الواقعية السحرية تقتحم عصر المنصات مع "بيدرو بارامو"

رواية المكسيكي خوان رولفو التأسيسية

 imdb
imdb
مايرا باتايا ومانويل غارثيا-رولفو في "بيدرو بارامو".

الواقعية السحرية تقتحم عصر المنصات مع "بيدرو بارامو"

ينشغل مدير التصوير الشهير رودريغو برييتو في تجربته الإخراجية الأولى، "بيدرو بارامو"، المقتبس من رواية الكاتب المكسيكي خوان رولفو الشهيرة الصادرة عام 1955 التي تحمل العنوان نفسه، بتقديم رؤية سينمائية مبهرة.

يستعير المحمول البصري المستقر في ذاكرة عشاق السينما بأنواعها المختلفة ليصنع فيلما يمكن أن يقال عنه إنه متحف للأنواع السينمائية المألوفة كلها. نجد فيه إحالات إلى سينما الويسترن والرعب والتاريخ والعنف والرومانسية والرمزية. لا يركن برييتو إلى خلاصات من أي نوع ولا إلى أشكال تقديم مألوفة، بل يعمد إلى محاولة اختراقها وجرها إلى عالمه.

يبقى اللعب مع الرواية سينمائيا محفوفا بالأخطار، فليست هذه المرة الأولى يتم فيها اقتباس رواية بيدرو بارامو سينمائيا. فقد سبق لها أن خرجت إلى النور في فيلم يحمل الاسم نفسه صدر عام 1967 ونال تقييمات نقدية وشعبية وأدبية مغرقة في السلبية. وكذلك كانت حال الأفلام المقتبسة من روايات غبريال غارثيا ماركيز، مثل رواية "قصة موت معلن"، التي حولت إلى فيلم عام 1987، ورواية "الحب في زمن الكوليرا"، التي اقتبست سينمائيا عام 2007.

ينطلق الفيلم من قصة خوان بريسيادو، الشاب الذي يذهب إلى قرية كومالا تنفيذا لوصية والدته بالبحث عن والده، الطاغية الغائب بيدرو بارامو. لكن من يلتقيه ليس أبا ، بل هو عالم تسكنه أشباح الماضي وذاكرة متشظية. كومالا ليست مجرد قرية مهجورة، بل برزخ زمني ونفسي حيث الأرواح عالقة في دورة أبدية من الألم والندم. رؤية برييتو السينمائية لا تقتصر على نقل الحكاية، بل تعيد ابتكارها باستخدام لغة بصرية مكثفة ورمزية تتجاوز النص الأدبي لتخلق عالما سينمائيا متماسكا بصريا، وإن كان يعاني أحيانا من تشظي السرد وتشابك الحكايات.

اهتمام لافت

تشهد الأعمال المقتبسة من روايات تنتمي إلى مدرسة الواقعية السحرية، التي تعتبر رواية رولفو صاحبة بيانها التأسيسي، طفرة كبيرة لناحية اهتمام المنصات بالاستثمار فيها وتحويلها إلى مسلسلات. إذ تعمد منصة "اتش بي أو" إلى اقتباس رواية "كالماء للشوكولاتة" للورا إسكيبيل، كما تعمد منصة "نتفليكس" المنتجة لفيلم "بيدرو بارامو" إلى عرض مسلسل مقتبس من رواية "مئة عام من العزلة" التي طالما عارض كاتبها الفائز بجائزة نوبل غبريال غارثيا ماركيز خلال حياته كل محاولات تحويلها إلى فيلم سينمائي.

