ليبيا… بين تاريخ الحلم الدستوري وأزمات الحاضرhttps://www.majalla.com/node/323288/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7%E2%80%A6-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1
أثارت تصريحات وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية "الانتقالية" والتي أعلن عنها خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بشأن عزم وزارته فرض بعض القيود على الحقوق والحريات العامة، حالة من الجدل وردود فعل مختلفة في المجتمع الليبي، بين مؤيدٍ يراها "تحُدّ من الانحدار الأخلاقي"، ومعارضٍ يراها "تّغُولا من السلطة على الحقوق والحريات العامة للمواطنين"، على حد تعبير الطرفين. ومن الطبيعي أن يتم التَّطَرُّقُ إلى السؤال الذي يطرح نفسه: "ما موقف القانون الدستوري من تلك القيود الواردة بتصريحات الوزير الليبي؟".
يُعرف الدستور، بأنه "مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطاتها إزاء الأفراد، وكيفية تنظيم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص وعلاقة هذه السلطات ببعضها، ويضع الضمانات الأساسية لحماية هذه الحقوق والحريات وكفالة استعمالها وعدم التعدي عليها، بما يؤدي إلى التوازن والتوفيق بين السلطة والحرية وتجنب الصراع بينهما".
ومن ثم فإن الدستور يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التي يوجد فيها، من حيث ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية، وبالتالي لا يمكن دراسة النظام الدستوري لبلد ما، دون الإحاطة بتاريخه وسبر أغواره، وتحليل حاضره، وصولاً إلى استشراف مستقبل ذلك النظام.
لكن هل وجد القانون الدستوري بهذا المفهوم في الأنظمة السياسية المتعاقبة في ليبيا؟
للإجابة على هذا السؤال يتعين إلقاء الضوء على التطور التاريخي لأنظمة الحكم المتعاقبة في ليبيا منذ بداية العصر الحديث، مروراً بأوائل القرن الثامن عشر وحتى صدور دستور سنة 1951 وما بعده.
لعبت الطبيعة الجغرافية لليبيا دورا بالغ الأثر في تشكيل تاريخها السياسي، فقد تعرضت ليبيا بحكم موقعها لكثير من الحروب والتدخلات الأجنبية، علاوة على أنه وبسبب الطبيعة الصحراوية لأغلب الأراضي الليبية، تشكلت أغلب التجمعات السكانية فيها على شاطئ البحر، وخلقت الصحراء مناطق متاخمة عازلة بين الأقاليم الليبية، تقوم كمانع طبيعي من قيام الدولة المركزية الموحدة. وقد ظلت فكرة عزلة الأقاليم الليبية قائمة وحاضرة خلال مختلف العصور التاريخية الليبية، كان أولها خلال عهود الإغريق والرومان، عند ظهور المدن الخمس (بنتابولس) في شرق ليبيا، ضمن منطقة إقليم برقة.
قام السلطان العثماني بتوزيع سلطات الحكم على جهات ثلاث، وهي الوالي ويلقب بالباشا، وهو نائب السلطان في حكم البلاد وممثله، وقادة الجند من فرقة (الانكشارية) العسكرية، وأخيراً سناجق الولاية (رؤساء الأقاليم الإدارية)
المراحل الخمس للتاريخ الدستوري في ليبيا
المرحلة الأولى: ما قبل الاحتلال الأجنبي (1510-1911)
مطلع العصر الحديث 1510-1551: تميزت تلك الفترة بمتغيرات جسيمة على المنطقة العربية ككل، وشمال أفريقيا تحديدا، حيث شهدت صعود الدولة العثمانية كقوة بحرية في المتوسط، والمواجهات العثمانية الأوروبية في أعقاب نهاية الحروب الصليبية، وسقوط الأندلس، واكتشاف العالم الجديد، فتعرضت ليبيا للغزو الأسباني سنة 1510، وتنازلت عنها لـ"فرسان القديس يوحنا" أو الفرسان الهوسبيتاليين (الإسبتارية) والتي عرفت لاحقاً بـ"تنظيم فرسان مالطة العسكري ذي السيادة"، وذلك تعويضاً لهم عن خسارتهم جزيرة رودس، في مواجهة مع السلطان العثماني سليمان القانوني، والذي ما لبث أن قام بملاحقتهم في طرابلس، وأخضع كامل ليبيا للدولة العثمانية، وتبدأ بها فترة التاريخ الحديث في ليبيا.
