"صندوق العراق للتنمية" يصطدم ببقايا "الاشتراكية" والفساد وانعدام الثقة

رئيسه التنفيذي محمد النجار في مقابلة مع "المجلة": نقلوا البلاد من إدارة الاقتصاد إلى إدارة محطة للوقود هذا هو اقتصادنا اليوم

موقع صندوق العراق للتنمية
موقع صندوق العراق للتنمية
الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية محمد النجار

"صندوق العراق للتنمية" يصطدم ببقايا "الاشتراكية" والفساد وانعدام الثقة

يتغنّى الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية محمد النجار برائحة أشجار المشمش العبقة التي فقدت منذ زمن طويل في عاصمة كانت أنظف بكثير، ويتحسّر على الخبرات والمكانة الإقليمية التي فقدتها البلاد، وتدهور مستوى التعليم ومباني المدارس، ويشكو تخلف "النظام البيروقراطي" واستشراء الفساد،

في قصر الزقورة، حيث توجد مكاتب رئيس الوزراء في بغداد، أجرت "المجلة" مقابلة مع النجار، الذي يشغل أيضا منصب المستشار الخاص لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الاستثمار، وهو أسف على العراق الذي كان "يزود الشرق الأوسط التعليم العالي"، في حين أصبحنا الآن "مستوردا صافيا" للمعرفة والمهارات. وشدد أنه "لا يمكنك بناء البلد المناسب من دون الأشخاص المناسبين. وللحصول على الأشخاص المناسبين، عليك أن تبدأ نقاشا أوليا في شأن نوعية التعليم، الذي لدينا".

وأشار إلى أن الحكومة العراقية "لا تزال تعمل بعقلية الاقتصاد الموجه للغاية. ومن الأهداف الرئيسة لصندوقنا إشراك القطاع الخاص في تغيير الاقتصاد العراقي. لكن كيف؟ نطلق المشاريع وندعو الشركات ورجال الأعمال الى الاستثمار ، فيستثمرون فيها ويشغلونها ونحصل على نسبة من ذلك – أو نشتري منهم الخدمات الناتجة من هذا الاستثمار".

لدى الشعب العراقي نحو 80 مليار دولار في المنازل، إنه رقم فلكي، وهي ليست في الاقتصاد أو في أي مصرف، إنها ببساطة هناك من دون جدوى

محمد النجار، الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية والمستشار الخاص لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الاستثمار

غير أن الكثير يتوقف على إيجاد طرق لإقناع الشعب الذي "لا يستطيع حتى أن يتخيل" – كما ذكر النجار – أي نظام غير النظام الذي يحمل كثيرا من بقايا الاشتراكية والذي يثق قليلاً في المؤسسات والمصارف.

أوجز النجار أفكارا لمشاريع بيئية لم يتمكن حتى الآن من إيجاد التمويل اللازم لها، بما في ذلك مشروع "لا يفهم قيمته إلا العلماء وأنا"، لأننا "لا نزال عالقين في سنة 1980 وليس لدينا الخبرات اللازمة لإدارة البيئة". وقال إن صندوق العراق للتنمية هو "صندوق أنشئ حديثا في سنة 2023. وقد وضع قانون الموازنة المادة 45 التي تتحدث عن إنشاء" هذا الصندوق، الذي من بين أهدافه سد الفجوات التي تركتها وزارات أخرى.

Shutterstock
قصر الزقورة التاريخي في المنطقة الخضراء، بغداد

وأضاف أن للصندوق أهدافا متنوعة تلتقي حول الاستدامة، وخلق المعرفة المحلية، وإشراك القطاع الخاص، فيما يحذر العديد من الخبراء أنه نظام اشتراكي عفا عليه الزمن ويئن تحت أعباء لم يعد في إمكانه تحملها. وسواء أكانت خططه البيئية ستؤتي ثمارها أم لا، فمن المرجّح أن يزيد هو وآخرون مقربون من رئيس الوزراء استثمارات القطاع الخاص فيما يهيئون الأرضية لتعزيز التعليم.

