الفجوة الرقمية... ظل يرافق الفقر في عالم الأنترنت

في اليوم العالمي للقضاء على الفقر

شترستوك
شترستوك
أطفال السكان الأصليين يشاهدون شيئا ما من الهاتف المحمول في وقت تعد فيه التكنولوجيا أمر جديد تماما لسكان المناطق الريفية براوب، ماليزيا

الفجوة الرقمية... ظل يرافق الفقر في عالم الأنترنت

تخيل حياتك اليومية بدون وصول موثوق به ومتسق وسريع إلى الإنترنت. ما نوع التأثير الذي قد يحدثه هذا في قدرتك على التواصل مع الآخرين، والبقاء على اتصال مع العائلة والأصدقاء، وإكمال واجباتك المدرسية، والبحث عن وظيفة، ومواكبة الأحداث الجارية، أو الاهتمام بمعاملاتك المالية اليومية؟

أصبح دور التكنولوجيا وأهميتها واضحين بشكل صارخ، حيث أُجبر المجتمع على الاعتماد بشكل أكبر على التكنولوجيا في الحياة اليومية الأساسية، بما في ذلك الوصول إلى السلع الضرورية، والحفاظ على الاتصالات مع الآخرين، والعمل من المنزل، والقدرة على إكمال الواجبات المدرسية.

لكن، في عالم يزداد فيه الاعتماد على التكنولوجيا، يظل ملايين الأشخاص عالقين في الظلام الرقمي.

يلقي اليوم العالمي للقضاء على الفقر، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، الضوء على الفجوة الرقمية، أحد أبرز التحديات التي تعيق جهود مكافحة الفقر في عصرنا، التي يظل بسببها ملايين الأشخاص محرومين من الوصول إلى هذه الأدوات الحيوية، مما يحد من فرصهم في تحسين ظروفهم والخروج من دوامة الفقر.

يُقصد بالفجوة الرقمية الفارق بين الأشخاص الذين يمكنهم استخدام التكنولوجيا والوصول إليها بسهولة وبين أولئك الذين لا يستطيعون ذلك بسبب مجموعة من العوامل، بما في ذلك امتلاك كومبيوتر، والوصول إلى الإنترنت العالي السرعة، والمهارات الرقمية.

وتعد هذه الفجوة الآن عاملا رئيسا في استمرار الفقر، حيث تجد بعض الفئات نفسها مستبعدة من الاستفادة من الفرص التي يوفرها التحول الرقمي، الذي أصبح اليوم محركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي والاجتماعي.

لا يتجاوز معدل الوصول إلى الإنترنت في هذه الدول الأقل نموا 36% من السكان، على الرغم من أن 83% منهم يعيشون في مناطق مغطاة بشبكات النطاق العريض عبر الهواتف المحمولة

الفجوة بين الفقراء والأغنياء

تُعدّ الفجوة الرقمية من أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات في عصرنا الحالي. هذه الهوة لا تقتصر على مجرد النقص في التكنولوجيا، بل تمتد إلى التأثير المباشر على الفرص الاقتصادية والاجتماعية للأفراد حول العالم. فوفقًا لآخر إحصاءات المنتدى الاقتصادي العالمي، يعيش نحو 1.4 مليار شخص في الدول الأقل نموا، لكن نسبة الوصول إلى الإنترنت تظل محدودة.

بحسب تقارير الاتحاد الدولي للاتصالات، لا يتجاوز معدل الوصول إلى الإنترنت في هذه الدول 36% من السكان، على الرغم من أن 83% منهم يعيشون في مناطق مغطاة بشبكات النطاق العريض عبر الهواتف المحمولة. وتعيق تلك الفجوة تحقيق التحول الرقمي المطلوب، الذي يعد عاملًا حاسمًا في تعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي، مما يجعل هذه الدول مهددة بالتخلف عن الركب العالمي.