الحكم العثماني الأول 1551-1711: قام السلطان العثماني بتوزيع سلطات الحكم على جهات ثلاث، وهي الوالي ويلقب بالباشا، وهو نائب السلطان في حكم البلاد وممثله، وقادة الجند من فرقة (الانكشارية) العسكرية، وأخيراً سناجق الولاية (رؤساء الأقاليم الإدارية) وذلك بعد تقسيم ليبيا إلى 6 سناجق وهي (بنغازي، طرابلس، الجبل الأخضر، الجبل الغربي، الـُخمس، وفزان)، تميزت تلك الفترة بصدور عدد من الفرمانات التي تخص ولاية (إيالة) ليبيا، وعلى الرغم من أن هذه الفرمانات لا ترقى إلى درجة الدستور، فإن أهميتها تكمن في أثرها على تشكيل هيكل السلطة في ليبيا، كونها تمثل الإرهاصات الأولى لنشأة الدولة، وكان أهمها: فرمان تعيين أول والٍ عثماني على ليبيا عام 1551، ثم فرمان تنظيم البحرية في طرابلس عام 1700، ثم فرمان إعلان استقلال الولاة عام 1711، والذي تضمن منح قدر من الحكم الذاتي تحت إشراف العثمانيين، وبصدوره تنتهي فترة الحكم العثماني الأول.
وقعت الحرب البربرية الأميركية الأولى، وفرضت البحرية الأميركية حصاراً شديداً على طرابلس، لكن ليبيا استطاعت كسر الحصار وأسر الفرقاطة فيلادلفيا سنة 1805، مما أجبر الولايات المتحدة على التفاوض لاستعادة السفينة
حكم أسرة القرمانلي (1711-1835): حيث تولى أحمد باشا القرمانلي الولاية عقب الإطاحة بالوالي، في ثورة شعبية عام 1711، وقد تمتعت ليبيا خلال هذه الفترة بقدر كبير من الحكم الذاتي، حتى في الشؤون الخارجية، وكانت ليبيا تمتلك أسطولا قوياً مكَّنَها من أن تتمتع بشبه شخصية دولية، وأصبحت تنعم بنوع من الاستقلال، بل إنها مارست السيادة على المياه الإقليمية، حيث طالبت السفن بدفع رسوم للمرور عبر تلك المياه. وعند زيادة هذه الرسوم، رفضتها الولايات المتحدة، ووقعت الحرب البربرية الأميركية الأولى، وفرضت البحرية الأميركية حصاراً شديداً على طرابلس، لكن ليبيا استطاعت كسر الحصار وأسر الفرقاطة فيلادلفيا سنة 1805، مما أجبر حكومة الولايات المتحدة على التفاوض لاستعادة السفينة، ومن الطريف في هذا الصدد أن الرئيس الأميركي (توماس جيفرسون) طلب نسخة مترجمة من القرآن الكريم بالإنجليزية حتى يفهم السند القانوني والشرعي لهذه الرسوم (الجزية)، وما زالت هذه النسخة موجودة في مكتبة الكونغرس حتى الآن، وهي النسخة ذاتها التي أقسم عليها اليمين الدستورية النائب المسلم كيث إليسون عندما تولى مهام منصبه 2006، ومن الطريف أيضاً أن هذه الحادثة، تركت أثراً غائراً في التاريخ الأميركي، فقد خلدها نشيد قوات مشاة البحرية الأميركي ذائع الصيت (من قاعات مونتوزوما إلى شواطئ طرابلس)، والمعمول به حتى الآن.
