بعد انسحاب النائب الجمهوري السابق مات غايتس من الترشح لمنصب وزير العدل تحت ضغوط هائلة بسبب فضائحه الجنسية وملفه الأخلاقي، تتجه الأنظار الآن إلى تولسي غابارد التي اختارها ترمب لشغل منصب مدير أجهزة المخابرات الأميركية.
فبعد أن انحسرت عاصفة الضغط على غايتس، بدأت موجة أخرى من الغضب تستهدف غابارد بسبب آرائها المغايرة للفكر الجمهوري بل والديمقراطي إزاء السياسة الخارجية للبلاد، علاوة على خبرتها المحدودة في عالم الاستخبارات، وطبيعتها البرغماتية المتقلبة حسب أهوائها ومصالحها السياسية الطموحة.
التحقت غابارد بالحرس الوطني للجيش الأميركي في هاواي عام 2003 وخدمت ضمن الفرقة الطبية العسكرية بالعراق في العامين التاليين. وفي عام 2007 أتمت برنامج تدريب الضباط بالأكاديمية العسكرية في ألاباما وتخرجت بتفوق وتم تعيينها قائدا لفيلق الشرطة العسكرية الأميركية في الكويت. وخاضت انتخابات مجلس النواب الأميركي عام 2013 لتفوز أمام منافسها الجمهوري وتصبح أول هندوسية تشغل مقعدا بالكونغرس. وبعدها حصلت على رتبة ميجور بالحرس الوطني لهاواي عام 2015.
وخلال سنوات خدمتها العسكرية، صعد نجمها بالحزب الديمقراطي حتى شغلت منصب نائب رئيس اللجنة القومية للحزب في الفترة من 2013 وحتى 2016 قبل أن تستقيل منها لدعم ترشيح بيرني ساندرز أمام هيلاري كلينتون لخوض انتخابات الرئاسة ضد دونالد ترمب.
ثم انتقلت إلى قوات الاحتياط الأميركية عام 2020 حيث تمت ترقيتها إلى رتبة عقيد أركان حرب عام 2021 أثناء خدمتها في منطقة القرن الأفريقي، وهو العام نفسه الذي خاضت فيه الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي للترشح للرئاسة. لكنها انسحبت من السباق وأعلنت بعد ذلك تأييدها لترشح جو بايدن لخوض انتخابات الرئاسة. ثم تركت الحزب عام 2022 لتنضم إلى قائمة المستقلين. وفي عام 2024 انضمت إلى الحزب الجمهوري وأعلنت دعمها للمرشح الجمهوري ترمب في انتخابات الرئاسة الأخيرة.
وخلال عضويتها بالكونغرس، تبنت غابارد مواقف قوية ضد التدخل العسكري الأميركي في العالم، حيث رأت أنه ينبغي أن يكون آخر الخيارات، كما طالبت باعتبار أن ما سمته "الإرهاب الإسلامي" هو العدو الأول، وهو الأمر الذي انتقدت الرئيس السابق باراك أوباما كثيرا بسبب تجاهله.
ولدت غاباردفي جزيرة ساموا وتربت في هاواي واقتحمت عالم السياسة في عامها الـ21 عندما انتخبت عضوا بمجلس نواب هاواي مسلحة بفكر محافظ اجتماعيا، يناهض الإجهاض ويرفض زواج المثليين، ويعارض توسيع حلف "الناتو" أو تعميق العداء مع روسيا
غابارد البالغة من العمر 43 عاما، ولدت في جزيرة ساموا وتربت في ولاية هاواي واقتحمت عالم السياسة وهي بعد في عامها الـ21 عندما انتخبت عضوا بمجلس نواب هاواي مسلحة بفكر محافظ اجتماعيا، يناهض الإجهاض ويرفض زواج المثليين، ويعارض توسيع حلف "الناتو" أو تعميق العداء مع روسيا. بيد أن وحدتها العسكرية طلبت للخدمة في العراق بعد أن أمضت فترة واحدة في عضوية مجلس نواب هاواي.
