رضوى عاشور في ذكرى رحيلها العاشرة... وجوه متعددة ومسيرة حافلة

ناقدة وروائية مشتبكة مع قضايا المجتمع والسياسة

رضوى عاشور في ذكرى رحيلها العاشرة... وجوه متعددة ومسيرة حافلة

روائية وناقدة، مفكّرة وباحثة، ومناضلة تسعى إلى التغيير، وهي مع كل ذلك امرأة في العالم العربي يفرض عليها الكثير من القيود التي تعمل بفكرها وإبداعها على تحدّيها وتجاوزها.

ولدت رضوى عاشور في القاهرة مايو/ أيار 1946، كان جدها لأمها المفكر والأديب الكبير عبد الوهاب عزام وابن عم عبد الرحمن عزام، صاحب فكرة تأسيس جامعة الدول العربية وأول أمين عام لها عام 1945، ووالدها مصطفى عاشور عمل بالمحاماة، حصلت على الماجستير في الأدب العربي من جامعة القاهرة عام 1972 عن دراستها عن جبران وبليك، ثم كانت أول أعمالها النقدية دراسة في أدب الروائي الفلسطيني غسان كنفاني نشرت عام 1977 بعنوان "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، ترصد فيه العلاقة بين الأدب الواقعي والتاريخي والدور الذي يمارسه الأديب لكي يسجل ويؤرخ لواقعه لا سيما إذا كان واقعا مأسويا مليئا بالصراعات والحروب على النحو الذي قدّمه كنفاني في كتابته، واستطاعت من خلاله أن تقدّم رؤية نقدية متماسكة تنطلق من المنهج الاجتماعي الذي يعتمد على دراسة أعمال الأديب انطلاقا من بيئته ومجتمعه وصولا إلى جوانب التشكيل الفني والأدبي التي استخدمها في كتابته خلال مسيرته الفنية التي لم تستمر طويلا.

كذلك كانت دراستها في الأدب المقارن كاشفة عن وجهة نظر خاصة، حيث تناولت اتجاهات الأدب الأفريقي في كتابها "التابع ينهض"، المنشور عام 1980، الذي رأت فيه ضرورة الاتصال الثقافي بين بلاد العالم الثالث عموما، والقارة الأفريقية بشكل خاص، ليس فقط لما تواجهه تلك القارة من مشكلات مشتركة وتطلعات مماثلة، ولكن أيضا لما في فنون هذه القارة وآدابها من قيم الثقافة الإنسانية.

يوميات

أما الكتابة الأدبية فقد بدأتها رضوى عاشور من خلال اليوميات، فكان كتابها الأول "الرحلة" مذكرات طالبة مصرية في أميركا، عام 1983وذلك أثناء بعثتها بعد تخرجها في كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية لإعداد رسالة الدكتوراه في الأدب المقارن، ومنذ ذلك الوقت وربما قبله ظهر عندها ذلك الوعي والاهتمام بالمقارنة بين المشروعين العربي والغربي، ومراحل الصراع لا سيما التي تهدد الوجود والهوية، وسرعان ما اكتشفت في نفسها تلك الموهبة الأدبية، والرغبة في خلق عوالم خاصة بها، فكانت روايتها الأولى "حجر دافئ"، التي أرادت منها أن تحكي حكاية بسيطة لأسرة مصرية متوسطة الحال ترصد من خلالها مصر في السبعينات.

تميزت كتابة رضوى عاشور الأدبية بقدر كبير من الشاعرية، ولكنها ليست الشاعرية المعتمدة على اللغة فحسب وإنما تلك المستمدة من رصد المواقف والأحداث


تميّزت كتابة رضوى عاشور الأدبية بقدر كبير من الشاعرية، ولكنها ليست الشاعرية المعتمدة على اللغة فحسب وإنما تلك المستمدة من رصد المواقف والأحداث، سواء كان ما تتحدث عنه علاقة بين الأم وابنتها كما حكت في رواية "خديجة وسوسن"، أم بين أفراد ومجتمعهم والأحداث السياسية التي جرت وأثرت فيهم، كما فعلت في رواية "فرج" التي حكت طرفا مهما من تاريخ مصر منذ الستينات، أو في غيرها من الروايات. ففي كل مرة ومع كل تجربة كتابية، تستطيع رضوى عاشور أن تلتقط المشاعر الإنسانية في ما تحكيه، ولديها تلك القدرة الخاصة على الانتقال من الخاص، سواء في سيرتها الذاتية أو حكايات أبطال روايتها، إلى العام الذي يعكس صورة المجتمع العربي ويعبر عن آلامه وأحلامه.