الحكم العثماني الثاني (1835-1911): استعادت الدولة العثمانية الحكم في ليبيا مرة أخرى، بعد رفض آخر حكام أسرة القرمانلي مساعدة السلطان العثماني في حربه ضد اليونان، وتم إصدار فرمان 1863 بجعل سنجق بنغازي ولاية مستقلة، إلا أنه تم العدول عنه، وإرجاع بنغازي سنجقا تابعا لولاية ليبيا بموجب فرمان آخر سنة 1888، ويمكن القول بأن هذا الفرمان، كان بداية ظهور مشكلة انعزال الأقاليم الليبية عن بعضها البعض، والذي وضع بذور فكرة الانفصالية في الدولة الليبية.
المرحلة الثانية: الاحتلال الأجنبي (1911-1951):
قامت إيطاليا باحتلال ليبيا سنة1911 بعد تاريخ سري طويل من الإعداد له مع الدول الأوروبية منذ مؤتمر برلين 1878 حين أعربت إيطاليا عن رغبتها في الاستحواذ على ليبيا، وعدة بلدان أخرى، إلا أن هذا لم يحدث فعلياً إلا في 1911، عند وقوع الحرب الإيطالية التركية، وقامت إيطاليا بغزو ليبيا، بحجة أنها تحميها من التدخل التركي، وانتهت الحرب بتوقيع معاهدة أوشي (اتفاقية لوزان الأولى) 1912، حيث قامت إيطاليا بتقسيم ليبيا إلى ثلاثة أقاليم كبرى، وأقامت مستعمرة مستقلة في كل إقليم، وهي: إقليم "طرابلس الإيطالية" وعاصمته مدينة طرابلس، وإقليم "برقة الإيطالية" وعاصمته مدينة بنغازي، وإقليم "فزان الإيطالية" وعاصمته مدينة سبها. وقد اندلعت مقاومة شعبية عنيفة في كامل ليبيا، كان أحد زعمائها الشيخ عمر المختار، الذي استشهد أثناء مقاومته، وكان من أثر تلك المقاومة، الانتباه لضرورة حماية استقلال ليبيا بوثائق دستورية، وكانت أولى هذه المحاولات، إعلان دولة مستقلة في طرابلس سميت "الجمهورية الطرابلسية" 1918، وتم إقرار دستور لها في يونيو/حزيران 1919 أطلق عليه "القانون الأساسي للقطر الطرابلسي"، إلا أنها لم تحصل على الاعتراف الدولي، ولم تدم أكثر من 9 أشهر، وجراء هذه المقاومة العنيفة، قامت إيطاليا ببسط كامل احتلالها على ليبيا، فضمت الثلاثة أقاليم في مستعمرة واحدة سنة 1934، وسميت "ليبيا الإيطالية"، وأعلنتها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، وقُسمت المستعمرة إلى 5 أقاليم إدارية هي (بنغازي، ودرنة، وطرابلس، ومصراته، وإقليم الصحراء الليبية). واختارت مدينة طرابلس عاصمة للمستعمرة.
أطاح نظام القذافي بالنظام الملكي الليبي، وألغى دستور 1951 المُعدل، وأعلن قيام الجمهورية العربية الليبية، وأصدر إعلاناً دستورياً مؤقتاً في ديسمبر 1969، نص على أن "مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة، وقد ظل هذا الإعلان الدستوري قائماً من 1969 حتى 1977
خسرت إيطاليا ليبيا كمستعمرة فعلياً على أرض الواقع بعد معركة العلمين سنة 1942، وتم توزيع الأقاليم الليبية على الدول المنتصرة لإدارتها من 1947 حتى عام 1951، حيث احتلت بريطانيا برقة ومصراتة وطرابلس سنة 1943 واحتلت فرنسا فزان في العام نفسه، وقامت بريطانيا بمنح الولايات المتحدة قاعدة عسكرية بمطار داخل طرابلس سميت قاعدة "وايليس الجوية"، إلا أنه من الناحية القانونية الدولية، ظلت إيطاليا تتمتع بالسيادة على جميع مستعمراتها، حتى بعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية سنة 1945 ومنها إيطاليا، حتى توقيع معاهدة الصلح عام 1947.
