هاجر بن بوبكر تكتب قصة باريس العربية

نضالات المغاربة وموسيقاهم في حي باربيس موضوع بحثها الجديد

الباحثة والموثّقة الفرنسية التونسية هاجر بن بوبكر.

هاجر بن بوبكر تكتب قصة باريس العربية

"القصة، على رغم قسوتها، لم تكن دائما حزينة. إنها تروي حيوات لم تكن محاصرة داخل الحدود الضيقة لأمة، أو أسوأ من ذلك، لجنسية. وبينما كانت أشياء كثيرة تلامس القبح، فقد ارتقى بها رجال ونساء، أكثر من مرة، بلفتة جماعية".

هذه الفقرة التي تفتح وتختم كتاب الباحثة والموثّقة الفرنسية التونسية هاجر بن بوبكر، "باربيس بلوز"، تشكّل خير خلاصة لمضمونه المثير. كتاب صدر حديثا في باريس، عن دار "سوي"، وبإحيائها فيه "شخصيات وملاحم وطُرَف ومآسي"، تروي صاحبته التفاصيل الصغيرة والأحداث الكبرى التي جعلت من حيّ باربيس (Barbès) الفقير والشهير في باريس، "حاضنة لنضالات المهاجرين المغاربة" في فرنسا، وفضاء خصبا لموسيقاهم، "طائفة نجحت، داخل متاهة من الأزقة، وعلى رغم كل الصعوبات التي واجهتها، في تشييد عالم فسيح".

تاريخ معقّد

تعرف بن بوبكر أن كتابة تاريخ شعبي لمغاربة باريس هو مشروع طموح، نظرا إلى غنى هذا التاريخ وتعقيده. ولذلك، تقرّ في مقدمة كتابها بأن لا نزوعا شموليا وموسوعيا يتحكم في معالجتها موضوعه، بل "خيارات أملتها المشاعر والضرورة". بالتالي، كتابها هو قبل أي شيء مجموعة من القصص، انبثق من أرشيف وخصوصا من أمكنة، ويتوق إلى "إعادة تشييد عوالم متوارية كانت موجودة في هذه الأمكنة أو في خيال أولئك الذين قطنوها".

تقرّ الباحثة أيضا في مقدمتها بأن الكتابة في هذا الموضوع هي بالضرورة "إعادة ابتكار، إعادة بناء شيء من الحياة اليومية للأجيال التي سبقتنا"، في الوقت الذي تعمد باريس فيه إلى طرد أطفالها الفقراء من فضائها بحجة التحديث المديني. لذلك، كان من الضروري لها التمتع بهامش من الحرية كوسيلة لسد الفراغات، فـ"كل هذه الشذرات المتناثرة من القصص لا تقول أحيانا شيئا عن المشاعر"، وأيضا كوسيلة للتقرب من أولئك الذين، بوضعها قصتهم في مركز اهتمامها، أعادوا إليها شيئا من قصتها. لكن القراءة التي تقترحها لقصتهم لا تهدف إلى تحويلهم أبطالا أو ضحايا، بل إلى كشف المجتمع الفرنسي المنحدر نحو الفاشية، "القوة التي طبعوا بها هذه المدينة، بنية وتاريخا، وإلى أي حد هم إذا جزء من أساسات صرحها".

يتوق الكتاب إلى "إعادة تشييد عوالم متوارية كانت موجودة في هذه الأمكنة أو في خيال أولئك الذين قطنوها"

في هذا الكتاب قصص مأسوية. وقد "تطلب سردها، وأحيانا مجرّد ملامستها، الحفر حتى العظم في جسد مجتمع يعاني من مرض القسوة. تلك القسوة التي تصدّع الحيوات وتقضي غالبا عليها، وتحمل اسم العنصرية". ولم تتردد بن بوبكر في الحفر "كي لا تسلبنا هذه القسوة، التي انهالت على حيواتنا أكثر من مرة، شيئا من نجاحاتنا ـــ بدءا من بعض الثورات ــــ من يساريتنا الرعناء، ومن عيوبنا". حفر "ليس بهدف إثبات أي شي ـــ خصوصا إنسانيتنا ــــ بل لأرشفة أشياء مؤثّرة حدثت في شوارع عبرتُها مرارا، وتسجيل خطوط عريضة وتفاصيل صغيرة بات من الصعب رؤيتها في باريس اليوم".

غلاف رواية "باربيس بلوز".

عودة بالزمن

"باربيس بلوز" ينقسم خمسة فصول تتميز بالبنية نفسها: عنوان عام، صورة، اقتباس مستثمَر كاستهلال، جوقة من الأصوات التي تعود إلى الشخصيات التي تقطن السردية، ولائحة بالأمكنة المستعادة. أما القصة التي ترويها صاحبته فيه، فتبدأ في باريس قبل الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في الدائرة الخامسة منها التي قطنها المهاجرون المغاربة الأوائل. عمّال اشتغل عدد منهم في المصانع الكبرى، وعدد آخر في بناء مترو الأنفاق في المدينة، وما لبث عددهم أن ارتفع، بعد الحرب، لأن فرنسا كانت تحتاج إلى إعادة إعمار، ولطالما اعتمدت على مخزون اليد العاملة في مستعمراتها.