شترستوك
امرأة هندية من قرية تقدم تدريبا حول تكنولوجيا الكمبيوتر المحمول

وتفيد تقارير الاتحاد الدولي للاتصالات، أن معدلات الاشتراك في الإنترنت الثابت وظل ضئيلة جدًا في الدول الفقيرة، حيث لا تزيد على 1.6 اشتراك لكل 100 شخص، على الرغم من توفر تغطية الشبكات، كما تمثل التكلفة المرتفعة لخدمات الإنترنت عبر الهواتف المحمولة عائقًا كبيرًا أمام الكثيرين، حيث تستهلك باقة بيانات صغيرة نحو 6% من متوسط الدخل الشهري، وهو ما يعادل أربعة أضعاف المعدل العالمي. وتجعل هذه التحديات من الصعب على الفقراء تحسين حياتهم ومواكبة التطور الرقمي، الذي قد يكون السبيل الأهم لتحسين مستوى معيشتهم.

تشير تلك التقارير أيضًا إلى أن نحو 67% من سكان العالم، أي ما يقرب من 5.4 مليار شخص، متصلون بالإنترنت، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 4.7% منذ عام 2022، مقارنة بنسبة نمو بلغت 3.5% بين عامي 2021 و2022. مع ذلك، لا يزال هناك نحو 2.6 مليار شخص غير متصلين بالإنترنت في عام 2023، مما يشكل نحو 33% من سكان العالم. في الدول النامية، تبدو الفجوة الرقمية أكثر وضوحًا، مما يعمّق تحديات الوصول إلى التعليم والمعلومات ويزيد تأثيرات الفقر، إذ يجعل عدم الاتصال بالإنترنت في هذه الدول الفجوة الرقمية أكثر تعقيدًا، ويعزز عزلتهم الاقتصادية والاجتماعية ويحد من فرصهم في تحسين أوضاعهم.

التفاوت بين الجنسين

لا تقتصر الفجوة الرقمية على الفروق بين الدول المتقدمة والنامية، بل تظهر بشكل واضح أيضًا في التفاوت بين الجنسين داخل المجتمعات نفسها.

لا يزال هناك نحو 2.6 مليار شخص غير متصلين بالإنترنت في عام 2023

ففي مناطق مثل جنوب آسيا وأفريقيا، تعتبر هذه الفجوة من الأكبر على مستوى العالم. مع ذلك، وفقًا لتقرير الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول لعام 2024، تقلصت الفجوة بين الجنسين في استخدام الإنترنت عبر الهواتف المحمولة إلى 15%، بعدما كانت 19% في عام 2022، نتيجة تبني النساء هذه التكنولوجيا بوتيرة أسرع من الرجال.

شترستوك
فتاة هندية قروية تعمل على كومبيوتر محمول

ورغم هذا التقدم، لا تزال النساء أقل استخدامًا للإنترنت، مقارنة بالرجال، خاصة في المناطق التي يعيش فيها نحو 60% من النساء غير المتصلات بالإنترنت، مثل جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء.

هذا التفاوت في الوصول إلى التكنولوجيا يعمّق التحديات التي تواجه النساء، إذ يحد من فرصهن في التعليم والمشاركة في سوق العمل، ويصعّب حصولهن على الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية والخدمات المالية. نتيجة لذلك، تبقى النساء محصورات في دائرة الفقر، مما يقوّض قدرتهن على تحسين ظروف حياتهن ويساهم في تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعانين منها.

أمثلة ملهمة

بالإضافة إلى التحديات السابقة، يؤثر غياب الوصول إلى التكنولوجيا بشكل كبير على فرص العمل، حيث يلعب الإنترنت دورًا حاسمًا في إتاحة فرص العمل عن بُعد والمشاركة في الاقتصاد الرقمي. في الدول النامية، يفتقر الكثيرون إلى هذه الإمكانات، مما يبقيهم محصورين في وظائف ذات دخل محدود وفرص تطوير مهني بطيئة. هذا النقص في الوصول إلى التكنولوجيا، يعمق الفجوة الرقمية ويقلل الفرص الاقتصادية المتاحة، حيث يستفيد من يمتلكون الاتصال بالإنترنت من فرص أوسع للنمو المهني وزيادة الدخل، بينما يبقى الآخرون عالقين في دائرة الفقر والتطور المحدود. في عصرنا الحالي، أصبحت التكنولوجيا أداة لا غنى عنها لتحسين مستوى المعيشة، ومن يُحرم من الوصول إليها يظل مقيدًا في دائرة الفقر وصعوبة التقدم.