رؤية برييتو السينمائية لا تقتصر على نقل الحكاية، بل تعيد ابتكارها باستخدام لغة بصرية مكثفة ورمزية تتجاوز النص الأدبي


تستعمل المنصات عنوان الواقعية السحرية لاجتذاب الجماهير وتسعى الى تحويل هذا النوع من المسلسلات إلى اتجاه يتفوق على الأنواع الأخرى التي تعرضها وتنتجها، والتي قل الإقبال عليها أو باتت شعبيتها متراجعة نظرا الى غزارة المعروض منها وكثرته وتكرار الثيمات والبناء السردي والمشهدي والمزاج البصري. تبحث المنصات عن نوع يستطيع أن يكون جامعا للأنواع كلها، لناحية ما ينطوي عليه من مزاج وخلفيات بصرية وبناء سردي جديد تماما، في بنيته وشكل عرضه للقصص، والإحالات الواسعة التي يتضمنها على التاريخ والسياسة والأساطير، مما يجعله قادرا على مخاطبة شبكة عريضة من الثقافات. يضاف إلى ذلك أن الخيال الذي يبنى عليه عالمه رمزي ويعالج بشكل كنائي مواضيع الديكتاتوريات والإقطاع والثورات والذاكرة والحزن والرغبات وتقلب الأزمنة والمصائر المضطربة والعطب الذي يصيب الأرواح المتألمة.

من هنا يمثل فيلم "بيدرو بارامو" هذا الاتجاه بأسلوب كنائي يعتمد نسقا رمزيا شفافا، مما يتيح بناء معادلة تلقٍّ صعبة ومعقدة تقوم على الجمع بين ثقل المواضيع والجماهيرية. وطرح جدليات لا تزال حية ومعاصرة. لذا قد يكون توقيت إنتاج هذا الفيلم بمثابة الاستجابة السينمائية للحظة الاضطراب الحادة التي تعصف بالعالم، والتي تجعل من شخصية بيدرو بارامو، التي يبنى عليها الفيلم، شخصية يمكن تلمس ملامحها في الكثير من الديكتاتوريات القائمة.

عالم الليمبو

تتناسل شخصيات الفيلم من الطاغية بيدرو بارامو، الذي يؤدي دوره الممثل مانويل غارثيا رولفو ببراعة لافتة. يستند البناء الدرامي لشخصيات الفيلم عليه وينبني على ما تنسجه من علاقات معه. وتاليا، فإنه يظهر في هيئة مصير أو قدر لا يمكن الفرار منه. لكن الفيلم لا يقع في مثل هذا التبسيط، بل يعرض ملامح شخصية بيدرو بارامو المعقدة والملتبسة والمحكومة بصفاتها وبنتائج أعمالها، والتي لا يبدو بارامو نفسه منتجا لها أو صاحبها، بل تظهر سلوكا حتميا مفروضا عليه، يجد نفسه عالقا فيه ومحمّلا ارتداداته ونتائجه.

هيكتور كوتسيفاكيس ومانويل غارثيا-رولفو في فيلم "بيدرو بارامو"

تحضر في تركيب الشخصية عناصر متباينة يحرص الفيلم على ضمها وتوحيدها. فالديكتاتور رجل حزين ومتألم ومسكون بالوحدة والفراغ والقسوة والعنف والجريمة والعبث بحيوات الآخرين ومصائرهم. يحرص الفيلم على عرض مجال بصري يعكس عوالم الشخصية المحورية وتحويل المكان وسائر الشخصيات إلى ظلال لها.

تستعمل المنصات عنوان الواقعية السحرية لاجتذاب الجماهير وتسعى الى تحويل هذا النوع من المسلسلات إلى اتجاه يتفوق على الأنواع الأخرى

في مشهد لافت نجد بيدرو يجلس في أرضه القاحلة وسط جو من الصمت الذي تقطعه أصوات الرياح الحاملة ذاكرة ضحاياه. تتثاقل حركة الكاميرا وتعرض ملامح شخص مسجون في أفعاله وذاته، ولا يستطيع الفرار منها، على الرغم من سطوته وثروته وممتلكاته الواسعة. تتجلى السلطة المفككة والمتلاشية في إطار عبثي كأنها تنتحر بنفسها وتختنق بإرثها. فلما كانت في أصلها وجوهرها تعطيلا للحياة ونفيا لها، فإن مشهد بؤسها ينفجر كاشفا عن العزلة القاسية والختامية التي يغرق فيها الطاغية بوصفها عالمه الوحيد الممكن، والذي كان يرسم ملامحه وينحتها باستمرار طوال حياته.

imdb
مايرا باتايا ومانويل غارثيا-رولفو في "بيدرو بارامو".

