تغيرات متسارعة... انهيار سيطرة الجيش شمال غربي سوريا

كسر الحلقة المفرغة من العنف يتطلب أكثر من وقف إطلاق نار

 أ ف ب
أ ف ب
تجمع للمسلحين في وسط حلب امام مبنى يحمل صورة للرئيس السوري بشار الاسد في 30 نوفمبر

تغيرات متسارعة... انهيار سيطرة الجيش شمال غربي سوريا

استغلت الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا لحظة جيوسياسية مهمة لتعطيل الوضع الراهن الهش، حين شنت هجوما عسكريا جريئا بالتزامن مع وقف إطلاق النار في لبنان. ففي 27 نوفمبر/تشرين الثاني، بدأت قوات "إدارة العمليات العسكرية" التي تضم فصائل عدة، حملة واسعة النطاق ضد معاقل الحكومة السورية في المنطقة. وتهدف العملية، التي أُطلق عليها اسم "ردع العدوان"، إلى التصدي للهجمات المتزايدة التي يشنها الجيش السوري ضد المدنيين، بالإضافة إلى توسيع المناطق الآمنة بما يتيح عودة النازحين السوريين إلى مناطق أكثر أمانا.

خلال أقل من 72 ساعة، تمكنت الفصائل التي تتقدمها "هيئة تحرير الشام" من استعادة عشرات البلدات والمواقع الاستراتيجية، بما في ذلك مناطق داخل مدينة حلب، وقطعت الطريق السريع "إم-5"، الذي يُعد شريان إمداد حيويا يربط بين حلب ودمشق. وقد أعادت هذه المكاسب الإقليمية السريعة تشكيل الخطوط الأمامية في الشمال، والتي كانت راكدة منذ عام 2020، ووصلت الى سيطرة الفصائل على كامل حلب.

إن فهم الوتيرة غير المسبوقة لخسائر الحكومة السورية أمر بالغ الأهمية، للكشف عن العوامل الجوهرية التي تعزز نجاح الفصائل. ولا تقتصر هذه التطورات على تحدي توازن القوى داخل سوريا فحسب، بل تحمل في طياتها تداعيات قد تُعيد تشكيل مسار المنطقة لأشهر، وربما لسنوات مقبلة.

انهيار بيت من ورق

أثار الانهيار السريع لسيطرة الدولة في شمال غربي سوريا دهشة المراقبين وصدم صفوف الفصائل نفسها، والتي لم تكن تتوقع تحقيق مثل هذه المكاسب بسرعة وسهولة. ففي غضون 48 ساعة فقط، تمكنت الفصائل المسلحة من التقدم بسرعة فائقة، بسطت خلالها سيطرتها الكاملة على ريف حلب الغربي وأجزاء من ريف إدلب، واستعادت أيضا مناطق داخل مدينة حلب كانت قد خسرتها لصالح الجيش في عام 2016.

كشفت هذه العملية مدى تشتت قوات الجيش، ولا سيما على طول خطوط المواجهة الحيوية. وأدى عجزها عن امتصاص الصدمة الأولية للهجوم إلى سلسلة من الانهيارات، حيث انهارت المواقع الدفاعية واحدا تلو الآخر. وسمح هذا التسلسل المتسارع للتراجعات عبر مناطق واسعة ذات أهمية استراتيجية لقوات "إدارة العمليات العسكرية" بتحقيق مكاسب بوتيرة غير مسبوقة.

في الهجوم الأخير، بدت الغارات الجوية الروسية متقطعة وتفتقر إلى الكثافة المعتادة في الحملات السابقة. وخلال الـ48 ساعة الأولى، غابت الطائرات الروسية بشكل ملحوظ، باستثناء ضربات محدودة

مع انهيار خط الدفاع الأول للقوات السورية، واجهت هذه صعوبة كبيرة في إعادة تجميع صفوفها. وقد ساهمت استراتيجية الفصائل التي اعتمدت على شن هجمات متزامنة على جبهات متعددة، بما في ذلك غرب حلب وأجزاء من إدلب، في إنهاك دفاعات الجيش وزيادة حدة الفوضى. وتشير التقارير إلى أن الجيش السوري استبدل الميليشيات ذات الخبرة المدعومة من إيران، مثل "حزب الله" بأفراد أقل تدريبا وتجهيزا، مما أدى إلى تراجع أدائه بشكل ملحوظ في ساحة المعركة. كما تفيد التقارير بأن مقاتلي "حزب الله" قد انسحبوا تدريجيا خلال الأشهر الماضية بسبب انشغالهم في الحرب مع إسرائيل.