ثلاثية غرناطة والطنطورية

مثلت رواية "ثلاثية غرناطة" الصادرة عام 1995 (بعد اكتمالها، فقد نشرت على ثلاثة أجزاء منفصلة ضمن روايات الهلال) نقلة نوعية في مشوار رضوى عاشور الأدبي، فالرواية التي عادت بها إلى التاريخ لترصد كيف سقطت الأندلس على أيدي القشتاليين في 1491م تستدعي كل الحروب والمعارك التي خاضها العرب وصولا إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948 وما جرى بعدها من مذابح. الرواية، وإن كان التفكير فيها وكتابتها جاءا كما ذكرت الكاتبة آنذاك في وقت غزو العراق للكويت عام 1991 وما حدث بعده، إلا أنها استطاعت أن تستحضر من خلالها ذلك التاريخ العربي الذي كاد يكون منسيا في رواية مؤثرة تقرأ بتفاصيلها الثرية إلى يومنا هذا، وتستطيع أن تكون حاضرة مع كل قراءة.

غلاف رواية "ثلاثية غرناطة".

بعد ذلك بأعوام، وقبيل الثورة المصرية عام 2011، اصدرت رضوى عاشور روايتها التي تقترب من الجرح الفلسطيني بشكل مباشر، وتتناول أحداث فلسطين من واقع قرية احتلّت وهجّر سكانها، ولكنها خلدت قصتهم وحكايتهم في رواية "الطنطورية" التي تحكي فيها حكاية رقية ابنة تلك القرية وعائلتها عبر أجيال ثلاثة وعبر العالم العربي الممتد. سيرتها التي تمر على الأحداث السياسية والتاريخية العربية الكبرى، منذ حرب 1948 ومشاركة العرب الفلسطينيين فيها، بل والمسلمين جميعا حتى يعدد والد رقية جنسيات الشهداء ويخص بالذكر الهندي والباكستاني الذي جاء ليستشهد في أرض فلسطين، ومذبحة "الطنطورة" تلك القرية الواقعة جنوب حيفا التي اختارتها رضوى عاشور لتذكرنا بأن فلسطين ليست أرض التقسيم، بل إن فلسطين أرض عربية. ثم تتوقف كذلك لرصد نكسة 67 على الجانب الآخر، الجانب الفلسطيني والعربي، الذي كان قد عقد الآمال العريضة على جمال عبد الناصر فتعرض للخذلان. وما جرى بعد ذلك من معاهدات سلام وأثرها على القضية الفلسطينية، حتى تصل إلى مذابح صبرا وشاتيلا عام 198، ومقتل ناجي العلي في 1987، لتسرد حكاية هذا البطل الفلسطيني الذي تتخذ منه رمزا للقضية وللأمل.

في "ثلاثية غرناطة" تستحضر التاريخ العربي الذي كاد يكون منسيا في رواية مؤثرة تُقرأ بتفاصيلها الثرية إلى يومنا هذا

ورغم أن الرواية تزخر بذلك التاريخ القاسي من الحروب والصراعات، إلا أن عاشور استطاعت أن تجمع ببراعة بين السرد التاريخي والحكاية الاجتماعية، من خلال حكاية العائلة وعلاقات أفرادها ورصد تفاصيل المواقف بينهم، بل واختلافاتهم السياسية والحزبية، وآرائهم في المقاومة والحرب، تلك الأسرة الفلسطينية التي حملت همّ القضية وانتقلت به من فلسطين إلى الكويت حتى استقر بها المقام في مصر، وبقيت أحلام العودة حاضرة في أذهانهم وأذهان أجيالهم التالية.