يمثل خوان بريسيادو حالة رحلة البحث عن الأصول والجذور ويجد نفسه في مواجهة الأشباح وغارقا في متاهة الماضي والالتباسات. الرحلة إلى كومالا كانت تهدف إلى استعادة الذات وترميم الحكايات والبحث عن الحقائق. لكن خوان، إذ يصطدم بما تخزنه القرية من تواريخ ملتبسة يختلط فيها الشخصي والعائلي بالتاريخي والعام في نسيج واحد، يتحول بنفسه إلى جزء منها ويذوب في مستنقعاتها ويصبح أحد أشباحها الكثيرة.

تلاحق الكاميرا لحظة دخوله إلى القرية المهجورة التي يهبها فراغها وخلوها من مظاهر الحياة بنية طيفية يمكن أن ترتبط بدلالات ذاكرة تستدعي الحنين أو الرقة أو تتطلب الرثاء، قبل أن تتكشف ملامح الرعب والجريمة وتظهر روح المكان وأصله وسيرته التي ينتمي إليها دون أن يدري.

تعبّر شخصية سوزانا سان خوان عن الحب المستحيل واليأس المطلق، فهي الحبيبة التي لم تسمح لبيدرو بملامستها. لا يرينا الفيلم تماسا جسديا بينهما، في إشارة واضحة لأثر الطغيان في تدمير إنسانية الإنسان بحرمانه من القدرة على بناء علاقة عاطفية سوية. بيدرو يجيد الاغتصاب ولا يجيد الحب. العلاقة الوحيدة التي يشتهيها فعلا، والمتمثلة بشخصية سوزانا، تبقى مستحيلة على الدوام وتلقي بآثارها عليه وعليها. يظهر ممتلئا بالفراغ والحداد والندم، بينما تحمل سوزانا مشاعر الإثم والذنب واليأس. تسكنها أصوات داخلية في مشهد نراها فيه تنظر من نافذتها إلى السماء البعيدة بينما تتردد في داخلها أصداء أصوات محملة الذكريات والمرارة.

 imdb
فرناندا ريفيرا، سانتياغو كولوريس، ومايرا باتايا، في "بيدرو بارامو".

تدخل كومالا في نسيج الفيلم ليس بوصفها مكانا، بل كشخصية عامة تحتضن الحدث وتفسره. يستعملها المخرج في إطار قريب من مفهوم الـ"Limbus"  اللاهوتي المستمد من أصل لاتيني ويعني الحافة، كحالة برزخية بين السماء والجحيم. يصف هذا المفهوم موقع كومالا كشخصية محورية ومكان يحيا داخل الانتظار الأبدي، حيث لا حياة ولا موت، وحيث تعلق الأرواح في التيه، مقدمة بذلك تمثيلا لأحوال الذاكرة المنسية في مجتمعات لم تنجز علاقتها مع تاريخها وتركته معلقا ومسيطرا على حاضرها ومؤسسا لمستقبلها ومصيرها.

يعرض الفيلم ملامح شخصية بيدرو بارامو المعقدة والملتبسة والمحكومة بصفاتها وبنتائج أعمالها، التي لا يبدو بارامو نفسه منتجا لها أو صاحبها

وعلى الرغم من أن بيدرو بارامو يظهر صاحب سلطة مطلقة، إلا أن كومالا نفسها تبقى خارج سيطرته. إذ تفجر في وجهه، في مشهد لافت من الفيلم، كل أرواح ضحاياه وكأنها ذاته الخارجة عليه، والتي تستطيع محاكمته وإدانته دون أن يستطيع مواجهتها أو الفرار منها.

لغة الواقعية السحرية

وظف رودريغو برييتو كل خبرته في التصوير السينمائي وعمله مع مخرجين مرموقين مثل مارتن سكورسيزي وأليخاندرو غونزاليس إيناريتو وآنغ لي وبن أفليك، في مجموعة أفلام شكلت علامات فارقة في تاريخ السينما مثل Amores Perros وBrokeback Mountain وBabel و"Argo وThe Wolf of Wall Street  وغيرها.