بعد ذلك، تحطّ سردية الباحثة بنا في بداية الثلاثينات التي ظهرت فيها تلك الفنادق البائسة المرصودة لإيواء هؤلاء العمّال، والمقاهي التي كانوا يجتمعون فيها، هربا من غرفهم الضيقة وغير الصحية. ومن بين هؤلاء، تتوقف عند مناضلَين فوضويين: محمد سئيل وعبد الرحمن كوان، عند "جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين"، وعند صحيفة "المنبوذ" التي تعاون فيها الجزائري عبد القادر الحاج علي مع رئيس فيتنام الشمالية لاحقا، هو شي منه، ملاحِظةً أن المقهى كان دائما مكان اللقاء.

JOEL SAGET - AFP
امرأة بجلباب وزهور تسير في باربيس، باريس.

وبعد سلسلة بورتريهات مثيرة، تحطّ السردية في مسجد باريس الذي شيّد عام 1926 في الدائرة الخامسة، ويشكّل اليوم كل ما تبقّى من تلك الحقبة، لأن المغاربة سيُطردون في الخمسينات من هذه الدائرة، وإن بقي فيها بعض المقاهي، مثل "مقهى عبد الكريم" الذي سيصبح "كباريه الجزائر" وأول كباريه شرقي في باريس يمهد الطريق لملاهٍ عديدة من هذا النوع لا تلبث أن تنسج خريطة المشهد الموسيقي المغاربي في هذه المدينة. "مشهد خدّاع، كونه يمنح صورة بعيدة كل البعد عن قدر الجزء الأكبر من المهاجرين المغاربة فيها". ومع ذلك، فإن كباريهات شارع سان سيفرين شكّلت، في نظر الباحثة، "منصة لتجديد فني ــــ ثقافي غالبا ما اُهمِلت قصته لدى كتابة تاريخ بلدان المغرب العربي. قصة مهاجرين منحوا أنفسهم الحق في الوجود كما هم، أو كما كانوا يحلمون بأن يكونوا. قصة إبداع ناس عاديين".

من حي باربيس، تعود الباحثة في سرديتها إلى "الحي اللاتيني" الذي شكّل في نهاية الستينات حاضنة حراك الطلاب خلال ثورة مايو 1968

في موازاة ذلك، وضمن المشهد نفسه، تبيّن الباحثة في سرديتها كيف اعتمدت "جبهة التحرير الوطنية"، مع انطلاق الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي عام 1954، على الراقصة الشرقية في "كباريه الجزائر"، شهرزاد، لتوفير جزء من المال الذي كانت تحتاج إليه، عبر توكيلها بلمّ المساهمات من بنات الهوى الجزائريات في باريس. محطة نتعرّف فيها إلى عالم الدعارة في هذه المدينة آنذاك، ونعرف أن الجبهة المذكورة، على الرغم من حظرها البغاء، استفادت ماديا من عمل المومسات، "الأمر الذي منح محررين وسياسيين فرنسيين فرصة لاختزال الثورة الجزائرية إلى حراك قوّادين وجانحين، وعزز الصورة العنصرية المبتذلة للجزائري كشخص بلطجي".

الباحثة والموثّقة الفرنسية التونسية هاجر بن بوبكر.

فتنة حيّ باربيس

بعد ذلك، تتابع بن بوبكر قصة الكباريهات والمقاهي الشرقية في باريس، ثم تستعرض المواجهات بين "جبهة التحرير الوطني" و"الحركة الوطنية الجزائرية" التي خلّفت 3000 قتيل، قبل أن تتوقف عند الفتنة التي وقعت في حيّ باربيس عام 1955 ومنحت رئيس شرطة المدينة آنذاك، الفاشي موريس بابون، عذرا لإغلاق المقاهي والفنادق المغاربية، وتحويل الكباريهات في شارع "لا غوت دور" إلى مراكز تعذيب، ثم لقمع تظاهرة "الجبهة" السلمية في باريس بعنف دموي عام 1961.

ومن حي باربيس، تعود الباحثة في سرديتها إلى "الحي اللاتيني" الذي شكّل في نهاية الستينات حاضنة حراك الطلاب خلال ثورة مايو/ أيار 1968، فتذكّر بنشاط الناشر فرنسوا ماسبيرو الذي رافق الثوار في انتفاضتهم ونشر كتبهم، ثم تتوقف عند عمل المنظّمات المغاربية الأولى المناصرة للفلسطينيين التي تشكّلت بعد هزيمة العرب عام 1967، مستحضرة، لتفسير ظهورها، وعي الطلاب وتواصلهم مع العمّال ونشرهم بينهم أفكار "منظمة التحرير الفلسطينية"، وأيضا إذاعة "صوت العاصفة" التي شكّلت نقطة تقاطر لمختلف النضالات.