غلاف رواية "الطنطورية".

هكذا أدركت عاشور أهمية سرد التاريخ المعاصر في الرواية، وأن تترك للأجيال الجديدة أثرا باقيا يتناول تلك القضية المهمة التي لا يزال أثرها وصداها يترددان حتى اليوم.

رحلة أخيرة

ومثلما بدأت مشوارها الأدبي في الكتاب باليوميات، كان آخر ما كتبته هو اليوميات أيضا، ولكن هذه المرة لم تكن رحلة طالبة إلى أميركا، بل رحلة أستاذة كبيرة في العلاج من مرض السرطان، وشاءت الأقدار أن يتزامن مرضها مع بداية الثورة المصرية في 2011، فحزنت لعدم مشاركتها المصريين تلك الأيام الأولى، وحملت تلك اليوميات عنوان "أثقل من رضوى" الذي توثق فيه يوميات مرضها، ثم تلاه كتاب "الصرخة" الذي تحوّل من مجرد عرض ليوميات مؤلمة أو تفاصيل قاسية في رحلة المرض إلى محاولة للتأمل والتغلب على ذلك الشعور القاسي ولو بالكتابة.

غلاف كتاب "لكل المقهورين أجنحة".

بعد وفاتها جمعت عائلتها عددا من مقالاتها المنشورة في  الدوريات في كتابها الأخير "لكل المقهورين أجنحة"، وفي هذا الكتاب تظهر بجلاء تلك الوجوه المتعددة والمختلفة لرضوى عاشور  المثقفة العربية المهتمة بشؤون شعوب المنطقة الحريصة على الدفاع عنها، ففي الكتاب أربع محطات رئيسة كانت ملهمة ومؤثرة في حياتها، بدءا من علاقتها باللغة والأدب والكتابة الروائية، مرورا بعلاقتها الخاصة بفلسطين كقضية وموضوع سواء للدراسة أو النضال، ثم تتوقف عند علاقتها بالجامعة المصرية والدراسة الأكاديمية ما لها وما عليها، وهو وجه قد يغيب عن قراء أدبها ورواياتها، ثم تتوقف بشكل خاص عند فصل خاص بأصدقاء الكتابة والنضال في مراحل عمرها المختلفة في فصل تسميه "الرفاق".

استطاعت عاشور في "الطنطورية" أن تجمع ببراعة بين السرد التاريخي والحكاية الاجتماعية


في البداية يأتي الحديث عن علاقتها بالأدب والنقد، ويبدو اهتماما واضحا بأن تشير إلى بواكير الرواية العربية، لا سيما ما تذكره عن كتاب فارس الشدياق "الساق على الساق" وكيف أنه كان سباقا على ما عرف في الأدب العربي في ذلك الوقت، كما تركز الحديث حول عدد من المناهج النقدية واستخدامها في قراءة الرواية عربيا وعالميا. في حديثها عن الرواية بشكل خاص تشير رضوى عاشور إلى أهمية الكتابة الروائية وعلاقتها بالتاريخ والمجتمع فتقول:

"الرواية هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكا بالواقع التاريخي، لها ما لباقي الفنون من قدرة على ربط الخاص بالعام، والفكرة المجردة بالحياة التي تستعصي على التجريد، ودمج التسجيلي بالمتخيَّل، في إطار بنيةٍ متكاملة تحيل إلى معنى كلي يخلخله نسيجٌ لا تخضع عناصره جميعا لذلك المعنى، بل تنفلت من أسره لتولِّد بدلا من المعنى الواحد القاطع معاني مفتوحة على المتعدد من التأويلات.. ما يميِّز الرواية هو تلك العلاقة بالواقع الاجتماعي في امتداده وصيرورته، فهي تخبر عن بشرٍ في سياق هو سياقٌ مستمد ضمنا أو صراحة من خارج النص".