أما ثاني هذه المحاولات فكان في مارس/آذار 1949 عندما أعلن الأمير إدريس السنوسي (الملك إدريس الأول لاحقاً) من مدينة بنغازي قيام "إمارة برقة" كدولة مستقلة بدعم من بريطانيا، وفي أكتوبر/تشرين الأول 1949 تم إقرار دستور لهذه الدولة أطلق عليه "الدستور البرقاوي"، وعلى الرغم من أن هذه المحاولات كانت مبادرات وطنية تسعى لمقاومة الاستعمار، وتحرير التراب الليبي، فإنها كانت محاولات فردية إقليمية، دون تنسيق مع باقي الأقاليم، دون مراعاة للمطالب المحلية والسكانية، لا سيما القبلية لكل إقليم على حدة، ومن ثم كان من نتائج هذه المحاولات، تبلور فكرة انعزال الأقاليم الليبية عن بعضها البعض، وتعزيز الروح الانفصالية الاستقلالية لكل إقليم، والتي لا يزال يتردد صداها حتى الآن.
وعلى الرغم من أن المحاولة الثانية، كانت أكثر نجاحاً من الأولى، فإن هذه الدولة لم تحظ بالاعتراف الدولي الواسع، حيث تبنت بريطانيا وفرنسا مشروع قرار أممي، ينص على استقلال كامل الأراضي الليبية، ومن ثم تم تبني ذلك الاتجاه واستمرت هذه الدولة من 1949 حتى 1951.
المرحلة الثالثة: الاستقلال والحكم الملكي الدستوري (1951 - 1969):
أصدرت الأمم المتحدة قراراً في نوفمبر/تشرين الثاني 1949 نُص فيه على ضرورة أن تكون ليبيا دولة مستقلة قبل يناير/كانون الثاني 1952، وكذلك وضع دستور للدولة الجديدة، يتم إقراره عن طريق جمعية تأسيسية وطنية، تضم ممثلين عن الأقاليم الثلاثة (طرابلس، وبرقة، وفزان)، بالتشاور فيما بينها كهيئة واحدة، وكذلك تعيين مفوض خاص من الأمم المتحدة، للمساعدة في صياغة الدستور، وإنشاء حكومة مستقلة.
ومن الملاحظ أنه قد ثار جدل شديد أثناء مناقشة الجمعية الوطنية التأسيسية حول شكل الدولة، وما إذا كانت دولة بسيطة أم دولة اتحادية فيدرالية، فقد تخوف البعض من فكرة الفيدرالية لأسباب عديدة، كان أبرزها أن حالة البلاد الاقتصادية في زمن التأسيس لا تسمح لكل إقليم من الأقاليم المكونة للاتحاد، بأن يكون وحدة كاملة قائمة بذاتها، وأنه لا بُد من إيجاد حكومة واحدة لها، وقد انتهت مناقشات الجمعية، بأن الوضع الفيدرالي لليبيا، سيكون طارئاً مؤقتاً، ومن ثم وافقت الجمعية على مبدأ اتحادية الدستور الليبي، وقد نصت المادة الثانية من ذلك الدستور على أن "ليبيا دولة ملكية وراثية شكلها اتحادي ونظامها نيابي وتسمى المملكة الليبية المتحدة". وتم الانتهاء من ذلك الدستور بعد إقراره من الجمعية الوطنية الليبية في أكتوبر/تشرين الأول 1951، وأعلنت ليبيا استقلالها في ديسمبر/كانون الأول 1951 تحت اسم المملكة الليبية المتحدة بنظام ملكي دستوري وراثي. وبهذا أصبح لليبيا دستور حقيقي مكتمل الأركان.