BENJAMIN CREMEL - AFP
بائع يبيع الطعام في سوق بمنطقة باربيس في باريس.

وفي العودة إلى حيّ باربيس، تتناول الباحثة التظاهرة الضخمة التي انطلقت منه عام 1971، إثر مقتل المراهق الجزائري الجلالي بن علي، وشاركت فيها وجوه فكرية وفنية فرنسية كبرى، مثل سارتر ودولوز وفوكو وإيف مونتان وسيمون سينيوريه، ثم تنتقل إلى "منظمة العمال العرب" التي انبثقت من هذا الحراك وترأسها ناشطون معروفون بدعمهم للقضية الفلسطينية. ولأن الحياة في هذا الحي لم تتوقف أثناء كفاح قاطنيه المغاربة، تدعونا بن بوبكر إلى جولة مثيرة في أرجائه، خلال عقد السبعينات، نتعرف فيها إلى أجواء المقاهي ومتاجر الأسطوانات، وأستوديوهات التسجيل. وبتركيزها على المطربين والمنتجين الموسيقيين الذين كانوا ناشطين آنذاك، تنجح في تسليط الضوء على "تلك الشخصيات التي أدّت، بوعي أو بغير وعي، دورا مهما في تشكيل هذا التراث".

قيمة هذا البحث لا تعود إلى فطنة معالجته العلمية، على أهميتها الشديدة، بقدر ما تعود إلى عدم التزام بن بوبكر داخله ذلك الحياد المتوقّع من عالم اجتماع وإثنولوجيا

الثمانينات

ومن عقد الثمانينات الذي يشكّل حدود المرحلة التاريخية المقارَبة في "باربيس بلوز"، تستحضر الباحثة أولا المحطة الإذاعية الأولى المخصصة للمهاجرين، "راديو سولاي"، التي أسّسها ناشطون في جمعية "بلا حدود" عام 1981، وعرفت نجاحا كبيرا منذ إطلاقها، لرفعها صوت المغاربة في فرنسا آنذاك، وبثِّها معظم برامجها باللغتين العربية والفرنسية. تستحضر أيضا "المسيرة من أجل المساواة ومناهضة العنصرية" التي انطلقت من مرسيليا في أكتوبر/ تشرين الأول 1983، ووصلت إلى باريس بعد شهرين، بعدما عبرت 45 مدينة فرنسية، قبل أن ترصد صفحات عديدة لعمليات الاغتيال العشرين التي وقع مهاجرون مغاربة ضحيتها خلال العام المذكور، وكانت السبب في تنظيم هذه المسيرة.

ولا تنسى بن بوبكر الشبان المغاربة الذين، بعدما قضوا خلال ذلك العقد بمرض الإيدز أو مخدر الهيرويين، في حيّ باربيس والأحياء المحيطة به، وقعوا ضحية الصمت المطبق الذي التزمه ذووهم في هذا الموضوع، لأن الإيدز والهيرويين كانا مرادفين للعار داخل محيطهم، ولأن صورة المهاجر في بلدان المغرب العربي اختلطت لفترة طويلة مع صورة حامل الإيدز أو المدمن.

باختصار، تنتظرنا في "باربيس بلوز" عملية تأريخ اجتماعي تستكشف موجات تدفق الهجرة المغاربية إلى باريس على امتداد القرن الماضي، معيش أفرادها في هذه المدينة، ديناميكيات اندماجهم ومقاومتهم، ذاكرتهم الفردية وسردياتهم الجماعية، ضمن مقاربة تتوق، بجمعها بين مناهج علم الاجتماع الحضري ودراسات ما بعد الاستعمار والتاريخ الشفهي، إلى تقديم رؤية دقيقة ومفصّلة لهذا الموضوع.

BENJAMIN CREMEL - AFP
تحضير الطعام في سوق باربيس، باريس.

لكن قيمة هذا البحث لا تعود إلى فطنة معالجته العلمية، على أهميتها الشديدة، بقدر ما تعود إلى عدم التزام بن بوبكر داخله ذلك الحياد المتوقّع من عالم اجتماع وإثنولوجيا، وانغماسها بشكلٍ شخصي، حميم، في مسعاها: "لقد شيدتُ كتابي مثل منزل، أو بالأحرى، كما نرسم منزل طفولة تفلت بعض تفاصيله منا وفقا لما يفعله الزمن في الذاكرة". انغماس يتجلى خصوصا في إدراجها داخل كل فصل من فصول كتابها فقرات متفاوتة الطول، بخط مائل، تعبّر فيها عن مشاعرها، وتساؤلاتها، ومعنى هذا البحث عن الماضي.

تعود أيضا قيمة هذا الكتاب إلى أسلوب كتابته الجميل الذي يمد نثره بنبرة وإيقاع قصة، مما يمنح قارئه الانطباع بمطالعة سردية أدبية شيّقة، وليس بحثا علميا جافا.

font change

مقالات ذات صلة