80 مليار دولار خارج المصارف العراقية بلا جدوى

يقدر النجار أن "لدى الشعب العراقي نحو 80 مليار دولار في المنازل، وليست في الدورة الاقتصادية أو في أي مصرف. إنها ببساطة هناك من دون جدوى"، لافتا الى أن "هذا الرقم فلكي".

وأوضح أن من أسباب تخبئة هذه المبالغ الكبيرة عدم وجود منافذ للاستثمار بالإضافة إلى عدم الثقة بالمصارف بعد "44 عاما من الاضطرابات". وأشار إلى أن العراقيين يرغبون دائما في وجود أموالهم على مقربة منهم لأنهم "لا يعرفون متى سيضطرون إلى أخذها والهرب".

الحكومة لا تستطيع استيعاب أعداد الشباب الكبيرة الذين يدخلون سوق العمل كل عام"، "قوانيننا لا تزال اشتراكية، ويجب أن يتغير ذلك لصالح صاحب العمل والموظف

أحمد الطبقجلي، كبير الإستراتيجيين في "آسيان فرونتير كابيتال"

وأضاف أنه بعد سنة 2003، "أصبح النظام المصرفي فاسدا للغاية. وهم لا يثقون بالمصارف، إذ أفلس كثير من المصارف وشطبت ثرواتهم". وأشار إلى أن هناك أيضا "فرصا محدودة لاستثمار مبالغ صغيرة. على سبيل المثل، ليس لدينا بورصة فاعلة، وليس لدينا أسواق ثانوية فاعلة. لذا إذا كان لديك 5,000 أو 10,000 دولار، فليس هناك ما تفعله بها" من حيث الاستثمار. علما أن أحد الأهداف الرئيسة لصندوق التنمية، هو توظيف هذه "الأموال الخاصة المتاحة خارج النظام".

وقال النجار أيضاً: "من أهداف الصندوق الأخرى إعادة تفعيل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. العراق في السبعينات والثمانينات كان يقوم على تلك المؤسسات، وكانت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي هائلة. لكن في أعقاب سنة 2003 تضاءل دورها كثيراً بسبب التركيز على المشاريع الضخمة".

صراف يعد مبلغ بالدينار العراقي في مدينة البصرة جنوب العراق، في 12 ديسمبر 2023.

القطاع الخاص في مقابل القطاع العام "الاشتراكي"

أوضح أحمد الطبقجلي، كبير الإستراتيجيين في "آسيان فرونتير كابيتال"، ردا على أسئلة "المجلة"، أن "القطاع العام، على الرغم من كل علله، لديه خصائص جذابة للغاية للأفراد. فهو يوفر وظيفة آمنة، ومزايا، ومعاشات تقاعدية".

"لماذا يوجد كثير من الأموال؟ بعض الأموال شرعية تماما، ادخرها الناس ببساطة". أما في شأن البقية "فإنني لا أريد التطرق إلى ذلك. هناك كثير من الثغر في الموازنات السابقة. لكننا نستهدف الأموال الشرعية، وهي بحد ذاتها مبلغ ضخم".

وأضاف: مع ذلك، "الحكومة لا تستطيع استيعاب أعداد الشباب الكبيرة الذين يدخلون سوق العمل كل عام"، ويجب تعديل قوانين العمل لتسهيل الوصول إلى القطاع الخاص. وشدد الطبقجلي على أن "قوانيننا لا تزال اشتراكية، ويجب أن يتغير ذلك لصالح صاحب العمل والموظف". وأشار إلى أن قانون التقاعد الذي أقر في العام المنصرم "خطوة في الاتجاه الصحيح"، لكن يجب تنفيذه، إلا أنه "قد يرتب تبعات على الحكومة من حيث الالتزامات المالية".

"يستطيع القطاع الخاص بناء مدارس أفضل لأن هذا عمله"، في حين يبقى التعليم نفسه من اختصاص الحكومة ومسؤوليتها

محمد النجار، الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية والمستشار الخاص لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الاستثمار

وأوضح الطبقجلي، الذي لديه عقود من الخبرة في الأسواق الرأسمالية ويعمل زميلا أول غير مقيم في برامج الشرق الأوسط بـ"المجلس الأطلسي"، أن "العقبات الهيكلية" أمام الاستثمار والتوظيف في القطاع الخاص "هي في الدرجة الأولى القواعد والأنظمة التي تحكم طريقة عمل الشركات، وهو أمر معقد للغاية ومرهق للغاية وبيروقراطي للغاية ومكلف للغاية".

