منذ اندلاع حرب السودان في 15 أبريل/نيسان 2023، حاولت الكثير من الجهات وبشتى الطرق ترويج تعريفات وسرديات مغلوطة لطبيعة هذه الحرب، في محاولة لإيجاد مبررات سياسية واجتماعية لاندلاعها وتبرير تماهيهم مع أحد أطرافها، وبالتحديد ميليشيا "قوات الدعم السريع" عبر محاولة إسباغ الطابع العرقي والجهوي على حرب السودان، وإضفاء هذا التصنيف تشويشًا على حقيقتها، كصراع عنيف على السلطة.
ومؤخراً عاودت بعض التصريحات لبعض السياسيين الذين حار بهم الدليل في إعادة تعريف حرب السودان على أنها ليست بين الجيش السوداني وميليشيا "قوات الدعم السريع"، بل هي بين مكونات اجتماعية سودانية. ورغم أن تقرير مرصد نزاعات السودان بمعهد جامعة ييل للدراسات الإنسانية، الذي يعتمد على تحليل صور الأقمار الصناعية وكان قد تم تأسيسه في يونيو/حزيران 2023 بدعم من وزارة الخارجية الأميركية كجزء من محاولات تصميم آلية مراقبة لدعم تنفيذ مخرجات منبر التفاوض بجدة، كان قد حسم الجدل حول اندلاع الحرب في تقريره الأول، بالإفادة بأنها اندلعت نتيجة لتحركات ميليشيا "قوات الدعم السريع" للاستيلاء على السلطة في صباح 15 أبريل 2023، وهو أمر لم يكن السودانيون في حاجة لصور الستالايت لتأكيده بعد أن شاهدوا بأعينهم تحركات الميليشيا لمحاصرة قاعدة مروي الجوية في شمال السودان منذ 13 أبريل الذي سبق الحرب، إلا أن محاولات التشويش على طبيعة هذه الحرب لم تتوقف على الإطلاق، بحثًا عن أي طريقة لشرعنة الوجود السياسي لميليشيا "قوات الدعم السريع".
لم تكن سردية التمثيل العرقي هي الأولى، بل إن الميليشيا وحلفاءها مضوا في محاولات خداع الرأي العام السوداني والعالم بالادعاء بأنها تقاتل من أجل الديمقراطية والتحول المدني وضد حكم الإسلام السياسي، في محاولة لاستعارة شعارات ثورة ديسمبر الشعبية التي أطاحت بحكم الرئيس المخلوع عمر البشير وحزبه الحاكم، غير أن انتهاكات الميليشيا سرعان ما كشفت زيف هذه السردية. وتعتمد الميليشيا وحلفاؤها الآن على سردية تصوير الحرب كصراع عرقي بشكل أساسي وصريح بعد أن كان يصرح به بعض مناصريها على استحياء، بل إنها تستخدم هذا الخطاب بشكل أساسي كآلية للتجنيد في صفوفها والتحشيد الشعبوي للحرب.
يعتمد هذا الخطاب المضلل على إغراق الجمهور في تفاصيل كثيرة صحيحة من ماضي المؤسسة العسكرية والأمنية السودانية، وهو تاريخ مليء بالصفحات السوداء والدامية. ثم يستخدم ذلك بشكل انتقائي لإدانة طرف دون الآخر في محاولة لتصوير الحرب الحالية في السودان على أنها استمرار للحروب السابقة التي شهدتها البلاد.
ولكن يتجاهل هذا الخطاب المضلل أن كلا الطرفين المتحاربين الآن، القوات المسلحة السودانية وميليشيا "قوات الدعم السريع"، يتحملان وزر هذا التاريخ وتلك الجرائم بالتساوي، بلا فرق بينهما، فقد كانا من مكونات المنظومة العسكرية والأمنية السودانية نفسها، وأدوات كل ما ارتكبته من جرائم وأخطاء ومآس في حق الشعب السوداني، وظلت تحركهما مراكز القوى والحسابات السياسية نفسها.
بل إن "الدعم السريع" هو أسوأ منتجات وجرائم العقلية التي أدارت المنظومة الأمنية في السودان. وإذا كان ثمة مفاضلة بينهما، فهي نتيجة سلوك وتصرفات كل منهما بعد مواجهتهما العنيفة في 15 أبريل 2023 واندلاع القتال بينهما. ذلك غير أنه لا يستقيم استخدام الجرائم والانتهاكات التي حدثت بالأمس لتبرير جرائم اليوم. هذه محاولة بائسة لتغطية الحقائق وتبرير الانتهاكات. والموقف الصحيح هنا هو إدانة انتهاكات الأمس واليوم والعمل على إيقاف تكرارها وعدم استمرار ارتكابها على يد الميليشيا بدلاً من البحث عن مبررات لها.