وطهران؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقاتلون يطلقون النار على قوات الجيش السوري في منطقة الراشدين على مشارف حلب في 29 نوفمبر 2024

عاجلا أم آجلا… وقف إطلاق نار جديد في سوريا

تُعد حكومة الرئيس بشار الأسد وحليفاها، روسيا وإيران، أكبر الخاسرين من سيطرة الفصائل المسلحة على حلب والبلدات الواقعة شمال محافظة حماة. أما تركيا فقد استطاعت الخروج مما حصل أقوى من أي وقت مضى. ومع ذلك، يبقى التحدي في الأسابيع المقبلة هو ضرورة توصل جميع الأطراف، سواء الخاسرة أو الرابحة، إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار.

في 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وفي بيان صدر عقب مكالمة بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره التركي هاكان فيدان، دعت وزارة الخارجية الروسية إلى ضرورة العمل على استقرار الأوضاع في سوريا. يذكّر بيان موسكو بالنبرة المشتركة بين العاصمتين خلال اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/آذار 2020، الذي انهار مؤخرا. وفي النهاية، لم يعد التساؤل حول التوصل إلى وقف لإطلاق النار يدور حول "إمكانية حدوثه" بل حول "توقيته".

من المؤكد أن بشار الأسد، حليف روسيا، في حاجة ملحّة إلى وقف إطلاق النار بشكل عاجل. نادرا ما حقق جيش الأسد أداء جيدا في ساحات المعارك السورية، غير أن أحداث نوفمبر 2024 كانت كارثية على نحو خاص. فقد أتيحت الفرصة لمقاتلي الفصائل المسلحة المتقدمين لاجتياح مفارز روسية وإيرانية صغيرة خلال طريقهم نحو حلب والبلدات الواقعة جنوبا. واضطر الجيش السوري إلى التراجع نحو مدينة حماة، التي تبعد 130 كيلومترا جنوبا، في محاولة لإنشاء خط دفاع جديد. لكن التحدي الأكبر يتمثل في حاجة الأسد الماسة إلى تعزيزات عسكرية، إذ لم يتبقَّ لديه سوى عدد محدود للغاية من القوات.وسيمثل فقدان السيطرة على حماة وحمص كارثة حقيقية، ما يثير تساؤلات داخل دمشق حول إمكانية سحب الوحدات العسكرية من دير الزور في الشرق إلى الجبهات الأكثر إلحاحا في الغرب.

أ.ب
أفراد الدفاع المدني السوري من الخوذ البيضاء والمدنيين يحملون مصابا من جراء قصف قوات الحكومة السورية لمدينة إدلب، 2 ديسمبر 2024

يُشار إلى أن الجيش السوري استعاد دير الزور من تنظيم "داعش" عام 2017، ما يجعل الانسحاب من شرق سوريا في نهاية عام 2024 بمثابة إذلال جديد. وفقدان هذه المنطقة، إلى جانب حلب، سيكون دليلا قاطعا على عجز الأسد الكامل عن تحقيق الاستقرار في البلاد.

والحال فإنّ الأسد يحتاج إلى دعم عاجل من حلفائه الخارجيين مرة أخرى. ففي عام 2013، دفعت إيران "حزب الله" إلى التدخل في مدينة القصير السورية بالقرب من حمص، حيث أسهم انتصار مقاتلي "حزب الله" إلى جانب الجيش السوري على "الجيش السوري الحر"، في تحقيق استقرار نسبي للأوضاع لصالح الأسد استمر لمدة عامين. لكن "حزب الله" في عام 2024 يختلف تماما عما كان عليه في ديسمبر/كانون الأول 2013. وإضافة إلى ذلك، في عام 2013، لم يكن "حزب الله" يواجه القلق المتزايد من الاستخبارات الإسرائيلية أو الغارات الجوية التي تستهدف قوافل وطرق إمداده.

الأسوأ بالنسبة لإيران أن استراتيجيتها الرادعة تجاه الهجمات الإسرائيلية والأميركية تضاءلت بشكل ملحوظ. وفي الوقت ذاته، ترسل طهران إشارات إلى أوروبا والولايات المتحدة تعبر عن استعدادها للتفاوض

اليوم، يخطط "الحرس الثوري" الإيراني لإرسال رجال الميليشيات العراقية كتعزيزات للأسد، لكن هذا الخيار يحمل مخاطرة، فقد استهدفت القوات الأميركية قوافل الميليشيات في الأول من ديسمبر، ومن المحتمل أن تتعرض هذه القوافل لضربات جوية من القوات الإسرائيلية كذلك. إلى جانب ذلك، يفتح انسحاب الجيش السوري المجال أمام تنظيم "داعش" لتعزيز نفوذه في الفراغ الناشئ في صحراء البادية السورية، مما يضيف تهديدا جديدا إلى المشهد.

والأسوأ بالنسبة لطهران، هو أن استراتيجيتها الرادعة تجاه الهجمات الإسرائيلية والأميركية قد تضاءلت بشكل ملحوظ. وفي الوقت ذاته، ترسل طهران إشارات إلى أوروبا والولايات المتحدة تعبر عن استعدادها للتفاوض. ولكن أي تصعيد في سوريا قد يضعف هذا المسار، خصوصا مع سعي طهران إلى تجنب ضربات جوية إسرائيلية وأميركية واسعة النطاق، بالتزامن مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني.

