لفتت سلسلة من الزيارات المتبادلة رفيعة المستوى بين المسؤولين الإيرانيين والسوريين الأنظار، رغم الاضطرابات المتواصلة التي تعصف بالمنطقة. وبينما تُعد اللقاءات الدبلوماسية بين هذين الحليفين القديمين أمرا مألوفا، فإن وتيرة الاجتماعات الأخيرة وتوقيتها كانا استثنائيين ولافتين للانتباه. ففي غضون خمسة أيام فقط، جرت ثلاث زيارات بارزة: بدأها علي لاريجاني مستشار المرشد الإيراني، الذي زار دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد. تلتها زيارة وزير الدفاع الإيراني إلى العاصمة السورية بعد أقل من يومين على عودة لاريجاني إلى طهران، ثم أعقبتها زيارة وزير الخارجية السوري إلى طهران.
أثار تكثيف هذه التحركات تساؤلات واسعة حول طبيعة التحالف الإيراني-السوري. فقد ترددت شائعات على مدى الأشهر الماضية عن وجود تصدعات في هذه العلاقة، حيث ناقش محللون احتمال ابتعاد الأسد عن طهران سعيا لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من إعادة اصطفافه. ومع ذلك، قد يستهين المراهنون على تحول جذري بالميزة الاستراتيجية التي يتمتع بها الأسد من خلال الحفاظ على غموض موقفه بشكل متعمد، وهي استراتيجية تزيد من نفوذه مع مختلف الأطراف.
تأكيد الروابط وسط التكهنات
يعقد المراقبون آمالهم على احتمال حدوث تحول جذري في نهج الأسد، مستندين إلى التحولات السياسية والعسكرية السريعة التي تعيد تشكيل ملامح المنطقة. فقد دفعت التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة- إلى جانب برغماتية الأسد التي تركز على البقاء- سوريا إلى تجنب الانخراط في أي تصعيد انتقامي تقوده إيران ضمن "محور المقاومة". ومع ذلك، لم تسلم المناطق الخاضعة لسيطرة النظام من تصعيد الغارات الجوية الإسرائيلية التي تستهدف شحنات الأسلحة الموجهة إلى "حزب الله".
رغم انحيازه العلني إلى طهران، يلمّح الأسد سرا إلى استعداده للتعاون مع الجهات الساعية لإضعاف النفوذ الإيراني
وأدى إصرار تل أبيب على تعطيل خطوط إمداد "حزب الله" عبر سوريا، واحتمال تقديم حوافز سياسية واقتصادية للأسد مقابل ابتعاده عن طهران، إلى إثارة تكهنات حول إمكانية إعادة اصطفافه. وقد تعززت هذه التكهنات في ظل تقارير تشير إلى تصاعد التوترات بين الأسد وإيران خلال الأشهر الأخيرة.
غير أن سلسلة الزيارات الأخيرة عقّدت الأمر. فالتتابع السريع للاجتماعات هذه وطبيعتها المتبادلة يوحيان بأنها تتجاوز مجرد محاولة لاحتواء الأضرار، بل تكشف عن جهد مدروس من كلا الطرفين لإبراز وحدة الصف وإعادة ترتيب ملامح العلاقة بينهما.
وأكدت التصريحات الصادرة عن هذه الاجتماعات وضوح هذا الهدف. فقد شدد المسؤولون الإيرانيون على الدور المحوري الذي تلعبه سوريا في "محور المقاومة"، وأعادوا التأكيد على التزامهم بمواصلة تقديم الدعم. في المقابل، يُرجح أن الأسد اغتنم هذه الفرصة لطلب زيادة في المساعدات الاقتصادية، التي تمثل شريان حياة حيويا يحتاجه نظامه، الذي يواجه أزمات مالية حادة، لضمان استمراره في السلطة.
استراتيجية الازدواجية
وفي الوقت الذي تعزز فيه هذه الزيارات المتبادلة الشعور بالاستمرارية، فإنها تكشف أيضا عن التوازن الدقيق الذي يعتمده الأسد في سياسته. فرغم انحيازه العلني إلى طهران، يلمّح الأسد سرا إلى استعداده للتعاون مع الجهات الساعية لإضعاف النفوذ الإيراني. وأفاد دبلوماسيون مطلعون بأن النظام استشهد مرارا برفضه الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل كدليل على استراتيجيته للابتعاد عن طهران. كما أشار مسؤولون إلى أن المضي قدما في هذا الاتجاه يتطلب دعما خارجيا لتعويض المخاطر، خاصة مع اعتماد الأسد الكبير على المساعدات المالية والإمدادات النفطية الإيرانية. وتهدف هذه المحادثات السرية إلى تمكين الأسد من الحصول على مكاسب محتملة دون الالتزام بتقديم تنازلات كبيرة.
ولتعزيز موقفه التفاوضي، قد يُلمح الأسد إلى استعداده لتقييد شحنات الأسلحة الإيرانية الموجهة إلى "حزب الله" عبر الأراضي السورية، وهو شرط قد يُطرح في أي اتفاق يستهدف إنهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان. ويمكن تصوير هذه الخطوة كدليل إضافي على الابتعاد عن محور إيران. ومع ذلك، من المرجح أن تظل هذه الخطوة مجرد مناورة محسوبة منخفضة المخاطر.
وحتى لو جرى التوصل إلى اتفاق كهذا، فمن غير المحتمل أن يلتزم الأسد بتنفيذه. ويمكن للنظام ببساطة الادعاء بجهله بما يحصل، مبررا استمرار شحنات الأسلحة بضعف سيطرة الدولة، وهو أسلوب سبق أن استخدمه لتبرير تفشي تهريب المخدرات من سوريا. والمفارقة أن الأسد قد يستغل هذه الأنشطة غير القانونية للحصول على مزيد من الدعم، مدعيا أن تقوية نظامه هي الحل الوحيد للحد من هذه العمليات.
تسلط هذه الازدواجية المحسوبة الضوء على استراتيجية الأسد الراسخة التي تعتمد على استغلال جميع الأطراف مع تقديم أقل قدر ممكن من التنازلات، إن وُجدت. فقد تمكن مرارا من انتزاع تنازلات دون إجراء تغييرات جوهرية. ويبقى السؤال عما إذا كان الأسد سيتمكن من الاستمرار في تحقيق مكاسبه دون تقديم تنازلات حقيقية، وعما إذا كان حلفاؤه وخصومه على استعداد لتحمل مناوراته المستمرة؟