لم تتردد غابارد في تلبية الدعوة التي رتبها مستشار ترمب السابق ستيف بانون للقاء الرئيس المنتخب في برجه الفندقي بنيويورك بعد فوزه في انتخابات 2016. وجاء هذا بعد أن حظيت برضا بانون الذي رأى أن مواقفها إزاء السياسة الخارجية و"الإرهاب الإسلامي" تتسق مع أجندة الجمهوريين. وقالت عقب اللقاء إنهما تحدثا كثيرا عن السياسة الخارجية، وأنه- ترمب- أشار إلى أنه سيقلص التدخل العسكري الأميركي في الخارج. وأضافت أنها وجدت أن ثمة فرصة للعمل مع إدارة ترمب لتغيير وجهة السياسة الخارجية إلى مسار أكثر إيجابية وأقل دمارا. لكنها سرعان ما انقلبت عليه عندما أمر بشن هجوم على مطار سوري واتهمته بالتهور والانصياع لصقور الحرب. إلا أنها كانت تحجم في أغلب الأحيان عن معاداة ترمب، الأمر الذي سبب لها بعض المشاكل في دائرتها المعروفة بأنها إحدى قلاع الحزب الديمقراطي الراسخة.
وسافرت غابارد إلى سوريا في يناير/كانون الثاني من عام 2017 حيث التقت الرئيس بشار الأسد مرتين. ونفت أن تكون قد حملت رسالة من ترمب، مؤكدة أنها لم تخطر أيا من مسؤولي إدارته الجديدة آنذاك. وحاول الأسد إقناعها بالخطر الذي تشكله "داعش" و"النصرة". وتحدثت في سوريا أمام طلاب جامعة دمشق حيث أبدت رغبتها في أن تكف بلادها عن دعم الجماعات التي وصفتها بالإرهابية. وتفقدت غابارد أنقاض إحدى الكنائس التي دمرت في الحرب الأهلية بسوريا وتحدث إليها أحد قساوسة الكنيسة قائلا إن المسيحيين مستهدفين من قبل هذه الجماعات التابعة لـ"داعش" والمناهضة للنظام السوري.
وأشارت غابارد في مقابلة تالية إلى أنها اتفقت مع الأسد على إجراء انتخابات نزيهة في وجود مراقبين دوليين، لإتاحة الفرصة للشعب السوري كي يقرر مستقبله بحرية. لكنها واجهت عاصفة من الانتقادات اللاذعة من قبل الجمهوريين بالكونغرس واتهمت بتبرير المذابح الجماعية التي ارتكبها الأسد ضد شعبه.
وكشفت الصحف بعد ذلك أن زيارتها التي رافقها فيها زوجها المصور السينمائيإبراهام ويليامز كانت ممولة من قبل رجلي أعمال لبنانيين على صلة بحزب "البعث" السوري الذي يتزعمه الأسد، وهو ما اضطر غابارد لرد مصاريف الرحلة. لكنها لم تتبرأ من تصريحاتها بل وشككت في مسؤولية نظام الأسد عن هجوم لاحق بغاز الخردل على بلدة اللطامنة أودى بحياة أكثر من 90 شخصا أغلبهم أطفال. وانتهى تقرير لاحق للأمم المتحدة إلى أن القوات الجوية السورية هي التي ألقت المادة الكيماوية على البلدة.وبعدها وصف هاورد دين، رئيس اللجنة القومية للحزب الديمقراطي، موقفها بالفضيحة وطالب بطردها من الكونغرس.
