"حزب الله"... أمجاد من رماد

ما من مجد حصلته جماعة في لبنان إلا وتلته نكبة

"حزب الله"... أمجاد من رماد

تعيش الجماعة الشيعية في لبنان، ومن ورائها لبنان كله، نكبة كبرى قد يتطلب الخروج منها سنوات وسنوات، إذا توافرت ظروف داخلية وإقليمية ودولية مواتية لذلك. لكن ليس من مؤشرات على توافرها في المدى المنظور الذي يبدو رماديا، إن لم يكن مظلما تمامًا.

والنكبة هذه- وهي تطال الجماعات اللبنانية كلها، وإن على نحو متفاوت- وليدة عوامل عدة، يتداخل فيها اللبناني الداخلي بالإقليمي والدولي، تداخل العوامل الظرفية بالتاريخية المتأرثة:

وجود إسرائيل كقوة استعمارية في فلسطين، واستماتة الغرب في دعمها وحمايتها وتبنّيها. وهي كانت قد تأسست على وعد توراتي لدى يهود أوروبا: خلاصهم من كونهم ضحايا عواصف القوميات فيها. ومن التمييز العرقي والقومي ضدهم واضطهادهم، قبل أن تبيد المحرقة النازية في ألمانيا الحرب العالمية الثانية نحو 6 ملايين منهم.

وبفعل مراجعة الحركة القومية الصهيونية تاريخ اليهود وسلوكهم في أوروبا، رأت أنهم كانوا متعاونين مع مضهِدِيهم وجلاديهم ومستسلمين لقدرهم كضحايا راضين مرضيين. وبفعل هذه الرؤية- إلى جانب الاحتضان والتبنّي الغربيين لدولة إسرائيل، واضطراب جوارها العربي وضعفه- انقلب شعور اليهود الصهاينة بأنهم ضحايا إلى عكسه ونقيضه: عبادتهم عُظام القوة والعنف الاستعماريين على نحو مسعور. ثم أُضيف إلى ذلك امتلاك إسرائيل تكنولوجيا حربية هائلة، حوّلتها أخيرا قوة بربرية متوحشة، بلا حسيب ولا رقيب.

وجود إسرائيل على هذا النحو، سمّم الحياة السياسية العربية المضطربة أصلًا، وخصوصا في البلدان المحيطة بها. لذا ربما نشأ "معظم الفكر السياسي العربي المعاصر على فكرة النقائض المبرمة"، الثابتة واليقينية المقدسة، حسب حازم صاغية ("الشرق الأوسط" 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024).

نشوء "حزب الله" وبناؤه عقيدته ووجوده ونشاطه كله وخطابته كلها على وعد يقيني خالص وشديد القداسة: رؤيا قيامية وأخروية لخوض حرب خلاصية ضد إسرائيل. وردًا على تنفيذ "حماس" عملية "طوفان الأقصى"، باشرت إسرائيل حرب إبادة على غزة، وبادر "حزب الله" إلى ما سماه حرب "مساندة" غزة و"مشاغلة" إسرائيل. وتستمر فصوله المروعة منذ أكثر من سنة.

على الرغم من أن إيران هي التي تتولى إدارة "حزب الله" و"حماس" بدرجة أقل، وكذلك سواهما من الميليشيات في سوريا والعراق واليمن، تحت شعار "وحدة الساحات"، يلابس هذه الحرب وجود "رأي عام عربي" عميق، لكن ملامحه وسماته غائمة. وتتحدر مشاعر وانفعالات هذا "الرأي العام" من حركات التحرر الوطني العربية، وفي طليعتها الناصرية. وهذه كانت قد رهنت حياة "الأمة العربية" ومستقبلها بوحدة لفظية خالصة تشبه شعار "وحدة الساحات" الإيرانية. ولم تؤدِّ تلك الحركات القائمة على فكرة النقائض الثابتة، سوى إلى أنظمة عسكرية ديكتاتورية عربية على شعوبها، ثم إلى حروب أهلية داخلية.

الدوائر التي تتأجج وتتفاعل فيها مشاعر وانفعالات "الرأي العام العربي" في هذه الحرب، تشمل أجيالا عدة، ودوائر اجتماعية وجماهيرية واسعة في بلدان عربية كثيرة. وتشمل أيضا أوساط المهاجرين العرب في الغرب، لكن على نحو شديد التعقيد في ما يتعلق بتنامي هذه المشاعر والانفعالات، وبتنوع عواملها ومساراتها والتعبير عنها، وما تنطوي عليه من اعتبارات ومواقف وأهداف.

لكل جماعة صولتها وجولتها وسلطانها وصولجانها، قبل كبوتها ونكبتها ومأساتها في حروب أهلية داخلية تتقاطع دوما مع عوامل إقليمية، تحوّلها حروبا بالوكالة عن قوى خارجية

أما في ما يتعلق بحرب إسرائيل الوحشية على "حزب الله" في لبنان، فلا بد من ملاحظة أن "الحزب" إياه قاد الجماعة الشيعية اللبنانية طوال أكثر من عقدين سبقتا هذه الحرب، وأقنعها برؤياه الخلاصية: العيش في "أمجادٍ" تختلط فيها التضحيات الأخروية بالقوة والسلطان الدنيويين، واختلاط الأوهام بالوقائع والحقائق. وبدأ ذلك بتحرّر الشريط الحدودي الجنوبي اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000. ومنذ ذلك الحين راحت تلك "الأمجاد" تتضخم، فبلغت عُظامها الأخروي في حرب يوليو/تموز 2006. وقد ترجم "حزب الله" ذاك العُظام ترجمة دنيوية: تفكيكه لبنان وتفتيته، وسيطرته على جماعاته وعلى مراكز القرار والحكم في دولته المتفسخة والمنحلة.