التعليم الجامعي

في الفصل الخاص بالجامعة تتناول ما يجب أن يكون عليه التعليم في المرحلة الجامعية وذلك انطلاقا من تجربتها وخبراتها في الدراسة الأكاديمية، وكونها عضوا فاعلا في الحراك الطالبي الجامعي بداية، ثم في السلك الأكاديمي كأستاذة جامعية في ما بعد، حيث ترصد حال التعليم الجامعي في مصر وما حدث فيه من تغيرات، وتقدم رؤية خاصة لما يجب أن يكون عليه ذلك التعليم من اعتماد على البحث الأكاديمي المتطور وليس الاكتفاء بمحاضرات أو كتب مقررة، لأن ذلك هو ما سينشئ التفكير النقدي والعلمي لدى الطلبة في ما بعد بعيدا من أجواء الحفظ والتلقين.

الروائية رضوى عاشور.

 من جهة أخرى تعرض لفترة مهمة من فترات النشاط الجامعي وتفاعله مع ثورة يناير 2011 وكيف كان دور الأساتذة الجامعيين مهما في ذلك الوقت، سواء لتوعية الطلاب أو المشاركة في التظاهرات والفعاليات الاجتماعية والسياسية على حد سواء.

 قدمت رؤية خاصة لما يجب أن يكون عليه التعليم الجامعي من اعتماد على البحث الأكاديمي المتطور وليس الاكتفاء بمحاضرات أو كتب مقررة


ثمة تحية خاصة تتركها رضوى عاشور في فصول هذا الكتاب الأخيرة، التي حملت عنوان "الرفاق" تحدثت فيه في أوقات متفرقة عن الأساتذة والمفكرين الكبار الذين أثروا حياتها، فتتناول علاقتها بهم من ناحية وما قدموه للفكر والأدب العربي بشكل عام من ناحية أخرى. تقدم دراسة مهمة عن المفكر الكبير إدوارد سعيد تجمل فيها ما قرأته من أفكاره وتعرّف بإجمال بدوره في التعريف بالثقافة العربية في الغرب، وكيف مثلت أبحاثه ودراساته، لا سيما كتابه "الاستشراق"، رؤية مهمة غيّرت كثيرا من وجهة النظر السائدة حول العرب لدى المثقفين المهتمين بهذا الشأن في الغرب بشكل عام، والجميل أنها حتى وهي تعرض هذه الرؤى والأفكار المهمة، تجمع بين عرضها وبين موقفها الشخصي من الرجل وكيف بدأت معرفتها ولقاءاتها به مع أصدقائها من طلبة الماجستير في كلية الآداب في ذلك الوقت، وكيف نمت  هذه العلاقة وتطورت مع تراكم القراءات والمعرفة عبر السنين، ثم تنتقل الى الحديث عن واحدة من رواد الكتابة الروائية في مصر وهي لطيفة الزيات فتطوف على سيرتها الذاتية ونشأتها وبداية علاقتها بالأدب والسياسة، وصولا إلى روايتها "الباب المفتوح" الصادرة عام 1960 التي شكلت علامة فارقة في كتابة المرأة العربية بشكل عام، وكيف بقي أثر روايتها وكتابتها اللاحقة ملهمة لجيل كبير من الكاتبات. في فصلٍ تالٍ تتحدث في رثاء الناقد والمفكر نصر حامد أبو زيد و تعرض عددا من أفكاره وما لحق له من ظلم واضطهاد اضطره للسفر خارج مصر، كما يأتي ذكر الناقدين الكبيرين عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، فتوجه إليهما تحية معا وتذكر دورهما في إثراء الحركة النقدية المصرية بدراساتهما وأبحاثهما المستقلة المتميزة.

الروائية رضوى عاشور.

رحلت رضوى عاشور في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 وكان يوما حزينا على الأوساط الثقافية، فقد تركت إرثا كبيرا متنوعا استمد من الماضي بعض بريقه واتصل بالواقع واشتبك مع الحاضر، وسيبقى طويلا ولا شك الى أجيال عديدة.

font change

مقالات ذات صلة