ترمب و"بيبي"... وإغواء "النصر الكامل"

لا يريد ترمب أن تصل قضية لبنان إلى مكتبه في البيت الأبيض

ناش ويراسكيرا
ناش ويراسكيرا

ترمب و"بيبي"... وإغواء "النصر الكامل"

القدس- في أوائل سبتمبر/أيلول الماضي، واجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واحدة من أضعف لحظاته منذ بداية الحرب، بعد مقتل بعض الرهائن الموجودين لدى "حماس"، ما أثار زوبعة من الغضب من جديد في شوارع تل أبيب. كان الضغط يتصاعد داخليا ودوليا، ودخلت الحرب على غزة في حالة جمود، حيث بدا أن استراتيجية الضغط على "حماس" غير فعالة، وصارت إدارة بايدن تتحدث بشكل علني متزايد عن إحباطها من نتنياهو، بينما بقي سكان شمال إسرائيل بعيدين عن منازلهم.

ولكن بحلول نوفمبر/تشرين الثاني، تغيرت الأوضاع بشكل كبير لصالح الزعيم الإسرائيلي المحاصر. ولولا سلسلة من التحقيقات المزعجة حول كيفية استخدام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لتسريبات استخباراتية لمصلحته، لكان "بيبي" في قمة سعادته: لقد وجهت إسرائيل ضربات قوية لـ"حزب الله" وإيران، وأجبرت "حزب الله" على فصل جبهة لبنان عن غزة، ومات يحيى السنوار وحسن نصرالله، وخمدت ضجة الانتقادات المزعجة الصادرة عن وزير الدفاع يوآف غالانت، ثم توّج ذلك كله بانتخاب الرئيس دونالد ترمب.

إن الفقاعة المحيطة بنتنياهو، والتي تستمر في التضخم بتأثير دومينو "الانتصارات" المتتالية، واقعة تحت إغواء فكرة النصر، ما يغريها بالضغط بقوة أكبر على "حماس" حتى تنهار، واستغلال "حرية الحركة" التي ضمنت الولايات المتحدة جزءا منها في لبنان لتعزيز نفوذه، ويزيّن لها ضرب إيران مرة أخرى ودفع النظام إلى حافة الهاوية.

حتى هذه اللحظة، كان وعد نتنياهو بتحقيق "النصر الكامل" يبدو أقرب إلى شعار فارغ. ولكن بالنسبة للملتفين حوله، كان انتخاب ترمب هو الإشارة الأخيرة إلى أن النجوم قد اصطفت انحيازا إليه، وأن أولئك المشككين في قدرة إسرائيل على "تغيير الشرق الأوسط" سيثبت أنهم على خطأ.

كان رئيس الوزراء الإسرائيلي من أوائل الذين هنأوا الرئيس ترمب على "النصر الساحق": ويكاد المرء يزعم أن "النصر الكامل" لن يكتمل حقا من وجهة نظر نتنياهو دون انتصار ترمب. فبهذا الانتصار سوف تنقشع الغيوم، كما سيقدم دفعة قوية للمضي قدما. من ناحية أخرى، يشعر المتشككون بالقلق من أن نتنياهو ربما يشرب ما يغذي أوهامه الخاصة حول نصر قد لا يأتي أبدا (بغض النظر عمن سيجلس في البيت الأبيض). لكنه قد يجلب نصيبه العادل من الهزائم والمعاناة.

"مفاجأة" ترمب؟

فيما يخص جبهة غزة، دفع تعهد الرئيس ترمب بـ"إنهاء الحروب" بدلا من إشعالها إلى اعتقاد البعض بأنه قد يكون قادرا على إقناع نتنياهو بوقف إطلاق النار. وزعمت التقارير أن الرئيس ترمب ربما دعا إسرائيل إلى "إنهاء الأمور" قبل تنصيبه في العشرين من يناير/كانون الثاني. وقام نتنياهو نفسه بإرسال مستشاره المقرب، وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، إلى الولايات المتحدة، في محاولة لاستيضاح ما يريده ترمب.