وقال: "علاوة على ذلك، ليس لدينا قوانين للإفلاس. وذلك يجعل من شبه المستحيل إلى حد ما أن تفلس أي شركة. القطاع الخاص يقوم على أفراد يمارسون أعمالا تفشل فيفلسون. ثم يبدؤون من جديد بدون أي التزامات ما داموا يتبعون القواعد والقوانين. لذا يجب تعديل ذلك".

موقع صندوق العراق للتنمية
مدرسة نموذجية ضمن برنامج "إيدوبا" الذي أطلقه الصندوق لبناء 400 مدرسة يتم طرحها على شكل فرص استثمارية

وأضاف أن هناك "قضايا هيكلية أخرى، كهيمنة الدولة في بعض الصناعات"، لافتا إلى وجود "عوائق هيكلية هائلة في مجال السلع المتداولة على سبيل المثل، ومنها قيمة العملة. وربما يكون من الأرخص أن تؤسس الشركة في إيران أو تركيا وتصدّر إلى العراق". وأوضح بما لا لبس فيه، "أخيرا، أقول إن الفساد مشكلة كبرى".

بناء المدارس للقطاع الخاص... والتعليم مسؤولية الدولة

وقال النجار لـ"المجلة" إن "القطاع الخاص يستطيع بناء مدارس أفضل لأن هذا عملهم"، في حين يبقى التعليم نفسه من اختصاص الحكومة ومسؤوليتها. وأوضح الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية "أننا نقدم الأرض للمستثمر الذي يبني المدارس، ثم نستأجرها منه لمدة 10 سنوات. وباتباع هذا المخطط، نستطيع بناء 10 مدارس في مقابل كل مدرسة كنا نبنيها في الماضي. إننا نستعين بـ 4 مليارات دولار تقريبا من أموال القطاع الخاص لبناء المدارس لتستأجرها الحكومة. وبذلك نستحدث الكثير من فرص العمل - وبعض فرص الاستثمار".

وأشار إلى أن "هذه هي المرة الأولى" التي يجرَّب فيها شيء كهذا في العراق. "إنه مفهوم جديد. وعلى نحو ذلك، سنقوم بما يسمى الإيجار المنتهي بالتمليك، حيث يبني المستثمرون المنازل للمواطنين، ويدفع المواطنون إيجارا للحكومة ويسددون أموال المستثمرين". وزعم أن "لدينا مستثمرين أكثر مما لدينا مشاريع".

حل العراق في المرتبة 154 عالميا من بين 180 دولة من حيث الفساد

تقرير "منظمة الشفافية الدولية

يؤدي ارتفاع مستويات الفساد بالإضافة إلى النظام البيروقراطي الراسخ والعميق الذي يساهم فيه على الأرجح، إلى إعاقة محاولات صندوق التنمية لتحقيق النتائج المرجوة.

وكان رئيس الوزراء محمد شياع السوداني قال في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 2023: "إن تحديد الفساد ومكافحته من أولى أولوياتنا"، لا سيما أن الفساد والإرهاب "مترابطان".

ووفقا لتقرير "منظمة الشفافية الدولية" الأخير، حل العراق في المرتبة 154 عالميا من بين 180 دولة من حيث الفساد، محققا تقدما طفيفا مقداره ثلاث مراتب عما كان عليه في العام المنصرم عندما حل في المرتبة 157. 

هناك تحدٍ آخر، هو الاعتقاد السائد في أوساط كثير من العراقيين بأن لكل مواطن الحق في الحصول على راتب منتظم من الحكومة و/أو وظيفة حكومية إذا كان يحمل شهادة مناسبة. وقد نظم حملة الشهادات الطبية وغيرها من الشهادات احتجاجات في مناطق عدة في السنوات الأخيرة مطالبين الحكومة بتوظيفهم على الفور.

