حسب نص اتفاق وقف النار الذي رعته أميركا وفرنسا بين إسرائيل و"حزب الله"، فإن لبنان على شفا منعطف. فهل يؤدي هذا المخاض إلى تجديد دماء الجمهورية أم ولادة جمهورية جديدة: ثالثة أو رابعة؟
هذه قصة غلاف "المجلة" لشهر ديسمبر/كانون الأول، نعالجها من جميع الجوانب، من وقف النار إلى السيناريوهات ودور الجيش ومستقبل الشيعة بعد نكسة "حزب الله" وعودة اللاجئين والهندسة الاجتماعية.
لبنان على موعد مع وقف إطلاق نار لستين يوما وانسحاب "حزب الله" وإسرائيل من الجنوب على أن يملأ الجيش و"اليونيفيل" الدولية الفراغ، مع عودة النازحين من الطرفين والتئام البرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس وزراء وتشكيل حكومة وإعمار.
إذا صدق حبر الاتفاق الذي جاء بعد أشهر من المفاوضات وأكثر من سنة من "حرب الإسناد" لغزة، ستكون البلاد أمام العودة إلى أسس الجمهورية أو ولادة جديدة... الجمهورية اللبنانية ولدت في عهد الانتداب الفرنسي، قبل المحاصصة الطائفية كما نعرفها حاليا. يوم وضع الدستور الأول وانتخب المحامي الكاثوليكي شارل دباس رئيسا سنة 1926، بينما كانت رئاسة الحكومة في حينها في يد المسيحيين الموارنة.
البعض يرى أن الجمهورية الأولى ولدت في 1926 وتوالى عليها عدد من الرؤساء المسيحيين، وصولا إلى الشيخ بشارة الخوري الذي انتخب رئيسا في 1943. وشكّل تحالفا مع رئيس حكومته رياض الصلح– السنّي– ووضعا الميثاق الوطني الشفوي الذي خصص الرئاسة للموارنة، ورئاسة الوزراء للسنّة، والبرلمان للشيعة، علماً أن صائب سلام يقول في مذكراته إنهم جاءوا بصبري حمادة رئيسا للسلطة التشريعية سنة 1943 لأنه أقدم النواب وليس لكونه شيعيا.
من هنا يعتبر كثيرون أن الجمهورية الأولى ولدت مع الميثاق الوطني، وهي "الميثاقية" التي شهدت إعلان الاستقلال في 21 نوفمبر 1943. وإذا اعتبرنا أن الجمهورية الأولى ولدت سنة 1943 وليس مع دستور 1926، فهل سقطت هذه الجمهورية مع بداية الحرب الأهلية سنة 1975 أم إنها استمرت إلى نهاية الحرب و"مؤتمر الطائف" 1989، لتبدأ الجمهورية الثانية؟
هل تكون الجمهورية الأولى من سنة 1943 ولغاية 1975، والثانية من سنة 1975 لغاية 1989، والثالثة من يومها إلى الآن؟
لعل أبرز ما تميزت به الجمهورية الحالية، بصرف النظر عن اسمها، كان ما نص عليه "اتفاق الطائف" في تقوية رئيس الوزراء السني على حساب الرئيس المسيحي، والوجود السوري الذي انتهى بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 2005، وحرب يوليو/تموز 2006 وتعاظم دور "الحزب" داخليا وإقليميا لمد نفوذ إيران.
أمام تراجع دور "حزب الله" وإيران المهيمن وطموحات معارضيه، هل لبنان أمام ولادة جديدة؟
بعيدا عن شعارات "الانتصار"، لا خلاف أن "حزب الله" مني بهزيمة كبرى: فصل مسار لبنان عن غزة، وقتلت إسرائيل قياداته العسكرية والرمزية بما في ذلك حسن نصرالله، وفككت هيكلية الاتصالات والقيادة، وأجبر على قبول تنفيذ القرار 1701 والانسحاب وراء نهر الليطاني، وربما تشكيل منطقة إسرائيلية عازلة، وقطع إمداد السلاح، ومنع تصنيع الصواريخ، إضافة إلى الكلفة البشرية والاقتصادية الهائلة على البيئة الحاضنة لـ"الحزب".
أمام تراجع دور "حزب الله" وإيران المهيمن وطموحات معارضيه، هل لبنان أمام ولادة جديدة؟ يصر نتنياهو، المدعوم بعلاقته مع الرئيس الأميركي المنتخب ترمب (الذي نخصص ملفا خاصا له في هذا العدد أيضا) و"هديته" له بـ"إنهاء الحروب" قبل تسلمه البيت الأبيض، على آلية الرقابة في لبنان للتأكد من أن "حزب الله" لن يستطيع أن يعيد تسليح نفسه أو بناء بنيته العسكرية، وعلى وضع إيران– الخصم الأكبر- تحت الرقابة و"الضغط الأقصى". وبشكل أكثر تحديدا، تريد إسرائيل، التي نقلت تركيزها إلى قطاع غزة، أن تكون لها القدرة على التدخل في لبنان في حال عدم معالجة أي انتهاك. وبينما لن تتخلى تل أبيب عن هذا "الحق" فإن "حزب الله" ولبنان لا يمكن أن يقبلاه.
الميليشيات والأنظمة تجتمع على نقطة واحدة: عندما تهزم مع الخارج تبحث عن انتصار في الداخل، وعندما تجرح من الخصم البعيد تنتقم من الجار القريب
هنا، تطرح أسئلة: كيف سيترجم هذا سياسيا في لبنان؟ ما دور القوى الإقليمية والدولية في إحياء العقد السياسي القديم أو صوغ عقد جديد؟ لماذا تأخر الأمين العام الجديد لـ"حزب الله" نعيم قاسم في الإطلالة ولم يعتراف بـالهزيمة كما طلّ الرئيس المصري جمال عبدالناصر بعد حرب يونيو/حزيران 1967 واعترف بـ"النكسة"؟ لماذا يصر موالون لـ"الحزب" وإيران على اعتبار ما حصل "نصرا" أو "صمودا"؟
صحيح أن هناك فرقا بين تصرف الدولة والميليشيات في الكلفة البشرية والاقتصادية لأي حرب، لكن صحيح أيضا أن العلاقة مع الزمن والتاريخ تختلف بين الدول والتنظيمات. الأخطر أن الميليشيات والأنظمة تجتمع على نقطة واحدة: عندما تهزم مع الخارج تبحث عن انتصار في الداخل، وعندما تجرح من الخصم البعيد تنتقم من الجار القريب.
إلى قصة الغلاف عن لبنان، والملف الخاص عن انتخاب الرئيس دونالد ترمب وتداعياته في الشرق الأوسط والعالم، في عدد ديسمبر، مقالات وتحليلات ومقابلات في السياسة والاقتصاد والعلوم والثقافة.