التصور بأن ترمب يتمتع بنفوذ أكبر على نتنياهو، وأنه سوف يستخدم نفوذه ذاك، هو ضرب من الوهم ليس إلا. وإنه لأمر بعيد الاحتمال أن ينشب خلاف علني بين ترمب ونتنياهو

ويعتقد مؤيدو وقف إطلاق النار أن نتنياهو لن يكون قادرا على مقاومة ترمب إذا ضغط عليه الرئيس الأميركي الجديد لإنهاء الحرب، فترمب شخص لا يمكن التنبؤ بتصرفاته لدرجة أنه لن يخاطر بفرصه معه.

وقد لا يخلو هذا الأمر من بعض الحقيقة. فبمجرد خروج ترمب من البيت الأبيض، نشأ خلاف بين الزعيمين. ولم يأبه الرئيس ترمب بتنميق كلماته عند اتهامه لنتنياهو بعدم الولاء بسبب قراره بتهنئة الرئيس بايدن، بل ذهب إلى إطلاق كلمة نابية في حقه. وسوف يتذكر نتنياهو ذلك، وهو الذي يعرف حق المعرفة كيف يمكن للمرء أن يفقد حظوظه مع ترمب بسهولة.

سعى نتنياهو على مدى الأشهر الماضية إلى إصلاح العلاقة، وهو ما نجح فيه أخيرا في يوليو/تموز، خلال زيارة له إلى واشنطن. من الممكن أن تلعب علاقة نتنياهو المتوترة مع بايدن، وتحديه للإدارة الأميركية، دورا جيدا أيضا مع الإدارة الجديدة. لكن الحيل التي استخدمها نتنياهو، بما فيها استرضاء ترمب والجمهوريين عندما كانت التوترات عالية مع بايدن، لن تنجح بعد الآن: فعام 2025 لن يكون عام انتخابات، ومن غير المرجح أن يمارس الديمقراطيون نفس الألعاب التي لعبها الجمهوريون. وإذا كان ترمب سيمارس الضغط على إسرائيل، فمن غير المرجح أن يعارض الديمقراطيون.

ثنائي مثالي هبط من الجنة

ومع ذلك، فمثل هذا التصور بأن ترمب يتمتع بنفوذ أكبر على نتنياهو، وأنه سوف يستخدم نفوذه ذاك، هو ضرب من الوهم ليس إلا. وإنه لأمر بعيد الاحتمال أن ينشب خلاف علني بين ترمب ونتنياهو لأنه لن يكون منطقيا بالنسبة لمؤيديهما المحليين. فلماذا يتناحر زعيمان يبدو أنهما يتفقان على الكثير من الأمور؟ ولماذا يتشاجر نتنياهو مع زعيم انحاز بوضوح ليس إلى إسرائيل وحسب، بل إلى اليمين الإسرائيلي على وجه التحديد، وهو الزعيم الذي فضله "بيبي" على بايدن بوضوح؟

ومن المرجح أيضا أن ينتقل هذا التوافق العلني إلى فريق السياسة الخارجية الخاص بكلا الزعيمين. إذ سرعان ما عين الرئيس ترمب سفيره الجديد لدى إسرائيل: الحاكم السابق مايك هاكابي. وهو أحد قادة الكنيسة الإنجيلية، وواحد من أكثر الأصوات المؤيدة لإسرائيل والتي تدعم السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. ولقي تعيين هاكابي ترحيبا حارا من وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير. وبدوره، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن اختيار السفير القادم في أميركا: يحيئيل ليتر، وهو مدافع آخر قوي عن المستوطنات ومؤيد للحرب في غزة. ويكاد يكون السفيران وجهين لعملة واحدة، إذ يمكن لهما تبادل المواقع بسهولة، ولن يلاحظ أحد الفرق، لأنهما يتفقان في جميع النقاط.