وكانت "الأمجاد" الأخروية والدنيوية وبالا على الجماعات اللبنانية الأخرى. وهي لم تجلب للجماعة الشيعية أخيرا سوى "مجد من رماد": نكبة ماحقة وتشريد مهول. والجماعات اللبنانية الأخرى لن تنجو من مصير بائس يترتب على هذه المحنة التي تُمعنُ في تصديعها وفي مضاعفة خوائها السياسي، الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وذلك أكثر بكثير مما تعرضت له الجماعات اللبنانية كلها في نكباتها المأساوية السابقة، تلك التي تشكل المنعطفات الحاسمة في تاريخها وتاريخ لبنان المعاصر، منذ أواسط القرن التاسع عشر.

والحق أن الجماعات الطائفية في لبنان، منذ عهد إمارته الجبلية القديمة، وحقبة الحكم الذاتي في جبل لبنان (1860-1914) وحتى اليوم، إنما يعيش كل منها في متاهة من الأمجاد والنكبات الدورية. فلكل جماعة صولتها وجولتها وسلطانها وصولجانها، قبل كبوتها ونكبتها ومأساتها في حروب أهلية داخلية تتقاطع دوما مع عوامل إقليمية، تحوّلها حروبا بالوكالة عن قوى خارجية.

والأكيد أن تاريخ لبنان المعاصر غير قابل للفهم، من دون إدراج النزاعات والحروب الدورية بين جماعاته وولاءاتها الخارجية، في صلب تاريخه. وما من مجد وقوة سياسية واجتماعية حصلتهما جماعة في لبنان، ومهما طال أمد المجد والقوة، إلا وتلتهما نكبة مأساوية. وفي الحالتين تضافرت وتقاطعت عوامل داخلية وخارجية.

وإذا كانت الأمجاد والنكبات تصيبان وتشملان جمهور الجماعات العضوي الذي يوالي عصبياتها وأحزابها وزعماءها ولاءً مستميتًا، فإن النكبات المأساوية وحدها تصيب الخارجين على ولاءات جماعاتهم. وهؤلاء غالبًا ما يبنون حياتهم ومصائرهم العامة والمهنية والشخصية بناءً ذاتيًا، ويحصّلون مواردها وقيمها ومعناها تحصيلًا ذاتيا أيضا. ومنهم المقيمون منذ سنوات متفاوتة في مهاجر بعيدة. والحرب الدائرة اليوم في بلادهم، تحمل إليهم هناك في مهاجرهم البعيدة مشاعر وانفعالات تعصف بهم معنويًا ونفسيًا وثقافيًا، ولا فكاك ولا مهرب لهم منها. ليس نتيجة انشدادهم إلى بلدان منابتهم وجذورهم وذكرياتهم الحية فيها فحسب، بل أيضًا نتيجة مسارات حياتهم في مهاجرهم.

وفي شهادات كثيرة يكتبها على منصات التواصل الاجتماعي لبنانيون وفلسطينيون ومن بلدان عربية أخرى يقيمون فيها أو في مهاجر بعيدة، تتردد أصداء النكبات التي تحيق ببلدانهم، ممزوجة بمشاعرهم وانفعالاتهم الأليمة جراء غربتهم ووحشتهم في البلدان الغربية. وتجمع بين أصحاب هذه الشهادات أنهم أفراد، وبنوا حياتهم ومصائرهم بناءً ذاتيًا، هنا في بلادهم وهناك في المهاجر. وغالبًا ما يذكرون أنهم لن يخرجوا من هذه الحرب بلا ارتجاجات وتصدّعات شخصية، قد لا يشفون منها.

وبعض هذه الشهادات- خصوصًا شهادات من تجاوزوا الخمسين من أعمارهم- يتردد فيها ندم أليم على ما خبروه من تجارب عامة وخاصة مريرة في بلدانهم ومهاجرهم. وهم يُجمعون على أن المحنة التي يتعرضون لها اليوم وتتعرض لها بلدانهم، تتجاوز في شدتها وقسوتها السرديات السياسية، إلى وجودهم الشخصي. لذا غالبا ما يعتزلون السياسة والشؤون العامة وسجالاتها، وينكفئون إلى عزلاتٍ ذاتية، فردية وشخصية، وينصحون آخرين بذلك علاجًا متوافرًا في هذه الظروف الأليمة.

أخيرًا، وفيما غزة ولبنان يعيشان نكبة ماحقة ينزلها بهما عُظام القوة الإسرائيلية المتوحشة، هل من الضروري التذكير بالنكبات الداخلية ومذابحها الأهلية في سوريا والعراق وليبيا واليمن؟

font change