علاوة على ذلك، كشفت المعارك عن ثغرة حرجة في لوجستيات الجيش السوري، وهي خطوط إمداده للخطوط الأمامية. وقد أدى هذا الضعف اللوجستي إلى عرقلة قدرته على إرسال التعزيزات بسرعة، مما جعل دفاعاته هشّة وعُرضة للخطر، وغير قادرة على التعافي من النكسات الأولية.

دور روسيا المحدود

كان ضعف مشاركة سلاح الجو الروسي عاملا رئيسا في الانهيار السريع لخطوط دفاع الجيش السوري. فمنذ بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، لعبت الطائرات الروسية دورا محوريا في استراتيجيات الحكومة السورية الدفاعية والهجومية. وخلال الهجوم الذي شهدته منطقة الشمال الغربي عام 2019، دمرت الغارات الجوية الروسية القرى الواقعة على الخطوط الأمامية التي كانت تحت سيطرة الفصائل المسلحة، مما جعلها غير صالحة للسكن تماما. وحتى خلال فترة "وقف إطلاق النار" التي استمرت لأربع سنوات، واصلت القوات الروسية شن حملات قصف واسعة النطاق في إدلب، غالبا كإجراء عقابي ردا على هجمات بسيطة شنتها الفصائل.

وفي الهجوم الأخير، بدت الغارات الجوية الروسية متقطعة وتفتقر إلى الكثافة المعتادة في الحملات السابقة. وخلال الـ48 ساعة الأولى، غابت الطائرات الروسية بشكل ملحوظ، باستثناء ضربات محدودة. ووقع القصف الأكثر كثافة في وقت متأخر من يوم 27 نوفمبر، حيث استهدف الأتارب ومناطق قريبة من سراقب. وفي 28 نوفمبر، شُنت غارة جوية روسية على منطقة سكنية في الأتارب، ما أدى إلى مقتل 14 مدنيا. وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، تصاعدت الغارات الجوية قرب سراقب ردا على التقدم الأولي الذي حققته "إدارة العمليات العسكرية".

تُعزى المكاسب السريعة التي حققتها الفصائل خلال الهجوم الأخير جزئيا إلى تحول استراتيجي نحو الاستخدام المتزايد للطائرات المسيرة، ما يعكس تطورا كبيرا في قدراتها العسكرية

وقد يكون هذا التراجع في المشاركة مرتبطا بالعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي أدت إلى إعادة نشر القوات والطائرات. بالإضافة إلى ذلك، ربما أدى غياب القادة الروس، الذين كانوا يلعبون دورا حاسما في تنسيق عمل وحدات القوات السورية أثناء هجمات الفصائل المناهضة، إلى تفاقم الفوضى داخل سلسلة القيادة في الجيش السوري، مما ساهم في انسحابه السريع.

مستوى الاحتراف المتزايد للفصائل

أبرز الهجوم الأخير مستوى الاحتراف المتزايد لقوات الفصائل، الذي ساهم في تحقيق انتصارات سريعة وتعزيز فعاليتها في ساحة المعركة. ويعود هذا التطور إلى سنوات من البناء المؤسسي، بما في ذلك إنشاء أكاديميات عسكرية وبرامج تدريب متخصصة. ولم يقتصر دور هذه المؤسسات على تحسين المهارات القتالية لقوات الفصائل، بل أدخلت أيضا تكتيكات وتقنيات متقدمة. على سبيل المثال، لعبت الوحدات المتخصصة والمدربة على القتال الليلي دورا محوريا في العمليات الأخيرة، حيث أظهرت قدرة عملياتية متفوقة أثناء تنفيذ الهجمات الليلية.
وعلاوة على ذلك، شهدت ترسانة الفصائل توسعا وتنوعا يعكس التطور الفني المتزايد لقواتها. وبحسب التقارير، تمكن المسلحون من تطوير أسلحتهم أو الحصول على أسلحة جديدة، مثل "صواريخ كروز" بدائية الصنع، وذخائر متقدمة أخرى. وساهمت هذه الابتكارات في تحسين دقة استهداف قوات الجيش، ولا سيما في المواقع المحصنة، مما عزز من فعالية هجماتها وتأثيرها.