وأثناء سريان الدستور، كشف التطبيق العملي عن عيوب النظام الفيدرالي، وعدم ملاءمته للوضع الليبي، خاصة في المسائل المالية، وتنازع الاختصاص بين الحكومة المركزية الاتحادية، وحكومات الولايات. ومن ثم قام (الملك إدريس الأول السنوسي) بتعديل الدستور 1963 وبموجبه تم إلغاء مبدأ الاتحادية الفيدرالية من الدستور، وتم إلغاء حكومات الأقاليم لاسيما المجالس التشريعية لها، وتم تعديل الاسم الرسمي للدولة بحذف كلمة المتحدة منه ليصبح "المملكة الليبية"، وقد استمر العمل بذلك الدستور المُعدل حتى نهاية أغسطس/آب 1969.
المرحلة الرابعة: العقيد/ معمر القذافي، الجمهورية والجماهيرية (1969-2011):
قامت مجموعة من شباب الضباط بالقوات المسلحة الليبية بإنشاء (تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار) بقيادة (العقيد معمر القذافي) وقامت بحركة في سبتمبر/أيلول 1969 وأطلق عليها (انقلاب/ثورة الفاتح من سبتمبر 1969)، وكان أحد الأسباب المباشرة في قيامها، استمرار وجود الكثير من القواعد الأجنبية على الأراضي الليبية، أخصها قاعدة (وايليس الجوية) المذكورة آنفاً، وقد أطاح نظام القذافي بالنظام الملكي الليبي، وألغى دستور 1951 المُعدل، وأعلن قيام الجمهورية العربية الليبية، وأصدر إعلاناً دستورياً مؤقتاً في ديسمبر 1969، والذي نص فيه على أن "مجلس قيادة الثورة هو أعلى سلطة في الجمهورية العربية الليبية"، وقد ظل هذا الإعلان الدستوري قائماً من 1969 حتى 1977.
إلا أن التحول الأكبر في هذه المرحلة كان في مارس/آذار 1977، حين صدر (إعلان قيام سلطة الشعب)، وبموجبه أعلن تحول الجمهورية العربية الليبية إلى (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى)، استناداً إلى ما سماه (النظرية العالمية الثالثة) والواردة بعدة وثائق مؤسسة لها وهي (البيان الأول لثورة 1969- خطاب الثورة الثقافية بمدينة زوارة بالمولد النبوي الشريف 1973- الكتاب الأخضر 1975- وأخيراً الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عصر الجماهير 1988). وقد أعلن القذافي استقالته من منصبه كرئيس للجمهورية بعد هذا الإعلان، واحتفظ لنفسه بلقب شرفي (الأخ قائد الثورة).
بعد توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، انتهت ولاية حكومة الإنقاذ الوطني، والتي حلت محلها "حكومة الوفاق الوطني" في بداية 2016، وكذلك تم تأسيس "المجلس الأعلى للدولة"
قام نظام الجماهيرية على عدة أفكار مفادها أن "الديمقراطية النيابية القائمة على التمثيل النيابي، ما هي إلا حكم غيابي ودجل وأنها تزييف للديمقراطية- وأن الحزبية خيانة وأنها تجهض الديمقراطية- وأنه لا ديمقراطية حقيقية من دون ديمقراطية مباشرة بالمؤتمرات الشعبية- وأن يمارس الشعب حكم نفسه بنفسه عن طريق اللجان الشعبية".
وكانت هذه محاولة بائسة لمحاكاة "نظام الجمعية الدستوري" المتبع بسويسرا فقط، والذي يُشترط لتحققه ممارسة الديمقراطية المباشرة، بحيث يقوم الشعب بمباشرة الحكم بنفسه لنفسه مباشرة، وقد فشل تطبيق هذا النظام في أغلب الدول الأوروبية، ونجح في سويسرا بسبب تقسيمها إلى كانتونات أو مقاطعات صغيرة المساحة، علاوة على قلة عدد السكان فيها حيث لا يتجاوز 9 ملايين نسمة، وارتفاع مستوى المعيشة والثقافة والتعليم والوعي الشعبي، ويفترض بداءة تداولا سلميا للسلطة، وكانت نتائج محاولة تطبيق هذا النظام في ليبيا كارثية مُشوهة.
