وقف إطلاق النار في لبنان وحرب نتنياهو الأخيرةhttps://www.majalla.com/node/323301/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%A5%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%86%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%87%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9
حيفا- وقّع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان و"حزب الله"، إلا أنه لم يوقع ولن يوقع مع غزة. أصلا قام بالقضاء على كل أشكال التمثيل الوطني الفلسطيني ولم يعد هناك من يوقع على اتفاق معه أو مع إسرائيل، وهذا ما أراده مع شركائه من اليمين الفاشي، والسلطة الوطنية مجرد وكيل ثانوي، و"حماس" ليست بديلا كافيا لمهمة تمثيل الفلسطينيين.
بالنسبة لنتنياهو الحرب في غزة هي حربه الأخيرة والتي سوف تمتد إلى حين السيطرة الكاملة على فلسطين وإبطال أية قدرة جدية لتحدي سلطة الدولة اليهودية من قبل الفلسطينيين. من المهم فهم الفرق في حروب نتنياهو وإسرائيل مقابل الفلسطينيين ولبنان، وهنالك فرق ينبع من الغايات وليس من صعوبة المعركة أو الإنجازات الفورية.
بعد إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" يوم الثلاثاء 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، نحتاج الإجابة على السؤال: لماذا وافقت إسرائيل ونتنياهو بقيادتها على وقف إطلاق النار؟ فالأمر ليس مفهوما ضمنا وخصوصا أن إسرائيل لم تصل إلى أهدافها التي أعلنها نتنياهو بعد بدء الهجوم العسكري على لبنان. وأعني بذلك إجبار قوات "حزب الله" على التراجع إلى ما قبل نهر الليطاني وإنهاء قوته العسكرية المهددة لإسرائيل، وربما تجريده من أسلحته الثقيلة المهددة لأمن إسرائيل وخصوصا لسكان شمال إسرائيل.
رغم إنجازات "حزب الله" في المرحلة الأولى من الحرب، وحتى أواسط سبتمبر/أيلول 2024 والتي تمثلت في القدرة على خلق حالة توتر على الحدود مع إسرائيل واضطرارها إلى رصد وحدات عسكرية جاهزة على حدودها الشمالية وإبعادها عن المشاركة الفعالة في الحرب على غزة، كما تهجير جزء كبير من الإسرائيليين من بلداتهم في القطاع الشمالي، وتهديد إسرائيل بإمكانية شن هجوم كاسح على العمق الإسرائيلي ما وضع إسرائيل في حالة تأهب واستنفار وتخوف جدي من مثل هذا الهجوم. كل ذلك بدأ بالانهيار مع هجوم "البيجر" الإسرائيلي ومن ثم استهداف قيادات "حزب الله" وعلى رأسهم زعيمه حسن نصرالله وما تبعه من استهداف إسرائيلي للمدنيين في جنوب لبنان وفي الضاحية والقصف المتواصل الذي أدى إلى تهجير أكثر من مليون لبناني من بلداتهم وبيوتهم وتهديم البيئة الاجتماعية الحاضنة لـ"حزب الله" وبالتالي إضعاف جدي لقدرات "الحزب" العسكرية وتركه من دون قدرة جدية على الرد في العمق الإسرائيلي، أي سحب أهم مركبات قوته العسكرية، وبالتالي إجباره على الإعلان مبكرا عن رغبته في فض الترابط مع الحرب على غزة وإجراء مفاوضات لوقف إطلاق النار مع قبول ضمني لتغييرات جدية في حيثيات وقف إطلاق النار في صيف 2006 على ضوء قرار مجلس الأمن 1701.
بالنسبة لنتنياهو، الحرب مع "حزب الله" ومع لبنان ومع إيران هي معارك جانبية، وإن كانت مهمة، للانقضاض على ما تبقى من فلسطين التاريخية وجعلها دولة يهودية من النهر إلى البحر
من المؤكد أن إسرائيل التي توقعت تراجعا كليا لقوات "حزب الله" إلى ما قبل الليطاني تفاجأت من ترميم "حزب الله" سريعا لقواته ولقوات الدفاع عن الخط الأول في جنوب لبنان. إسرائيل التي استعملت كل وسائل القوة والهجوم الجوي والمدفعي والدبابات والصواريخ عن بعد، لم تستطع التقدم سريعا في العمق اللبناني، لكنها بالتأكيد خلقت بلبلة سياسية داخلية مما أدى إلى استعانة "حزب الله" بنبيه بري، رئيس البرلمان وبرئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، لكي يقوما بالتفاوض نيابة عنه مع المبعوث الأميركي والذي نجح قبل أيام في إنجاز اتفاق لوقف إطلاق نار والبدء في مرحلة تجريبية لستين يوما.
عمليا، وقف إطلاق النار هو قبول إسرائيلي بأنه من غير الممكن إنجاز كل أهداف الحرب على لبنان و"حزب الله". فإسرائيل لم تستطع فرض إبعاد قوات "الحزب" عن حدودها بالقوة، ولم تعرقل بشكل جدي إمكانيات سطوته على السياسة اللبنانية وقراراتها. وسؤال إعادة التسليح بقي معلقا على إرادة دولية بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، ودول المنطقة وعلى رأسها إيران والفرقاء في لبنان، كما للتجربة الغنية التي اكتسبها "حزب الله" وبمساعدة سورية وإيرانية على تهريب الأسلحة، وحتى تصنيع بعضها ذاتيا. إلا أنه بالنسبة لنتياهو فإن الجيش الإسرائيلي أدخل الرعب في إيران من إمكانيات استهدافها، وخصوصا مع عودة دونالد ترمب للرئاسة في الولايات المتحدة، وأضعف قوة "حزب الله" وهدد العمق اللبناني جديا في حال أقدم "حزب الله" على حرب مستقبلية ضدها، وبذلك فإنه وصل إلى إنجازات مهمة تجعله يعود إلى مهمته الرئيسة، هو وباقي مركبات اليمين، وأعني التفرد بفلسطين والفلسطينيين وبسط السيطرة نهائيا على فلسطين التاريخية، بما يشمل منع إقامة دولة فلسطينية كاملة الاستقلال والتحكم بأرضها وبمواطنيها، وبالتالي فإنه نجح في التقدم خطوة أخرى باتجاه "دولة إسرائيل الكبرى".
