تخيَّلْ عالَمًا يستحيل فيه علاج العدوى والأمراض التي تصيب البشر والحيوانات والنباتات، حيث يمكن أن تحدث الوفاة في غضون أيام بسبب عدوى ناجمة عن خدش بسيط في اليد، أو عدوى مكتسبة في أثناء الولادة أو من زيارةٍ لطبيب الأسنان. وليس هذا من قَبيل الخيال العلمي، بل هو ما يمكن أن يحدث إذا لم نتخذ إجراءات فورية للحد من مقاومة مضادات الميكروبات.
وتحدث مقاومة مضادات الميكروبات عندما تصبح البكتريا والفيروسات والفطريات والطفيليات غير مستجيبة للأدوية، وهو ما يؤدي إلى زيادة صعوبة علاج حالات العدوى أو استحالة علاجها، فيرتفع خطر انتشار المرض، والإصابة بالأمراض الوخيمة، والوفاة.
وفي حين أن ظهور المقاومة عملية بيولوجية طبيعية ستحدث عاجلًا أو آجلًا مع كل دواء، فقد تسارعت وتيرة هذه العملية بسبب الممارسات الخاطئة والافتراضات المغلوطة. وسلوكنا في حالات كثيرة مسؤولٌ عن هذا الوضع، مثل ممارسات وصف الأدوية من جانب الأطباء والصيادلة، وضعف مكافحة العدوى في المرافق الصحية، وضعف العديد من السلطات المعنية بتنظيم الأدوية، والممارسات المُتبَعة في الإنتاج الصناعي للأغذية.
ومقاومة مضادات الميكروبات لا تزيد صعوبةَ علاج حالات العدوى فحسب، بل تزيد أيضًا خطورةَ إجراءات طبية أخرى، مثل الجراحة الروتينية، وعمليات الولادة القيصرية، والعلاج الكيميائي للسرطان. فسوف تتسبب في وفاة المرضى الذين يمكن علاجهم حاليًّا. والتدخلات التي لا نشك في مأمونيتها ستصبح خطيرة أو مستحيلة.
وإذا لم تُتخذ إجراءات للتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات، فسوف تتسبب المقاومة البكتيرية لمضادات الميكروبات في 39 مليون وفاة بحلول عام 2050، أيْ ثلاث حالات وفاة كل دقيقة. وسوف تبلغ تكاليف الرعاية الصحية الإضافية تريليون دولار أمريكي. وسوف يُسفر عدم اتخاذ تلك الإجراءات عن خسائر سنوية في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تتراوح بين تريليون و3.4 تريليونات دولار أمريكي بحلول عام 2030.
وفي إقليمنا، إقليم شرق المتوسط، تُوفي في عام 2021 وحده أكثر من 1.7 مليون شخص بسبب مرض الإنتان، واتضح أن 373 ألف وفاة من تلك الوفيات مرتبطة بمقاومة مضادات الميكروبات.
تحدث مقاومة مضادات الميكروبات عندما تصبح البكتريا والفيروسات والفطريات والطفيليات غير مستجيبة للأدوية، وهو ما يؤدي إلى زيادة صعوبة علاج حالات العدوى أو استحالة علاجها، فيرتفع خطر انتشار المرض
إن الأعداد مرعبة، وكذلك حجم المشكلة. فالمضادات الحيوية ركيزة أساسية من ركائز الطب الحديث، فقد حوَّلت على مدى عقود حالات عدوى كانت يومًا ما مميتة إلى حالات يمكن علاجها. وتهدد الآن زيادة المقاومة بهدم قرن من التقدم في مجال الرعاية الصحية.
إننا نواجه معضلة كبيرة لدرجة أنه لا خيارَ آخر أمامنا. إذا لم نتصرف اليوم، فلن نجد علاجات غدًا.
ولذلك يجب علينا جميعًا أن نُشِيد بالإعلان السياسي التاريخي الذي وقَّعت عليه 193 دولة عضوًا في الاجتماع الرفيع المستوى بشأن مقاومة مضادات الميكروبات بالجمعية العامة التاسعة والسبعين للأمم المتحدة.
وبموجب هذا الإعلان، تعهَّد قادة العالم بخفض الوفيات المرتبطة بالمقاومة البكتيرية لمضادات الميكروبات بنسبة 10% –مقارنة بالأساس المرجعي لعام 2019 البالغ 4.95 ملايين حالة وفاة– قبل نهاية العقد. ويدعو الإعلان إلى توسيع نطاق العمل عبر قطاعات متعددة –منها الزراعة، وتصنيع المستحضرات الصيدلانية، وحماية البيئة، والرعاية الصحية– فضلًا عن التمويل الوطني المستدام والتمويل التحفيزي بقيمة 100 مليون دولار أمريكي للمساعدة على تحقيق الغاية المتمثلة في أن تُموِّل 60% على الأقل من البلدان خططَ عمل وطنية للتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات، باستخدام نهج الصحة الواحدة، بحلول عام 2030.
ويُسلِّم الإعلان بأنه "على الرغم من أن مقاومة مضادات الميكروبات تؤثر على الناس من جميع الأعمار، ولا تنحصر ضمن حدود بعينها، وتوجد في جميع البلدان"، ويُقِر بأن "العبء تتحمله، إلى حد بعيد وبدرجة غير متناسبة، البلدان النامية والبلدان التي تعاني من أوضاع هشة، وهو ما يتطلب تضامنًا عالميًّا وجهودًا متضافرة وتعاونًا دوليًّا".