وقد أعلن القذافي نفسه 1993 ضرورة وضع دستور دائم لليبيا، إلا أن هذا لم يتحقق على أرض الواقع، كذلك ما اقترحه المهندس سيف الإسلام القذافي، (نجل معمر القذافي) 2006 و2009 من الحاجة لوجود دستور ليبي دائم، وقد تم إعداد مشروع دستور 2009، إلا أنه لم ير النور.
المرحلة الخامسة: ثورة/انتفاضة فبراير 2011 والحروب الأهلية الليبية وما بعدها (2011- حتى الآن):
بعد الإطاحة بنظام القذافي بعد اندلاع ثورة/انتفاضة فبراير/شباط 2011، كان الموقف في ليبيا– ولا يزال– يتميز بالفوضى وشدة التعقيد، حيث تشكل "المجلس الوطني الانتقالي المؤقت الليبي" والذي تم الاعتراف به من أغلب دول العالم، والذي أصدر "الإعلان الدستوري الليبي المؤقت في أغسطس 2011"، لحين كتابة دستور دائم للبلاد يصادق عليه باستفتاء شعبي، حيث كان ذلك في أوج "الحرب الأهلية الليبية الأولى" (فبراير 2011- أكتوبر 2012)، وأجريت "الانتخابات المحلية الليبية" ثم "الانتخابات البلدية الليبية" بين 2011-2013، ثم إجراء "انتخابات المؤتمر الوطني العام" في يوليو/تموز 2012 وانتهت ولايته في أغسطس/آب 2014، وذلك بعد انتخاب "مجلس النواب الليبي" في يونيو 2014، ومن قبله "انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور" أو "لجنة الستين" في فبراير/شباط 2014.
إلا أن "الحرب الأهلية الليبية الثانية" (فبراير 2014– يونيو 2020) اندلعت بعد اشتعال الصراع بين "الحكومة الليبية" ومقرها مدينة بنغازي، والمُشكلة من مجلس النواب، ومقره مدينة طبرق، والمنتخب ديمقراطياً 2014، و"حكومة الإنقاذ الوطني أو حكومة فجر ليبيا" ومقرها مدينة طرابلس، والمسيطر عليها من قبل التيارات الإسلامية، والتي أسسها المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته، ورفض تسليم السلطة بعد خسارته الانتخابات 2014.
بعد توقيع اتفاق الصخيرات في ديسمبر/كانون الأول 2015، انتهت ولاية حكومة الإنقاذ الوطني، والتي حلت محلها "حكومة الوفاق الوطني" في بداية 2016، وكذلك تم تأسيس "المجلس الأعلى للدولة"، إلا أنه في يونيو 2016، تجدد الصراع مرة أخرى، إذ ألغى المجلس "اتفاق الصخيرات"، وسحب اعترافه بـ"حكومة الوفاق الوطني"، واستمرت الحرب قائمة، ووصل النزاع المسلح قمته بين عامي 2018 و2019، حتى توقف القتال في يونيو 2020.
وقد أنهت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور أعمالها 2016، وأصدرت "مشروع الدستور الليبي الدائم في يوليو 2017"، وأحالته لمجلس النواب لإصدار قانون الاستفتاء، وطرحه على الشعب للاستفتاء عليه، ثم أصدر مجلس النواب قانون الاستفتاء في يناير/كانون الثاني 2018، إلا أن المشروع لم يطرح للاستفتاء حتى الآن بسبب ظروف الحرب.
