مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" حيّز التنفيذ عند الرابعة من فجر الأربعاء يدخل لبنان مرحلة جديدة بعد حرب شعواء شنتها إسرائيل على كامل الجغرافيا اللبنانية استمرت شهرين وثلاثة أيام.
ليس هناك أدنى شك في أنها مرحلة ستكون حبلى بأسئلة كبيرة ليس بحجم الخسائر البشرية والدمار الهائل الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية، بل أيضا بحجم المتغيرات الجيوسياسية التي ستنتج عن هذه الحرب بوصفها جزءا من صراع أكبر بين إسرائيل وإيران. صراع تشكّل الولايات المتحدة جزءا رئيسا منه على قاعدة دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا ولكن في الوقت نفسه محاولة احتواء الصراع وعدم توسعه إلى حدود قصوى. وهو ما عكسته الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع الحرب في لبنان، إذ وعلى الرغم من الغطاء والدعم الأميركيين لإسرائيل، فإنه في لحظة دخول الحرب مرحلة "المراوحة" وتحولها إلى مجرد برهان على قدرة إسرائيل على استخدام القوة والتدمير، استنفرت واشنطن دبلوماسيتها عبر المبعوث الرئاسي آموس هوكشتاين للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لم تمانعه إيران بل سعت إليه ودفعت باتجاهه.
لذلك كله لا يمكن قراءة المشهد اللبناني الجديد بناء على معطيات لبنانية بحتة، وكأن الحرب كانت حصرا بين إسرائيل و"حزب الله" من دون أي سياق إقليمي ودولي، وهو ما يجعل معايير الانتصار والهزيمة والربح والخسارة ضبابية وغير ذات جدوى عمليا إلا في إطار التوظيف السياسي الداخلي في كل من إسرائيل ولبنان. فالأسئلة الأساسية لا تتصل حصرا بقياس الانتصار والهزيمة الذي سيخرج كل طرف حججا وسردية للدلالة عليهما، بل إن بيت القصيد هو في كيفية تطبيق الاتفاق وفي نتائجه بعيدة المدى ربطا بالمتغيرات الاستراتيجية التي فرضتها الحرب على اللاعبين الرئيسين وبالأخص إيران وإسرائيل. بمعنى أنّ معايير الانتصار والهزيمة لن تكون مقتصرة على نتائج الحرب المباشرة بل على طبيعة موازين القوى الجديدة التي سينتجها تطبيق الاتفاق وتحديدا لناحية نقطة رئيسة وهي قدرة "حزب الله" على إعادة بناء ترسانته الصاروخية كما كانت قبل الحرب، في سياق محاولة ترميم "توازن الردع" الذي أسقطته الحرب أو بأقل تقدير وجهت إليه ضربة قوية. مع العلم أن مبادرة إسرائيل إلى شنّ حرب ضدّ "حزب الله" ولبنان هي دليل كاف على سقوط نظرية الردع التي كان يروج لها "حزب الله" والتي بنى عليها وبالقوة واقعا سياسيا لبنانيا كاملا منذ عام 2006.
أما في النتائج المباشرة لوقف إطلاق النار فقد فصلت إسرائيل بين جبهتي غزة ولبنان بخلاف استراتيجية "حزب الله" للربط بينهما منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبالتالي هذه نقطة رئيسة في المضمون السياسي والعسكري للاتفاق ليست لصالح "حزب الله" في الدفاع عن سرديته وعن معاييره للانتصار، بما أنه كان يرفع منذ بداية الحرب شعار الربط بين الجبهتين ويتمسك به.
حضور أميركا
نقطة ثانية ليست لصالح "حزب الله" في مضمون الاتفاق وهي وجود أميركا في آلية مراقبة تنفيذ الاتفاق، وهذا وجود له دلالات استراتيجية كبرى بالنظر إلى سردية إيران و"حزب الله" طيلة المرحلة الماضية لجهة العمل على محاربة النفوذ الأميركي في المنطقة لا بل وإخراج القوات الأميركية منها وتحديدا في العراق وسوريا. فحتى لو قال الرئيس جو بايدن إنه لن تكون هناك قوات أميركية في جنوب لبنان، ولكن مجرد وجود أميركا في "لجنة المراقبة" يشكل انتكاسة سياسية لـ"حزب الله" وإيران، فيما كان الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله يهدد خلال الأشهر الماضية بقصف البوارج الأميركية في عرض البحر. كذلك فإن اعتراض "حزب الله" على وجود بريطانيا وألمانيا في لجنة المراقبة تلك لا يمكن تفسيره إلا بكونه تغطية على قبوله الاضطراري بوجود أميركا فيها.
لكن في المقابل فإنّ توسط أميركا في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإعلان هذا الاتفاق من قبل الرئيس المغادر جو بايدن، يطرح أسئلة عن استراتيجية الدولة العميقة الأميركية في التعامل مع المرحلة المقبلة ليس فقط في لبنان بل على صعيد المنطقة وتحديدا لجهة كيفية التعامل مع إيران على مستوى نفوذها في الإقليم وفي ما يخص برنامجها النووي. وهذه نقطة رئيسة في فهم اتفاق وقف إطلاق النار بين "حزب الله" وإسرائيل بنتائجه ومآلاته وفي فهم عموم المشهد المضطرب والمأزوم في المنطقة.
من ناحية أخرى يحيلنا هذا إلى كيفية تصرّف إيران في المرحلة المقبلة وتحديدا مع وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مع كل الأسئلة المطروحة حول سياساته الشرق أوسطية وبالأخص تعامله مع طهران، بين احتمال العودة إلى ممارسة "الضغط الأقصى" عليها واحتمال الوصول إلى صفقة معها حول برنامجها النووي واستتباعا نفوذها الإقليمي.
حتى الآن- وفي قراءة أولية لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله"- فإنه يمكن استنتاج أن إيران بموافقتها على الاتفاق تحاول استقبال ترمب بمرونة، خصوصا أن الرئيس الجمهوري كرر مرارا رغبته في وقف الحرب في الشرق الأوسط وإنْ لصالح إسرائيل. من دون إغفال أن قبول إيران بالاتفاق سببه أيضا الحفاظ ما أمكن على "حزب الله"، قوتها الرئيسة في الإقليم، بعد أن تلقى ضربات قاسية جدا خلال الحرب، وإن كان قد أثبت قدرة على مواصلة القتال واستهداف العمق الإسرائيلي وصولا إلى تل أبيب، لكن السؤال المطروح كان عن قدرة "حزب الله" على الاستمرار في القتال إذا ما طالت الحرب أشهرا عديدة، ولاسيما مع تركيز إسرائيل على استهداف مخازن أسلحته والأهم الإمدادات العسكرية الآتية إليه عبر الأراضي السورية.