يجب علينا جميعًا أن نُشِيد بالإعلان السياسي التاريخي الذي وقَّعت عليه 193 دولة عضوًا في الاجتماع الرفيع المستوى بشأن مقاومة مضادات الميكروبات بالجمعية العامة التاسعة والسبعين للأمم المتحدة
وفي إطار السعي إلى عدم تخلُّف أحد عن الركب، يخص الإعلانُ بالذكر "الأشخاص الذين يعيشون في دول متأثرة بالنزاعات وفي ظروف طوارئ إنسانية، منها تلك المتأثرة بتغيُّر المناخ والكوارث الطبيعية، واللاجئين والنازحين داخليًّا والمهاجرين"، و"الأشخاص الذين يعيشون في فقر وفقر مدقع".
ويؤدي عدم تماثل الأثر الناجم عن مقاومة مضادات الميكروبات إلى زيادة المخاطر الشديدة أصلًا في منطقة مثل إقليم منظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط الذي توجد ثمانية من بلدانه وأراضيه الاثنين والعشرين على قائمة البنك الدولي للأوضاع الهشة والمتأثرة بالنزاعات لعام 2024، الذي يستضيف أكثر من 55% من سكان العالم من اللاجئين والنازحين.
نعم، إن اعتماد الإعلان السياسي خطوة كبيرة إلى الأمام. ولكن يجب علينا الآن أن نبدأ في تنفيذ الإجراءات الملموسة اللازمة للتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات في جميع القطاعات. إن التحديات جسيمة، ولكن لا بد من التغلب عليها.
ويُعدُّ الاستخدام غير الملائم للمضادات الحيوية أحد أكثر العوامل المسبِّبة لمقاومة مضادات الميكروبات شيوعًا. ويَشهد إقليم شرق المتوسط أعلى مستويات استهلاك المضادات الحيوية وأسرعها تزايدًا بين جميع أقاليم المنظمة. وتوجد حاجةٌ ملحةٌ إلى تحسين الإشراف على استعمال مضادات الميكروبات.
وفي بعض البلدان، يجد الناس صعوبة بالغة في الحصول على ما تسميه منظمة الصحة العالمية "المضادات الحيوية المُدرَجة في فئة الإتاحة"، وهي أنواع أقدم في شكل حبوب لها آثار جانبية أقل، وتقل احتمالية إسهامها في زيادة مقاومة مضادات الميكروبات. ويلزم تقديم حوافز لشركات التصنيع المحلية من أجل تحفيزها على إنتاج هذه المضادات الحيوية الأساسية. ويتمثل أحد أهداف مبادرتنا الإقليمية الرئيسية الجديدة في مساعدة البلدان على تعزيز سلاسل الإمداد. وتهدف المبادرة إلى ضمان الحصول المنصف والمستمر على الأدوية ووسائل التشخيص والمواد المختبرية الاستهلاكية، عن طريق تجميع المشتريات والتخزين الاحتياطي.
يُعدُّ الاستخدام غير الملائم للمضادات الحيوية أحد أكثر العوامل المسبِّبة لمقاومة مضادات الميكروبات شيوعًا. ويَشهد إقليم شرق المتوسط أعلى مستويات استهلاك المضادات الحيوية وأسرعها تزايدًا بين جميع أقاليم المنظمة
كما أن وقف انتشار العدوى في المقام الأول، عن طريق تدابير النظافة العامة البسيطة، يمكن أن يُحدِث فرقًا هائلًا. ولكن في إقليمنا 78 مليون شخص يفتقرون إلى مياه الشرب المأمونة، و138 مليون شخص يفتقرون إلى خدمات الصرف الصحي الأساسية، و222 مليون شخص يعانون من ندرة أو انعدام مرافق النظافة العامة الأساسية، وفي عام 2022، لم يُبلغ سوى 36% فقط من مرافق الرعاية الصحية عن نُظُم الإصحاح الأساسي وإدارة النفايات.
وتوجد حاجة ماسة إلى استثمارات لمعالجة هذا الوضع. فتخصيص موارد مالية لمقاومة مضادات الميكروبات يُلقي عبئًا هائلًا على عاتق البلدان ذات الدخل المنخفض، لا سيما الدول الهشة والضعيفة والمتضررة من النزاعات التي تعاني فيها النُّظم الصحية من الاستنزاف الشديد وتواجه عددًا كبيرًا من الأولويات المتعارضة. وهناك حاجة ملحة إلى الدعم.
وأكَّد ظهورُ بكتيريا مُقاوِمة مُحدَّدة في أعقاب حرب العراق أن الحروب والصراعات تزيد خطرَ مقاومة مضادات الميكروبات. وتُنذِر الصراعات الدائرة الآن في غزة والسودان بتكرار ذلك، وتتسبب في زيادة تعقيد الجهود الرامية إلى ضمان التغطية الكاملة بالتطعيمات للوقاية من حدوث إصابات جديدة.
ولمواجهة هذه التحديات، لا بد من إرساء السلام، ونحن بحاجة إليه الآن.
لقد أتاح مؤتمر القمة الوزاري الرابع المعني بمقاومة مضادات الميكروبات الذي استضافته المملكة العربية السعودية يومي 15 و16 نوفمبر/ تشرين الثاني في جدة فرصة لترجمة الإعلان السياسي إلى إجراءات ملموسة. وقد اغتنم وزراء الصحة والزراعة والبيئة، لا سيما من البلدان ذات الدخل الأكثر انخفاضًا، فرصة الاجتماع لتوحيد أصواتهم والدعوة إلى اتخاذ الإجراءات التي تشتد الحاجة إليها.
فمقاومة مضادات الميكروبات لا تعرف حدودًا. واحتواؤها يتطلب أن نعمل معًا في توافق وانسجام.
إن الوقت يداهمنا. والعالم لا يسعه الانتظار.