في كل هذه الأفلام، صمّم برييتو لغة بصرية خاصة تستعمل عناصر الضوء والظل واللون لخلق مجال تعبيري إيحائي ينجح في تمكين التناغم البصري بين النص الحواري والبنية البصرية. الحوار مرئي، والمشاهد يمكن ردها إلى الحوار. كما كان لافتا كذلك اللعب المتوتر بين الصوت والصمت، والتخفف من استخدام الموسيقى التصويرية، وجعل البنية الصوتية المسيطرة على الفيلم كأنها لغته وصوته.

imdb
مايرا باتايا ومانويل غارثيا-رولفو في "بيدرو بارامو".

وقد يكون في هذا التوظيف، الذي يبدو فاتحة لمرحلة تصدر المزاج المنبثق من الواقعية السحرية، محاولة لإعادة إنتاجها على نحو يتماهى مع تاريخها، بقدر ما يتخلص من التوظيف الكلاسيكي لها والمرتبط بخصوصية الأدب اللاتيني وأجوائه. السينما التي قدمها برييتو لا تنسخ رواية رولفو ولا تنسفها، بل تعمد إلى استخدامها سياسيا واجتماعيا وفنيا في مجال متصل بما استجد في كل تلك العوالم مجتمعة. المصطلح، الذي كان صاغه للمرة الأولى الناقد الألماني فرانز رو للتعبير عن مسائل مرتبطة بالفن التشكيلي وانتقل بعدها إلى مجال الأدب، يحتفظ في فيلم برييتو بأصوله، ولكنه يوسعها لتطال العالم الجديد بتسارعاته وتحولاته.

اللغة الحوارية البصرية، كما تتجلى في مشاهد عديدة، تكثف الأدبي في إيقاع بصري يمزج الكلاسيكية في أقصى تعبيراتها مع الأفق المفتوح والمتعدد الدلالات الذي يسم التعبير المعاصر. يظهر شبح على خوان بريسيادو يقول: "نحن هنا لأننا لا نعرف كيف نغادر".

 يتحدث بيدرو بارامو عن سوزانا سان خوان قائلا: "عندما رحلت سوزانا، أخذت معها كل ما يمكنه أن يجعل الحياة محتملة". ويعبّر الأب رينتيريا، الذي يمثل شخصية رجل الدين الذي يبرر الجرائم ويحيا حالة ذنب عميقة، عن موقف يائس قائلا: "صلواتنا لم تعد تصل إلى السماء. نحن نصلي لأنفسنا فقط".

 يقدم "بيدرو بارامو" شهادة سينمائية خصبة وثرية عن عوالم الديكتاتوريات والتسلط والخواء الروحي، معيدا بناء علاقات الأدب والسينما


 تجتمع كل هذه المشاهد الحوارية لتصل إلى المشهد الختامي في نهاية الفيلم، عندما يغمر الظلام كومالا بالكامل، فنسمع صوتا داخليا يقول: "الظلال لا تخفي الحقيقة، بل تجعلها أوضح".

imdb
"بيدرو بارامو" (2024).

يقدم "بيدرو بارامو" شهادة سينمائية خصبة وثرية عن عوالم الديكتاتوريات والتسلط والخواء الروحي، معيدا بناء علاقات الأدب والسينما. وعلى الرغم من التعامل النقدي الفاتر معه، الذي صنفه كفيلم متوسط، إلا أنه تجربة مختلفة عن السائد، كما كانت الرواية المأخوذ عنها مرجعية في أدب الواقعية السحرية، الذي طالما اعتنى بالبحث في طبقات الواقع وحرص على التقاطها بأشكال فنية إشكالية وجدلية. هذا النزوع  يشكل مصدر سحره، الذي يفسر العودة الصاخبة إليه في لحظتنا التي تفتقر إلى وسائل تعبير فاعلة.

font change

مقالات ذات صلة