في مقال سابق ("المجلة" 11 أغسطس/آب 2024) أشرت إلى أن الحرب التي بدأت بعد هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 "ممتدة"، وبدأت في فلسطين وستنتهي في فلسطين. الحرب أو المعركة بين "حزب الله" أو لبنان أو كليهما وإسرائيل كانت معارك ذات دلالات مهمة، إلا أنها هي واتفاق وقف إطلاق النار كذلك، هما حدثان ثانويان أو لنقل إنهما نقطتان في سيرورة مستمرة من حروب مستقبل فلسطين، والتي وإن اندلعت بفعل فلسطيني مبادر أدهش العالم وأخاف الإسرائيليين وزودهم بطاقة الانتقام، فإنها آخر حروب نتنياهو، أي إنها بالأساس حرب فرضها نتنياهو نيابة عن اليمين الفاشي الحاكم في إسرائيل، لأجل السيطرة على فلسطين التاريخية، بما في ذلك إعادة الاحتلال المباشر لقطاع غزة وبالتالي استنهاض قوى شعبية وفصائلية فلسطينية لن تقبل بالواقع الإسرائيلي وسوف تعيد ترتيب صفوفها تدريجيا للقيام بخطوات اعتراضية تحاول من خلالها تقويض السيطرة الإسرائيلية وخلق حالة من عدم الاستتباب في سياق واقع "الدولة الواحدة" في فلسطين التاريخية.
بالنسبة لنتنياهو، الحرب مع "حزب الله" ومع لبنان ومع إيران هي معارك جانبية، وإن كانت مهمة، للانقضاض على ما تبقى من فلسطين التاريخية وجعلها دولة يهودية من النهر إلى البحر، مع سيطرة وتفوق عرقي وفرض نظام أبرتهايد على الفلسطينيين، وهذا برأيي مربط الفرس الأساسي. فلسطين والتحكم بها بشكل منفرد وكامل هو مشروع اليمين وقائده نتنياهو، وهو ما يجب أن يكون محور اهتمامنا كعرب وكفلسطينيين، وذلك رغم أهمية عدم إغفال تداعيات نتائج الحرب على لبنان ومع "حزب الله".
فلسطين التي حظيت خلال أشهر الحرب الإسرائيلية على غزة بالكثير من الدعم الشعبي العالمي وربما بتعاطف رسمي هنا وهناك، يجب أن تكون جاهزة لتطوير قدراتها للحفاظ على هذا الدعم، إلا أنها يجب أن تراجع حساباتها وتقييمها لحالات جدية من انعدام الدعم، أو حتى الدعم المكشوف كثيرا والمستور أحيانا للموقف الإسرائيلي. يجب أن يكون واضحا أننا كفلسطينيين نستطيع أن نعتب كثيرا على دول غربية وعربية وعلى مستويات الدعم الشعبي والمؤسساتي عربيا ودوليا، إلا أن هذا العتب ليس سياسة ولا استراتيجية عمل. القضية الفلسطينية التي وصل الدعم العربي والغربي لها مستويات قياسية قبل حوالي ثلاثة عقود، وضد الاحتلال الإسرائيلي ودعما لحق فلسطيني في تقرير المصير وصلت مؤخرا إلى مستويات منخفضة وغير معقولة من الدعم بفعل إنجازات إسرائيلية من جهة وإخفاقات فلسطينية من جهة أخرى.
إن تطوير استراتيجية فلسطينية لإعادة الاعتبار جديا لدعم عالمي وعربي في آن واحد، وتمتين أنواع الضغط على إسرائيل في سياق تعضيد قدرة الفلسطينيين على الصمود في وجه الهجوم الإسرائيلي الفاشي والعنصري والفوقي، هو مهمة غير قابلة للتأجيل وتأتي في سياق تحضير لتحدٍ سيستمر لسنوات طويلة وحتى لعقود. الفلسطينيون لا يستطيعون التعويل على دعم خارجي بغير لم شملهم وبغير إنتاج استراتيجيات عمل جماعية قادرة على العمل محليا ودوليا وإسرائيليا وعربيا. لا يستطيع الفلسطينيون الاتكاء على عدالة قضيتهم فقط، بل مطلوب منهم إعادة الاعتبار لفاعليتهم هم ولموقف مثابر عربيا ودوليا، شعبيا ورسميا، وكل ذلك ينقصهم الآن، وتفاقم جديا منذ اتفاقيات أوسلو التي سلمت قيادتهم لمستقبلهم إلى ميزان القوة مع غريمهم، ولإسرائيل وطيب خاطرها في التعامل معهم. نتنياهو وائتلافه قوي جدا ويحظى بدعم شعبي قوي في إسرائيل، إلا أن ذلك لا يعني أن على الفلسطينيين الاستسلام لهم، بل بالعكس، ما يحصل إسرائيليا هو حافز مركزي يلزمهم للبدء في عملية الترميم المطلوبة.