سافرت غابارد إلى سوريا في يناير 2017 حيث التقت الرئيس بشار الأسد مرتين. ونفت أن تكون قد حملت رسالة من ترمب، مؤكدة أنها لم تخطر أيا من مسؤولي إدارته الجديدة آنذاك
ورغم أنها بدأت مسيرتها السياسية كمحافظة، فإنها ما لبثت أن بدلت فكرها فأصبحت من مؤيدي حق الإجهاض وزواج المثليين بعد انخراطها في أنشطة الحزب الديمقراطي في هاواي التي تعد من أشد الولايات الأميركية زرقة والتي حصلت فيها هيلاري كلينتون على 62 في المئة من الأصوات مقابل 30 في المئة لترمب في انتخابات 2016. وقد ذهل الكثير من الناخبين الديمقراطيين عندما نشر لقاء غابارد بترمب بعد أسبوعين من انتهاء الانتخابات.
وتنحدر غابارد من أسرة سياسية إذ إن والدها، مايك غابارد، عضو في مجلس شيوخ هاواي عن الحزب الجمهوري لكنه أيضا غيّر انتماءه ليصبح ديمقراطيا فيما بعد.
وبررت غابارد تخليها عن الحزب الديمقراطي بأنه أصبح تحت قيادة "عصابات من دعاة الحرب والظلم الاجتماعي"، وأكدت أنه لم يعد ذلك الحزب الذي انضمت إليه منذ أكثر من 20 عاما.
وكثيرا ما استدعت في خطاباتها السياسية خبرتها العسكرية ودفعت بأن الحروب الأميركية في الشرق الأوسط تسببت في زعزعة الاستقرار بالمنطقة وجعلت الولايات المتحدة أقل أمنا وكبدتها الكثير من الأرواح. وألقت باللائمة على الحزب الديمقراطي في التقاعس عن وقف هذه الحروب. وبعد انفصالها عن الديمقراطيين، بدأت غابارد في الظهور على قنوات "فوكس نيوز" وشاركت في الحملات الانتخابية لكثير من الجمهوريين البارزين.
غابارد المرشحة لرئاسة جميع أجهزة الاستخبارات الـ16، ومن بينها المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالية ووكالة الأمن القومي، أعلنت عن دعمها لترمب مطلع هذا العام مما زاد من شعبيتها بين الجمهوريين، لتنضم إلى روبرت كنيدي الذي تحدى بايدن في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي قبل أن يقرر الترشح مستقلا ثم بعد ذلك يعلن تأييده لترمب.
ولعبت غابارد دورا رئيسا في تجهيز ترمب لمناظرته الوحيدة مع كامالا هاريس قبل أن تعلن في لقاء جماهيري له في نورث كارولينا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي انضمامها رسميا إلى الحزب الجمهوري.
وتختلف غابارد عن المرشحين السابقين لمنصب مدير أجهزة المخابرات في أنها لم تشغل أي منصب حكومي كبير في السابق وإن كانت قد عملت لمدة عامين كعضو بلجنة الأمن الداخلي بمجلس النواب. هذا على النقيض من مديرةالمخابرات الحالية أفريل هينز التي تولت الكثير من المهام الأمنية والاستخباراتية، كان آخرها منصب نائب مدير المخابرات المركزية، وكانت أول امرأة تشغل هذا المنصب.
وتنتظر غابارد، في حال إقرار تعيينها من قبل مجلس الشيوخ، مهمة إعادة هيكلة أجهزة المخابرات كما توعد ترمب الذي طالما اتهمها بالضلوع في محاولات لتقويض ولايته الأولى وحملاته الانتخابية فيما بعد. وكثيرا ما وصف ترمب أجهزة المخابرات بأنها جزء من الدولة العميقة التي لم تدن يوما بالولاء له. وتعهد بتنظيف من وصفهم بالعناصر الفاسدة في أجهزة الأمن والاستخبارات المفخخة وهم كثر، حسب قوله. هذا رغم الدور الرئيس الذي لعبته هذه الأجهزة في إحباط محاولات روسيا والصين وإيران نشر ادعاءات زائفة ومضللة حول الانتخابات قبل بدء التصويت، فضلا عن تصديها للتهديدات السيبرانية ومكافحة الإرهاب والتجسس.