رويترز
مسلح من "هيئة تحرير الشام" على متن عربة في منطقة الراشدين في حلب في 29 نوفمبر

عامل أساسي آخر في نجاح المجموعات المهاجمة هو قدرتها على الحفاظ على التنسيق بين الفصائل المختلفة. فعلى الرغم من التنافس التاريخي، عملت مجموعات مختلفة بتناغم، مزامنة هجماتها عبر جبهات متعددة. هذا التعاون حال دون تمكن قوات الجيش من إعادة تجميع صفوفها أو تعزيز مواقعها بشكل فعال، ما فاقم خسائرها بشكل كبير. ومن خلال تجنب الإعلان العلني عن أسماء الفصائل المشاركة، عززت العملية شعور الوحدة، وقللت من احتمال نشوب خلافات، مما أتاح تحقيق مستوى أعلى من التنسيق والانسجام.

استخدام الطائرات المسيرة

تُعزى المكاسب السريعة التي حققتها الفصائل خلال الهجوم الأخير جزئيا إلى تحول استراتيجي نحو الاستخدام المتزايد للطائرات المسيرة، ما يعكس تطورا كبيرا في قدراتها العسكرية. وللمرة الأولى، لجأت هذه الفصائل إلى استخدام الطائرات المسيرة علنا، ليس فقط لأغراض المراقبة، بل أيضا لتنفيذ عمليات هجومية. وهذا الاستخدام يُعد نقلة نوعية في نهج الفصائل تجاه الحروب الحديثة.

وتكشف مقاطع الفيديو الواردة من ساحة المعركة عن الاستخدام المكثف للطائرات المسيرة خلال الحملة الأخيرة، مما يعكس تحولا نوعيا في تكتيكات المسلحين. حيث استخدمت قوات الفصائل أنواعا متعددة من الطائرات المسيرة، ويبدو أن الكثير منها صُنع محليا أو جرى تعديله خصيصا للاستخدام العسكري. وجرى إطلاق بعض هذه الطائرات يدويا، بينما اعتمدت أخرى على منصات مجهولة المصدر. وقد زُودت هذه الطائرات بذخائر متنوعة، شملت قنابل محلية الصنع وقذائف خفيفة الوزن، ما أتاح توجيه ضربات دقيقة استهدفت تحصينات الجيش والمركبات المدرعة والأفراد. وأسهم هذا الاستخدام الدقيق للطائرات المسيرة في إرباك قوات الجيش، وتحييد تحصيناته المتقدمة، واختراق خطوطه الدفاعية، مما سرّع من وتيرة تقدم قوات المهاجمين. يعكس هذا التطور النضج المتزايد في تكتيكات الفصائل، في ظل صراع يشهد تحولا سريعا في أساليب الحرب وأدواتها.
ورغم المكاسب الأخيرة التي حققتها الفصائل، يظل التحدي الحقيقي متمثلا في الحفاظ على هذه الأراضي عند حشد الجيش السوري لتعزيزاته لاستعادة ما فقده. وبغض النظر عن الطرف الذي سيفوز في هذه الجولة، من غير المرجح أن تشكل هذه المعركة نهاية للأعمال العدائية.
ويسلط التصعيد المستمر الضوء على قضية أعمق تتمثل في النهج الذي يتبعه المجتمع الدولي في إدارة الصراع "المجمد" في سوريا. فمن خلال إخفاقه في إعطاء الأولوية لحل سياسي شامل أو معالجة الانتهاكات المستمرة التي يرتكبها  الحكم في دمشق في الشمال الغربي، ساهم المجتمع الدولي بشكل غير مباشر في تهيئة الظروف لاستمرار العنف. وفي هذا السياق، لا يُعد مستغربا أن تلجأ الفصائل المسلحة إلى الوسائل العسكرية لتحقيق ما فشلت الدبلوماسية مرارا في تحقيقه.
إن كسر هذه الحلقة المفرغة من العنف يتطلب أكثر من مجرد وقف إطلاق نار مؤقت أو اتفاقات تكتيكية. وينبغي على المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات جادة لإحياء وتنشيط العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، والتي ظلت مجمدة لفترة طويلة، من أجل رسم مسار عملي نحو تحقيق سلام دائم. وفي ظل غياب التزام حقيقي بدفع عملية سياسية شاملة، سيظل الصراع في سوريا عالقا في دائرة لا تنتهي من العنف والانتقام.

font change

مقالات ذات صلة