يرى البعض أن عودة الملكية ستكون بمثابة ضامن لوحدة البلاد، وإرساء لاستقرارها، ومخرج لليبيا من أزماتها الراهنة، فهل ستعود الملكية بدستور 1951 الاتحادي قبل تعديله، أم بنسخته بعد تعديل 1963 الذي ألغى الفيدرالية؟
دعت الأمم المتحدة في فبراير/شباط 2021 لعقد اجتماعات "منتدى الحوار السياسي الليبي"، بين "الحكومة الليبية" ببنغازي المدعومة من مجلس النواب، و"حكومة الوفاق الوطني" بهدف الاتفاق على توحيد الحكومتين المتنافستين، والاتفاق كذلك على طرح مشروع الدستور للاستفتاء قبل الانتخابات العامة، والتي كان محدداً لها نهاية 2021، وفي مارس 2021 تشكلت "حكومة الوحدة الوطنية الليبية الانتقالية"، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، إلا أن مجلس النواب الليبي سحب الثقة منه في سبتمبر 2021، وعين (فتحي باشاغا) خلفاً له في رئاسة الحكومة في فبراير 2022، وهو ما أعاد الأزمة الليبية إلى المربع صفر، مع وجود حكومتين، واحدة في بنغازي، والأخرى في طرابلس، واستمرار حالة الشلل، لا سيما أنه حتى الآن، لم يتم الاستفتاء على مشروع الدستور على الرغم من الانتهاء منه في 2017.
مستقبل ليبيا الدستوري
من الممكن استشراف السيناريوهات المحتملة لمستقبل ليبيا الدستوري، ويعتمد ذلك على عدة عوامل داخلية وخارجية تشمل المشهد السياسي، والتدخلات الدولية، وحالة المجتمع الليبي:
نجاح الحوار الوطني، وإعادة التعاون بين مجلس النواب، وحكومة الوحدة الوطنية: ويترتب على ذلك التصويت على مشروع الدستور، الذي تم إعداده أو تعديله أو صياغة دستور جديد بالكامل، بما يتناسب مع الظروف الحالية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة تحت رقابة دولية، وتوحيد المؤسسات العسكرية والمالية تحت قيادة حكومة موحدة.
استمرار حالة الشلل والجمود السياسي، حال فشل الحوار الوطني وتزايد الخلافات: فقد يستمر الوضع الحالي مع استمرار الانقسامات، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات، مثل ضعف الدولة، وانهيار مؤسساتها نتيجة زيادة الانقسام المؤسسي، واستنزاف الموارد الاقتصادية، وتصاعد العنف بين الميليشيات المسلحة، لا سيما في حالة حدوث تدخل أوسع للقوى الإقليمية، بل من الممكن أن يؤدي هذا إلى انهيار المسار السياسي تماماً، وعودة النزاع المسلح على نطاق واسع، يؤدي إلى انقسام البلاد إلى مناطق نفوذ دائمة، مع زيادة احتمال تدخل الأطراف الخارجية عسكرياً.
عودة أحد طرفي الماضي: والواقع أن هذا السيناريو مركب يتكون من احتمالين، تحقق أحدهما نهاية للآخر، أولهما عودة الملكية في ليبيا: وهو احتمال أصبح مطروحا وبشدة، خلال الفترة الأخيرة بشكل جدي، ولا يمكن الاستخفاف به، لاسيما بعد دعوة (الأمير محمد الرضا الحسن السنوسي) نجل آخر ولي عهد للملك إدريس الأول السنوسي، للعودة إلى ليبيا من قبل حكومة الوحدة الوطنية، ويرى البعض أن عودة الملكية ستكون بمثابة ضامن لوحدة البلاد، وإرساء لاستقرارها، ومخرج لليبيا من أزماتها الراهنة، بل إن المناقشات تخطت هذه المرحلة إلى مرحلة هل ستعود الملكية بدستور 1951 الاتحادي قبل تعديله، أم بنسخته بعد تعديل 1963 الذي ألغى الفيدرالية. وثانيهما عودة أحد رجال الدولة في عهد معمر القذافي: وهو احتمال آخر غير مستبعد الحدوث، وقد تأكد هذا خلال الانتخابات الرئاسية 2021، حين استطاع سيف الإسلام القذافي، تقديم أوراق ترشحه للانتخابات وقبلتها اللجنة المختصة، وقد لاقى خبر ترشحه قبولاً شعبياً ليس بالقليل، ودفع ذلك القبول الحكومة الانتقالية إلى تجميد الانتخابات الرئاسية، إلى أجل غير مسمى، خوفاً من احتمالية فوزه وحدوث اضطراب شعبي، نتيجة لذلك بين مؤيدٍ ومعارضٍ.