ويخشى كبار مسؤولي المخابرات من أن تحاول غابارد تغيير وتعديل التقارير الخاصة بروسيا ووقف تمويل التحقيقات التي قد لا تروق لتوجهات ترمب، بل إن بعضهم يفكر في الاستقالة إذا تولت رئاسة الأجهزة.
وتتفق غابارد مع ترمب في التشكيك الدائم في تحليلات أجهزة الاستخبارات، بل وتبنت في بعض الأحيان الدعاية الروسية ومنها إمكانية تسرب الجراثيم من المختبرات الأوكرانية تحت الضربات الجوية الروسية، في مسعى على ما يبدو للضغط في اتجاه وقف الحرب. ووصفها السيناتور الجمهوري آدن كينزنغر بـ"الخائنة"، فيما اعتبرها سيناتور ماساتشوستس، ميت رومني، "مجرد بغبغان يردد المزاعم الروسية".
وفيما لاقى ترشحها لخوض انتخابات الرئاسة تغطية إيجابية في المواقع الإعلامية الروسية، حذرت هيلاري كلينتون من أن الروس بصدد تجهيز عضو ديمقراطي للترشح للرئاسة ومساعدة ترمب على الفوز، في إشارة إلى غابارد التي اتهمت هيلاري بمحاولة تدميرها سياسيا.
ولا تتماهي غابادر تماما مع توجهات ترمب، حيث انتقدت قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وأيضا إصداره أمرا باغتيال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" بـ"الحرس الثوري" الإيراني حيث اعتبرته انتهاكا للدستور. ويرى البعض أن أشد سقطات غابارد هي دفاعها عن إدوارد سنودن، المتهم بكشف أسرار حساسة للدولة والذي منحته روسيا الجنسية، وجوليان آسانج، صاحب تسريبات "ويكيليكس"، فضلا عن مطالبتها بإسقاط التهم الموجهة إليهما وذلك في عريضة تبناها النائب السابق مات غايتس.
لا تتماهي غابادر تماما مع توجهات ترمب، حيث انتقدت قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وأيضا إصداره أمرا باغتيال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" بـ"الحرس الثوري" الإيراني حيث اعتبرته انتهاكا للدستور
ويترقب أعضاء مجلس الشيوخ وصول الملف الأمني لغابارد والذي يتوقعون أن يتضمن المزيد من الأسرار، خاصة ما يتعلق بالاتصال بجهات خارجية.
مستشار الأمن القومي في إدارة ترمب السابقة جون بولتون اعتبر غابارد أسوأ ترشيح لمسؤول في تاريخ البلاد، ودعا إلى إجراء عملية فحص أمني دقيق لمرشحي ترمب. أما ديفيدفروم، المتعهد بكتابة خطابات الرئيس السابق جورج بوش الابن وصاحب عبارة "محور الشر"، فقد قال متهكما "لا داعي للاستعانة بوسيط نسائي لموسكو في هذا المنصب والإقدام مباشرة على تعيين فلاديمير بوتين كمدير لأجهزة الاستخبارات الأميركية". كما اعتبرها محللون آخرون خطرا على الأمن القومي.
وحذر نواب ديمقراطيون من أن غابارد "مباعة" وبأنها تمثل إحدى أدوات التغلغل الروسي. لكن رئيس لجنة الاستخبارات السابق بمجلس النواب الديمقراطي آدم شيف كان أكثر حرصا في تعبيره، إذ اكتفى بانتقاد آرائها التي قال إنها محل شك. وفيما رأى السيناتور الجمهوري إريك شميت أن وصف غابارد بالأداة في يد الروس لمجرد أنها تعتنق آراء سياسية مختلفة هو أمر سخيف، مؤكدا أنه ما من دليل يعزز هذه الاتهامات.
وقد تمسكت إدارة ترمب حتى الآن بترشيح غابارد، وأعربت عن ثقتها في قدرتها على حماية الأمن القومي للولايات المتحدة والحيلولة دون استخدام تقارير الاستخبارات كسلاح ضد الأميركيين.