وروسيا أيضا في حاجة ماسة إلى وقف إطلاق النار. فبينما يواصل بوتين تحقيق تقدم تدريجي في حرب الاستنزاف الأوكرانية، يواجه تحديات عسكرية شديدة أجبرته على الاستعانة بجنود كوريين شماليين في ساحة المعركة، إضافة إلى اعتماده الطويل على الإمدادات العسكرية من كوريا الشمالية وإيران، والدعم اللوجستي من الصين.

رويترز
الرئيس السوري بشار الأسد يلتقي وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في دمشق، 1 ديسمبر 2024

لم يواجه بوتين مثل هذه التحديات في يوليو/تموز 2015، عندما كان الجيش السوري وحلفاؤه الإيرانيون يتراجعون أمام مقاتلي المعارضة الذين تمكنوا من اجتياح إدلب وتهديد اللاذقية وحماة. حينها، نشر بوتين القوات الجوية الروسية في سبتمبر/أيلول 2015، وفي أكتوبر/تشرين الأول نفذت القوات الروسية 1300 غارة جوية ضد المعارضة المسلحة، واستمرت على هذا النسق لعدة أشهر. أما في 2024، فإن روسيا بالكاد تنفذ بضعة غارات يوميا.

كان بإمكان بوتين إرسال المزيد من الطيارين والطائرات والقنابل إلى سوريا، لكن الحملة الجوية التي نُفذت بين عامي 2015 و2016 استغرقت عدة شهور لتحقيق تغيير في توازن القوى على أرض المعركة. وفي الوقت الراهن، يركز بوتين على تحقيق الاستقرار في سوريا مع تحميل الأسد مسؤولية أي إخفاقات، بينما يوجه معظم جهوده نحو الحرب الأوكرانية. وسيمثل وقف إطلاق النار الجديد فرصة لروسيا لتحقيق أهدافها دون الإضرار بنفوذها المتزايد والمُحسَّن على الأسد.

وهذا يضع تركيا في موقف حاسم. إذ يسعى حلفاؤها السوريون إلى مواصلة التقدم العسكري، إلا أن الحفاظ على هذا الزخم يعتمد بشكل كبير على الإمدادات التي تقدمها تركيا، مثل الذخيرة والغذاء والوقود. في الوقت نفسه، تدرك أنقرة أن الوضع في دمشق عام 2024 مختلف تماما عن الوضع في كابول عام 2021، حيث لن يهاجم المسلحون الإسلاميون المؤسسات الحكومية الرئيسة، مثل مكتب الرئيس، كما أن روسيا وإيران لديهما الإمكانيات العسكرية الكافية لوقف أي محاولة لذلك.

في غياب زعيم واضح يحظى بولاء جميع المجموعات، فإن مقاتلي الفصائل السورية قد ينخرطون في قتال داخلي فيما بينهم بعد وصولهم إلى مشارف دمشق

من جانب آخر، يُعد الانتصار السياسي المحلي الأبرز للرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو إعادة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى ديارهم في منطقة حلب، مع توفير الحماية اللازمة لهم ضد أي انتقام محتمل. ومع كل بلدة جديدة تسيطر عليها الفصائل المسلحة، تزداد آمال أنقرة بأن أعدادا أكبر من السوريين سيغادرون تركيا ويعودون إلى بلادهم. ولكن مع اشتداد القتال وتنامي التهديد من جانب روسيا وإيران بشن ضربات جوية باستخدام الطائرات الحربية والصواريخ والطائرات المسيرة على إدلب وحلب ومدن أخرى، ستضطر أنقرة إلى إعادة النظر في خياراتها، فقد شهدت آثار مثل هذه الهجمات في سوريا وأوكرانيا.

وفي هذا السياق، يمثل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في الوقت المناسب- بما يتيح عودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى بلادهم طواعية ويمهد الطريق لإطلاق مفاوضات سياسية جادة- مكسبا استراتيجيا لأنقرة.

أ.ف.ب
لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس السوري بشار الأسد في الكرملين بموسكو في 24 يوليو 2024

وفي تصريح لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان بتاريخ 30 نوفمبر، أكد أن هدف تركيا الرئيس هو التوصل إلى مفاوضات سياسية بين الفصائل المسلحة وحكومة الأسد.

من الجدير بالذكر أنه، في غياب زعيم واضح يحظى بولاء جميع المجموعات، فإن مقاتلي هذه الفصائل قد ينخرطون في قتال داخلي فيما بينهم بعد وصولهم إلى مشارف دمشق. وفي الوقت نفسه، يواجه هؤلاء المقاتلون تحديات فورية في إدارة عشرات المدن والبلدات الجديدة التي ستصبح تحت سيطرتهم، حيث يحتاجون إلى دعم تركي في مجالات متعددة، بدءا من الغذاء والدواء وصولا إلى إصلاح البنية التحتية. وتمتلك تركيا حافزا إضافيا لتقديم هذا الدعم، إذ يمكنها تصوير هؤلاء الحلفاء على أنهم أطراف أكثر تأثيرا وفعالية في أي عملية سلام جديدة في سوريا. ورغم أن هذا ليس تماما ما كان يسعى إليه تحالف الفصائل المسلحة وزعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، فإنه يمثل تقدما كبيرا بالنسبة لهم.

font change

مقالات ذات صلة