كثير من الموظفين وقليل من الأدوية

ولكن وفقا لمقيم في الموصل تحدثت معه "المجلة"، فإن المستشفى الذي يعمل فيه أحد أقربائه لديه عدد كبير من الموظفين في الصيدلية، ولا يتوفر للمستشفى نفسه إلا قليل من الأدوية، ويضطر المرضى عادة لشراء جميع مستلزمات العمليات والإجراءات الطبية الأخرى من خارج المستشفى. لذا يمضي قريبه يومه بأكمله من دون عمل فعلي إلى جانب عدد كبير من الموظفين الآخرين، بوصفهم جزءاً من نظام عديم الكفاءة.

السياسيون بعد 2003 كانوا في حاجة إلى أصوات الناخبين فاستغلوا ارتفاع مستويات البطالة، وقبل ذلك لم يكن عدد موظفي القطاع العام يتجاوز 600 ألفا، في حين لدينا الآن 5 ملايين موظف!

محمد النجار، الرئيس التنفيذي لصندوق العراق للتنمية والمستشار الخاص لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الاستثمار

وأشار النجار إلى أن الانتخابات المنتظمة لا تتواءم مع هذه الأفكار الراسخة عن "حق التوظيف" في عمل الحكومة. وأضاف أن السياسيين في أعقاب سنة 2003 كانوا في حاجة إلى أصوات الناخبين فاستغلوا ارتفاع مستويات البطالة والشعور العام بأحقية الحصول على راتب حكومي. وقبل ذلك "لم يكن عدد موظفي القطاع العام يتجاوز 600,000 على ما أعتقد، في حين لدينا الآن 5 ملايين موظف".

وذكر النجار أنه "مع النظام الديمقراطي جاءت الفكرة بأن تحرّك المعارضة الحشود للتظاهر كلما أرادت إيذاء الحكومة" للحصول على وظائف. "والآن نخرّج منذ سنوات وسنوات هؤلاء الشباب من جامعاتنا من دون خطة اقتصادية". وأوضح أن "مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد ضئيلة للغاية بحيث لا يقدم نفسه بديلا جادا أو منافسا" للوظائف الحكومية. 

ويَجمع العديد من العراقيين أيضا بين الراتب الحكومي، أو المدفوعات الشهرية المخصصة للأقارب "الذين استشهدوا" في أعمال ضد الإرهاب أو لأسباب أخرى، ومصادر دخل غير رسمية.

على سبيل المثل، قال سائق سيارة أجرة استقلها فريق "المجلة" في طريقه لمقابلة النجار إنه حصل أخيرا على "معاش تقاعدي" لابنه الذي قُتل في أثناء "القتال ضد الأميركيين في سنة 2006".

وأشار إلى أنه انتظر ما يزيد على عشر سنوات للحصول على هذا المال، ولم يأت إلا في عهد الحكومة الحالية، لذا قال إنه يشعر بأن رئيس الوزراء الحالي هو "أفضل رؤساء الوزارات على الإطلاق"، مع أنه غير مثالي.

لدينا حكومة تدعي الاشتراكية منذ ما يقرب من 70 عاما حتى الآن. وقد نقلوا البلاد من إدارة الاقتصاد إلى إدارة محطة للوقود. هذا هو اقتصادنا اليوم: نصدر النفط، ونحصل على المال، وننفقه على الرواتب

محمد النجار، رئيس صندوق العراق للتنمية والمستشار الخاص لرئيس مجلس الوزراء لشؤون الاستثمار

وعلق النجار على مدفوعات حكومية مماثلة بأنها "وسيلة للحصول على 500 دولار من دون فعل شيء، ثم جني ما قد يصل إلى 2000 دولار (شهريا) من قيادة سيارة أجرة".

وختم: "لدينا حكومة تدعي الاشتراكية منذ ما يقرب من 70 عاما حتى الآن. وقد نقلوا البلاد من إدارة الاقتصاد إلى إدارة محطة للوقود. هذا هو اقتصادنا اليوم: نصدر النفط، ونحصل على المال، وننفقه على الرواتب".

وأشار إلى أن الأجيال المتعاقبة "لم تعرف إلا العمل في الحكومة، وقد أصبح ذلك ثقافة". ويحاول صندوق العراق للتنمية تغيير هذه الثقافة، لكنه أقر بأن "ذلك سيستغرق وقتا طويلا".

font change

مقالات ذات صلة