هل كتب خالد خليفة بعضا من سيرته في روايته الأخيرة؟

"سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون" خلاصة تجربة في الكتابة والحياة

هل كتب خالد خليفة بعضا من سيرته في روايته الأخيرة؟

تبدو الرواية الأخيرة للكاتب السوري خالد خليفة التي صدرت بعد وفاته بعنوان "سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون"، خلاصة لتجاربه السردية في فن الرواية؟ فهذه الرواية التي تأخذنا إلى مدينة اللاذقية السورية في زمن الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي عبر أصوات أربعة (سام وماريانا وموسى ومنال)، سنجد فيها خبرة الكاتب السوري (1964- 2023) المكتملة ككاتب وقارئ وإنسان. إذ تشدّنا بتفاصيلها إلى عوالم وأيام مجموعة من الأصدقاء وجدوا أنفسهم يعيشون حسب هواهم الشخصي خارج الأطر الاجتماعية. كما أن ما يشدّ القارئ، أيضا، في هذه الرواية، هو شعوره أن خالد خليفة كتب عن نفسه وعن أبناء جيله، أي أنه ضمّن بعض سيرته وسيرة أصدقائه فيها، لكنّها سيرة موزعة، لا تتطابق بالتأكيد مع أي شخصية في الرواية.

هكذا، سنقرأ عن العلاقات الثنائية بين سام وماريانا وأنس ومروة وموسى ومنال ويارا وروني، منهم مسلمون ومسيحيون، لا حدود لعلاقة الحب بينهم، يجمعهم شغف بالموسيقى، حيث يغنون ويعزفون في فرقة تقدّم أغانيَ متمرّدة، حتى وإن كان ذلك في حفل داخل كنيسة يرعاها قسّ محافظ يخاف من النظام، وهو خوف يعشوشب في المجتمع ولا يستطيع أحد قهره سوى أولئك الذين مارسوا معه نوعا من المراوغة، مثل الاستفادة من عمل بعض أفراد الأسرة في الجيش أو المخابرات، في حال دهمت الشرطة أماكن تجمعهم لتعاطي الحشيشة أو احتاجوا إلى وساطة في أحد أجهزة الدولة.

تتعدّد الأسماء والقصص فنجد ميسون التي تحمل اسما ليس اسمها، وتنعت الرجال بالكلاب والغنم والأحذية التي يجب رميها إلى المزبلة اثر استعمالها، بعدما تركها حبيبها في خاتمة قصة حب استمرّت عشر سنوات ليتزوّج صديقتها. ونجد مروة التي ترفض الهرب مع حبيبها أنس إلى بيروت ليتزوجا هناك، وتقول إنها ستعاقب أهلها بعنوستها، إن كان لا يحق لها اختيار من تحبه. فيما أنس بقي مع الحشيشة والخمر وكتابة القصائد الموزونة التي يسخر منها أصدقاؤه.

وحين يتزوج مها العنبري، المتديّنة التي تتوقّف في رمضان عن احتساء النبيذ، يبقى يظن أن مروة تعيش معه بطيفها وتتداخل لتمنعه من ممارسة علاقته الحميمية بزوجته، "كانت مروة تحرّك الأشياء في المنزل، تحدّثه طوال الوقت، تهمس بأذنه وتأمره بأن يمسك ملعقته بقوة كي لا يدلق الشوربة على قميصه". ومع ازدياد الوهم بات أصدقاؤه يسمعون صوت مروة يأمره بالنهوض والذهاب الى النوم لأنه تأخر. ولأن "النساء أصوات في الحب، ولا يمكن لامرأة أن تشبه أخرى".

تنبعث أسئلة عن معنى الحياة في وقت لم يعد لدى الشخصيات ما تفعله سوى تداول التفاهة

لم تعد مها تطيق هذا الطيف المراقب فاتفقا على الطلاق. وكما يقول أنس إن "شبق مروة حفر في قلبه حفرة لا يمكن لأيّ امرأة ردمها". سنجد روني أيضا يقول إنه "قبل يارا لم يكن يعرف معنى النساء" وإن "كل من عاشرهن فقمات". وهناك لميس الطالبة المخبرة في جامعة تشرين، التي انخرطت وسط مجموعات معارضين يساريين فأوقعت بالعشرات منهم عام 1987، حيث اعتقلوا وسجنوا، كما سجنت هي للتمويه، لتخرج بعد أيام وتعلن اعتزالها العمل السياسي.

Giovanni Mereghetti - Universal Images Group - GettyImages
سوريا، اللاذقية، وسط المدينة.

