العودة إلى البيت

عندما تحصل العودة ستكون مقترنة بمشاهد مأساوية

العودة إلى البيت

ينسب إلى الشاعر الألماني غوته قوله: "أجمل الثقافات ثقافة السفر... وأجمل ما في السفر العودة إلى البيت". وكل من اختبر السفر يمكنه أن يجد في هذا القول ما يعبّر عن تجربته. فمهما يكن السفر مترَفا، لغرض الاستجمام أو السياحة أو المشاركة في لقاء ثقافي، أو غير ذلك، فإن العودة إلى البيت تظل أشهى نهاية للرحلة، وإن كانت سريعة أو قصيرة. كأنما العودة إلى البيت هي التي تعطي للسفر معناه الحقيقي، معنى النزهة، التي هي- في معاجم اللغة- المكان البعيد، أو الترويح عن النفس، أو تجديد الطاقة... إلخ.

هذا في حالات السفر المترَف، الذي هو أولا سفر اختياري. فكيف تكون العودة إلى البيت في حالات السفر القسري؟ وخصوصا في الحروب، التي تجبر الناس على النزوح، بل تقتلعهم من بيوتهم اقتلاعا. هنا يكون الابتعاد عن البيت تشردا وضربا في التيه.

وإذا ما أتيح للنازحين أن يعودوا، تكون العودة إلى البيت كالعودة مجددا إلى الحياة. أما إذا عاد النازح إلى بيته ولم يجد سوى أنقاضه، فكيف له أن يشعر؟ كيف له أن يفرّق بين أنقاضه وأنقاض بيته؟ ومهما تكن عزيمته على إعادة البناء قوية، فإنه قد لا يستطيع أن يعيد إلى نفسه ما فارقها أو تهدّم منها.

ومن المؤسف أن النزوح بات شائعا عندنا، منذ قيام دولة إسرائيل وتوالي اعتداءاتها على البلدان المحيطة بها. وأكثر من عانى من هذا النزوح الفلسطينيون، ومن بعدهم اللبنانيون. والنزوح الفلسطيني، ابتداء من عام 1948، تحول مع الوقت إلى لجوء وإقامة في مخيمات، خصوصا في لبنان وسوريا والأردن. أما النزوح اللبناني فقد تكرر مرارا مع الاجتياحات الإسرائيلية التي وصل أحدها إلى بيروت في عام 1982. واللبنانيون الذين كانوا ينزحون من الجنوب، على أثر كل اجتياح، كانوا لا يلبثون أن يعودوا إلى بيوتهم، لترميمها أو إعادة بنائها. إلا أن التجارب المريرة هذه قد بلغت اليوم درجتها القصوى، في الحرب القائمة على غزة ولبنان.

في غزة، لم يعد النزوح نزوحا فقط. فهذه الكلمة باتت عاجزة عن وصف ما حدث ويحدث. لم يبق في غزة مكان آمن يُنزح إليه. وكذلك في لبنان، حيث التدمير تعدى الجنوب إلى مناطق أخرى، وصار في الغالب تدميرا من أجل التدمير. واللبنانيون الذين فقدوا بيوتهم أو تركوها بحثا عن أمكنة آمنة يعيشون في ظروف صعبة جدا، على أمل العودة إلى بيوتهم عند انتهاء الحرب. ومع الوقت يزداد شعورهم بصعوبة هذه العودة، أو بهوْل ما سيجدونه عند العودة.

أية دوامة هذه التي وضعَتنا فيها اسرائيل منذ أكثر من سبعة عقود، ووضع نفسه فيها؟ ما الذي لم نختبره مع هذا العدو، الذي جرب فينا كل وسائل التدمير والقتل والتشريد؟

الدمار الحاصل في لبنان لا سابق له، ولا حتى في حرب عام 2006. والقرى المتاخمة للحدود بين لبنان وفلسطين نالها من هذا الدمار ما لا يقل عما نال المدن والقرى في قطاع غزة. ولم يوفر التدمير الإسرائيلي مدنا وقرى بعيدة عن الحدود. منها بعلبك وصور وبيروت. ولكن النزوح كان في أكثره من الجنوب، الذي خلا من أهله الذين انتشروا في جميع المناطق اللبنانية، التي تلقّتهم بتعاطف ومؤازرة. إلا أن النازحين من الجنوب، الذين تجاوز عددهم المليون، أصيبوا هذه المرة أكثر مما أصيبوا في المرات السابقة، وعانوا من المصاعب ومن الظروف المعيشية والاقتصادية المنهارة أصلا– قبل الحرب– ما لم يعانوه من قبل. وبسبب من ذلك، ستكون العودة إلى البيوت التي نجت أو انهارت في الجنوب، والتي يأمل النازحون أن تكون قريبة، ستكون مختلفة جدا عما سبقها في الماضي من نزوح وعودة.

عندما تحصل هذه العودة، بعد قليل أو كثير من الزمن، ستكون مقترنة بمشاهد مأساوية، أو لنقُلْ بمشاهد عاطفية مؤلمة جدا، خصوصا بالنسبة إلى النازحين الذين سيعودون إلى بيوتهم الممحوة أو المدمرة. أية رحلة هذه التي ابتدأت على أمل العودة إلى البيت، لتنتهي بالوقوف على أطلاله؟

أية دوامة هذه التي وضعَتنا فيها إسرائيل منذ أكثر من سبعة عقود، ووضع نفسه فيها؟ ما الذي لم نختبره مع هذا العدو، الذي جرب فينا كل وسائل التدمير والقتل والتشريد؟ إلى متى سنبقى عرضة للنزوح والهجرة والرحيل القسري؟ متى ستصبح العودة إلى البيت شأنا عاديا ومفرحا، على أثر ابتعاد اختياري؟ إلى متى تظل العودة إلى البيت والاستقرار فيه حلما أو أملا بعيدا؟

font change