ما لم يغير ترمب مساره ويبدأ في الاهتمام بكيفية إنهاء الصراع، فإن الرسالة التي ستصل إلى نتنياهو هي أنه يمكنه أن يخفي الصراع بعيدا عن الأضواء

وعلى الرغم من أنني أعتقد شخصيا أن ترمب ليس من محبي "بيبي" (وأن الآخر يبادله المشاعر نفسها) فإن أيا منهما لن يستطيع تحمل تداعيات علنية لمثل هذه المشاعر، ولا حتى أدنى قدر من الانتقادات الموجهة إلى الطرف الآخر. لقد اعترف ترمب بإحباطه بسبب سلوك "بيبي" خلال فترة ولايته الأولى، لكنه لم يتمكن من التعبير عن هذا الشعور إلا بعد خروجه من البيت الأبيض. وخلال ولايته، بدا الزعيمان متقاربين للغاية. والآن بعد أن عاد ترمب إلى البيت الأبيض، فإن كراهيتهما الشخصية، والخلافات السابقة بينهما، أقل أهمية من التصور السائد بين قاعدتي جماهير كلا الزعيمين بأنهما "ثنائي مثالي هبط من الجنة".

وهم وقف إطلاق النار في غزة

يشكل ترمب في الواقع لغزا محيرا، وهو ما يدفع حتى خصومه الأيديولوجيين إلى التضرع إلى الله لكي ينجلي هذا الغموض فيكشف عن "مفاجأة سارة"، خصوصا إزاء تعهده "بإنهاء الحروب". ولكن هذا الوهم يذكر فقط، في كثير من النواحي، بالمرحلة الأولى من وجع الفقد، ألا وهي الإنكار.

من المؤكد أن سياسة ترمب تجاه غزة تحتاج إلى بعض عمليات فك التشفير والإيضاح. فقد أدلى الرئيس بتصريحات متضاربة فيما يتعلق بغزة، فدعا في بعض الأحيان إلى "إنهاء حماس"، وفي أحيان أخرى دعا إلى إنهاء الصراع. وفي إحدى المقابلات الهامة مع صحيفة إسرائيلية يمينية، بدا أن ترمب يدين حتى قصف إسرائيل للمناطق المأهولة في غزة.

ناش ويراسكيرا

بيد أن ترمب لم يكن يدين القصف في حد ذاته بقدر ما كان يدين حقيقة أن العالم كان قادرا على رؤيته. حيث كان ينتقد إسرائيل لنشرها صورا للغارات الجوية في غزة، لكنه كان أقل انزعاجا من الضربات نفسها. وهنا يكمن مفتاح قراءة سياسة ترمب: فالرئيس الأميركي القادم لا يزعجه استمرار الصراع في حد ذاته، بل حقيقة أنه حظي بهذا القدر من انتباه العالم.

عندما يقول ترمب إنه يريد "إنهاء" الأمور، فهو لا يشير بالضرورة إلى وقف إطلاق النار، بقدر ما يشير إلى إنهاء الاهتمام العام المحيط بالقضية. ما يقوله ترمب هو: "اجعل هذه المشكلة تختفي". وعلى عكس إدارة بايدن، فترمب لا يبدي أي اهتمام بـ"اليوم التالي" في غزة. فهو غير مهتم بكيفية انتهاء الحرب، أو ما إذا كانت تمهد الطريق لحل سياسي للصراع. إنه، باختصار، يريد إبعاد هذا الملف المزعج عن مكتبه، بحيث يكون قادرا على تجاهله.

وما لم يغير ترمب مساره ويبدأ في الاهتمام بكيفية إنهاء الصراع، فإن الرسالة التي ستصل إلى نتنياهو هي أنه يمكنه أن يخفي الصراع بعيدا عن الأضواء طالما استطاع أن يبقيه ضمن السيطرة. وهذا يتماشى مع رؤية نتنياهو حول كيفية إنهاء الحرب، وهي الرؤية التي تركز على الأمن: أي استمرار العمليات العسكرية بمستوى منخفض، مع احتفاظ إسرائيل بوجود رئيس على طول عدة ممرات، وحتى إخلاء شمال غزة.