تداول التفاهة

يحكي سام، في صوته الأول، قصته مع ماريانا قبل زواجها وسفرها، وبالذات لقاءاتهما الحميمية في وقت الظهيرة، حتى أن أنس يقول إن شبحه سيقف بين ماريانا وزوجها جورج، مثل شبح مروة الذي يقتحم حياته يوميا، "أريد أن أهرم معها، لا يعني لي الزواج والعائلة والطوائف والأديان أي شيء. الحب يعني التلامس وتبادل النظرات والروائح التي تفوح في المكان ذاته". كما يسرد سام قصص كل أصدقائه بتنقلات زمنية استذكارية، مع أنه صار يفكر بما قالته ميسون عن الغرق في التفاهة، "الشيء الوحيد الذي فعلته في حياتي هو الهرب من كلّ شيء ومحاولة تحوّلي إلى مسخ يعيش مع أشباح دون معنى".

هنا تنبعث أسئلة عن معنى الحياة في وقت لم يعد لدى الشخصيات ما تفعله سوى تداول التفاهة، "أناشد الجميع بكلّ جدّية أن يعتبروا التفاهة فعلا جديرا بالاحترام والتبجيل، وأن يتوقفوا عن مديح الحياة الجدية الغارقة في النجاحات الكبيرة. نتحدث عن الانتحار كحلٍّ منطقي لمأزقنا الوجودي، ثم ننسى كلّ شيء صباح اليوم التالي، لنبدأ بحديث عدمي جديد".

LOUAI BESHARA - AFP
الكاتب السوري خالد خليفة خلال مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية في منزله في دمشق.

في الفصل الثاني نسمع، أو نقرأ، صوت ماريانا التي تظن أن كلّ من حولها يعتبرونها حمقاء، "أظنهم ينتظرون مني القيام بأفعال خارقة، كالتعرّي في ساحة الشيخ ضاهر احتجاجا على صيد السمك بالديناميت، وقتل السلاحف البحرية. الحديث عن موت السمك بكلّ هذه الجدية يثير حنقي، البشر يموتون أيضا، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك، ما قيمة الأحصنة والأسماك والنسور والسلاحف البحريّة ما دام البشر يموتون في السجون والحروب". 

جاء السرد بسلاسة خبير، انتقلنا معه من قصة إلى أخرى ومن مشهد إلى آخر، في سياق منتظم. وإن حُشدت الأسماء فيها، فإنها تبدو دعوة إلى إعادة ترتيبها

ستمضي ماريانا مثل سام لتحكي لنا قصص أعضاء مجموعتهم من وجهة نظرها، مضيفة إليها شخوصها الخاصين بها، ومنهم زوجها جورج صاحب النقود، البخيل والجبان، الذي ستسافر معه إلى أميركا لتقطع صلتها بالماضي، لأنها لا تستطيع الزواج بحبيبها المسلم سام. قبل أن ننتقل في الفصل الثالث مع موسى الذي يضيف قصص عائلته إلى جانب القصص السابقة، وبالذات قصّة أسرته الأريستوقراطية، جدّه، أمّه شهناز وخالته جورجيت، اللتين رغبتا بإصلاح العالم ووقفتا ضد تدمير الكورنيش معتقدتين أن توسعة المرفأ بمثابة تدمير للذكريات. ثم قصة البيت الذي تفوح من أثاثه "بقايا مجد قديم، هنا كانت تشتبك سياسات البلد، أحزابه، رجالات حكوماته، وهنا كانت تحاك المؤامرات، وهنا عاش الأجداد قصص حبهم المحمومة والفاشلة".

Shutterstock
ساحة في اللاذقية، تمثال حافظ الأسد.

ترميم الذاكرة

في الفصل الرابع، تعيد منال قصص المجموعة الموسيقية والشعرية المتهمة بأنها من عبدة الشيطان وتجربتها في كتابة الشعر للغناء وتشجيعها من قبل الشاعر منذر المصري، وهو اسم حقيقي، لطباعة ديوانها، كما تحكي قصّة عائلتها الفقيرة وأبيها القواد الذي يتاجر بالفتيات.

الرواية، التي حرّرتها رنا حايك وصدرت عن "نوفل/ هاشيت أنطوان" في بيروت، بدت مشوقة في سردها بحيث لا يمكن للقارئ أن يتجاوز صفحة أو سطرا فيها. وإذا وجدت ملاحظات قليلة، فهي ضمن الآراء المعتادة التي تقال في كثير من الأعمال، خاصة وقد صرنا نعرف أن خالد خليفة لم يلق نظرة أخيرة على الرواية قبل نشرها، إذ ربما كان سيحذف ويصحح أو سيضيف (هناك مساحة فارغة في إحدى الصفحات أشار الناشر إلى أن خالد تركها على أمل أن يستكمل النص بتأليف قصيدة على لسان منال في وقت لاحق، كما أن هناك مساحة أخرى فارغة لاسم فيلم).

مع هذا جاء السرد بسلاسة خبير، انتقلنا معه من قصة إلى أخرى ومن مشهد إلى آخر، في سياق منتظم. وإن حُشدت الأسماء فيها، فإنها تبدو دعوة إلى إعادة ترتيبها، لأنّنا سنكون حينها قد رتبنا ذاكرتنا ورمّمناها.

font change

مقالات ذات صلة