يمكن أن تكون التكنولوجيا وسيلة فعالة لتخفيف حدة الفقر إذا تم توفيرها بشكل متساو للجميع. فالإبداع الرقمي يحمل معه حلولًا مبتكرة تساعد في مكافحة تلك المشكلة.

تساعد التطبيقات التكنولوجية الذكية الفقراء في كسب رزقهم بمرونة وفقا لأوقاتهم وجدولهم الشخصي، لكن تلك التطبيقات تتطلب جهازا محمولا واتصالا بالإنترنت

أحد الأمثلة البارزة لقدرة التكنولوجيا على إحداث فارق في حياة الفقراء هو برنامج "أوشاهيدي" الذي تم تطويره في كينيا. يستخدم هذا النظام تقنيات جمع البيانات عبر الهواتف المحمولة لتحليل المعلومات من المجتمعات المحلية. ساعد ذلك البرنامج في توجيه الموارد بفعالية في مناطق الأزمات الإنسانية والمجتمعات الفقيرة، حيث يتم جمع المعلومات من الأفراد وتقديمها إلى السلطات المختصة لاتخاذ إجراءات سريعة. في الحالات التي تعاني فيها المجتمعات الفقيرة من غياب البنية التحتية، تساهم هذه التقنيات في تسهيل إيصال المساعدات والخدمات.

في مجال الزراعة، يُعد مشروع "فارم درايف" في كينيا أيضًا مثلًا مهمًا، حيث يعتمد على تحليلات البيانات والذكاء الاصطناعي لتوفير التسهيلات المالية للمزارعين الفقراء الذين لا يملكون سجلات بنكية. ومن خلال جمع البيانات حول الإنتاج الزراعي واستخدامها لتقييم قدرة المزارعين على سداد القروض، تسهل "فارم درايف" وصولهم إلى التمويل اللازم لتحسين إنتاجهم الزراعي، مما يؤدي إلى تحسين دخلهم والتغلب على الفقر.

كما يعد برنامج "ديجيتال غرين" مثلا آخر على استخدام التكنولوجيا لتحسين حياة الفقراء، حيث يساعد المزارعين في الهند وإثيوبيا في الوصول إلى أفضل الممارسات الزراعية عبر مقاطع الفيديو الرقمية. بدلاً من الاعتماد على التعليم التقليدي، تُستخدم مقاطع الفيديو لإرشاد المزارعين في المناطق الريفية حول التقنيات الزراعية التي تساعدهم في زيادة الإنتاجية والحد من الفقر.

في مجال الرعاية الصحية، يمكن الحديث عن مشروع "بابيل" في رواندا، الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم الاستشارات الطبية عبر الهواتف المحمولة. هذا المشروع موجه في الأساس إلى الفئات الفقيرة التي تفتقر إلى الوصول للخدمات الصحية التقليدية. من خلال استخدام التطبيق، يتمكن الفقراء في المناطق النائية من الحصول على التشخيصات والنصائح الطبية، مما يحسن جودة حياتهم ويحد من الأمراض التي قد تؤثر سلبًا على معيشتهم.

ظهور الذكاء الاصطناعي أدى الى زيادة أهمية القدرة على التكيف ونشر التكنولوجيا لتحقيق الفرص الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية

مارك وارشاور، أستاذ التربية في جامعة كاليفورنيا، إيرفين

في بنغلاديش، يمثل مشروع "سولار هوم سيستمز" مثلا مهما لكيفية استخدام التقنيات البسيطة لمكافحة الفقر. من خلال تزويد المنازل الطاقة الشمسية في المناطق التي لا تصلها الكهرباء، تم تحسين مستوى الحياة، حيث أصبحت هذه المجتمعات قادرة على العمل والدراسة بعد غروب الشمس، مما يؤدي إلى تحسين فرص التعليم والعمل، وبالتالي تخفيف الفقر.