المسألة الإيرانية

ثم يبرز السؤال الأهم: ماذا عن إيران؟

يبدو أن نتنياهو، الذي يستمد قوته من نجاحه في إجبار "حزب الله" على التراجع وقبوله بالصفقة، إلى جانب تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية الأكثر تطورا، قد قرر الآن "تركيز جهوده على التهديد الإيراني"، بالتزامن مع إعلانه وقف إطلاق النار في لبنان. ويُعتبر هذا الاتفاق "هدية" لترمب مع اقتراب ولايته الجديدة، حيث حرصت إسرائيل على إرسال أحد وزرائها للتواصل مع ترمب وفريقه قبل الموافقة النهائية على الاتفاق.

حتى إذا قرر ترمب تجربة الدبلوماسية مع إيران، فإن هذه المحاولة لن تستمر طويلا ولن تؤدي إلى أكثر من صور تذكارية تجمعه مع من يقبل بالظهور إلى جانبه في إيران

يُتيح وقف إطلاق النار فرصة لاستمرار العمليات العسكرية في غزة حتى تحقيق "النصر الكامل" الذي وعد به نتنياهو، بالإضافة إلى تمهيد الطريق لتبني موقف أكثر عدوانية تجاه إيران. فإخراج "حزب الله" من المعادلة عبر اتفاق وقف إطلاق النار يمنح إسرائيل مساحة أكبر للتحرك ضد إيران؛ إذ لم يكن "حزب الله" مجرد وكيل تقليدي، بل كان الركيزة الأساسية في استراتيجية الردع الإيرانية أمام إسرائيل.

ويأتي هذا الاتفاق في توقيت مثالي، مع استعداد ترمب للعودة إلى استراتيجيته المتمثلة في "الضغط الأقصى". ورغم ذلك، تظل خطط ترمب الدقيقة غامضة. ويبدو أن جزءا من القيادة الإيرانية قد راهن على إمكانية إقناع الرئيس المنتخب بالنظر في اتفاق دبلوماسي. وفي المقابل، يراهن نتنياهو على أن مثل هذا الاتفاق لن يتحقق أبدا، نظرا للفجوة الواسعة بين إيران وإدارة ترمب الجديدة.

وسيتعين على نتنياهو التحرك بحذر لتجنب تصويره وكأنه يدفع ترمب نحو دورة تصعيد تمنع الرئيس من فتح "نافذة مع إيران". فنتنياهو يدرك ميل ترمب نحو إبرام الصفقات، وقد يختار ترك الأمور تأخذ مجراها حتى تصل إلى نتيجتها المتوقعة: الفشل وتجدد التوترات.

حتى إذا قرر ترمب تجربة الدبلوماسية مع إيران، فإن هذه المحاولة لن تستمر طويلا ولن تؤدي إلى أكثر من صور تذكارية تجمعه مع من يقبل بالظهور إلى جانبه في إيران. وسرعان ما ستعود استراتيجية "الضغط الأقصى" إلى الواجهة. وإذا لم تنطلق المحادثات أبدا، أو انهارت بسرعة، فإن الدوائر نفسها التي تدفع إسرائيل إلى تصعيد الضغط ستعتبر أن الظروف أصبحت مثالية لتوجيه ضربات كبيرة للنظام الإيراني، سواء بغطاء من البيت الأبيض الصديق أو حتى بدعم مباشر منه.

وفي حال عدم تحقق اتفاق غير مرجح بين الولايات المتحدة وإيران، يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تعتمد على الدعم الضمني من الإدارة الأميركية، وعدم قدرتها على كبح جماح إسرائيل علنا أو سرا، بالإضافة إلى فريق السياسة الخارجية الأميركي المؤيد لها، لتنفيذ مزيد من الضربات ضد إيران. وقد يتطور "الصراع المستمر" بين إيران وإسرائيل- الذي يتبادل فيه الطرفان الهجمات– إلى نزاع شامل.

font change

مقالات ذات صلة