شترستوك
أطفال في مخيم كولي للاجئين في إثيوبيا فروا بسبب الاشتباكات بين قوات حكومة جنوب السودان وقوات الرئيس السابق لجنوب السودان ريك مشار

ويساهم الإبداع الرقمي في تمكين الفقراء عبر تطوير منصات تتيح لهم فرصًا اقتصادية جديدة. على سبيل المثل، في مجال النقل، تم تطوير تطبيقات ذكية تتيح للأفراد الذين يمتلكون درجات هوائية أو بخارية، تقديم خدمات النقل المحلية بشكل مستقل، مما يمنحهم دخلاً مستدامًا دون الحاجة للعمل في شركات تقليدية. هذه التطبيقات تساعد الفقراء في كسب رزقهم بمرونة وفقًا لأوقاتهم وجدولهم الشخصي، معتمدين على منصات رقمية تتطلب فقط جهازًا محمولًا واتصالًا بالإنترنت.

في السياق نفسه، تمكين الحرفيين المحليين من بيع منتجاتهم عبر الإنترنت أصبح وسيلة فعالة لتحسين دخلهم. منصات مثل "اتسي" تسمح للحرفيين من المجتمعات الفقيرة بعرض منتجاتهم اليدوية مثل الملابس، المجوهرات، أو الأدوات المنزلية، للجمهور العالمي. هذا النوع من التجارة الإلكترونية يساعدهم في تجاوز القيود الجغرافية والوصول إلى عملاء من جميع أنحاء العالم، مما يفتح لهم أسواقًا جديدة ويزيد فرص تحسين دخلهم بشكل ملحوظ.

جهود دولية لتقليص الفجوة الرقمية

على المستوى العالمي، تعتبر الجهود الدولية الرامية إلى تقليص الفجوة الرقمية ضرورية لتحقيق التنمية المستدامة. حيث إن المبادرات التي تهدف إلى توسيع نطاق الوصول إلى الإنترنت بأسعار معقولة، خاصة في المناطق الريفية، تُعد حلاً رئيسا للتغلب على هذه الفجوة. فإتاحة الإنترنت بأسعار مناسبة تفتح الأبواب لملايين الأشخاص للوصول إلى المعلومات التي تساعدهم في تحسين حياتهم، بينما يُعتبر تمكينهم من اكتساب المهارات الرقمية خطوة حاسمة نحو مشاركتهم الفاعلة في الاقتصاد الرقمي.

ولا يقتصر تحقيق الشمول الرقمي على تطوير البنية التحتية فقط، بل يمتد أيضًا إلى تقديم برامج تعليمية تساعد المجتمعات الفقيرة في الاستفادة من التكنولوجيا بشكل كامل. من هنا، تأتي ضرورة التعاون بين الحكومات والمؤسسات الدولية لضمان وصول الفئات الأكثر تهميشًا إلى الإنترنت وتزويدهم المهارات اللازمة، بما في ذلك التدريب المهني الرقمي ودعم النساء في استخدام التكنولوجيا، فضلاً عن توسيع نطاق الإنترنت ليشمل المناطق النائية.

يقول الدكتور مارك وارشاور، أستاذ التربية في جامعة كاليفورنيا، إيرفين، والخبير البارز في تأثير التكنولوجيا على التعليم والإدماج الاجتماعي، في تصريح خاص لـ"المجلة" إن ظهور الذكاء الاصطناعي أدى الى زيادة أهمية القدرة على التكيف ونشر التكنولوجيا لتحقيق الفرص الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية. بالتالي، فإن تعزيز الفهم للتقنيات الجديدة أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى".

يتطلب سد الفجوة الرقمية تضافر جهود جميع الأطراف. فعلى الحكومات أن تستثمر في البنية التحتية للاتصالات وتقدم الدعم للمبادرات التي تعزز الوصول إلى الإنترنت بأسعار معقولة. كما يقع على عاتق المنظمات الدولية والمجتمع المدني دور مهم في توفير التدريب والتوعية بأهمية التكنولوجيا وكيفية استخدامها بفعالية.

font change

مقالات ذات صلة