"حيث مولد الشمس" للجزائري حبيب السائح: أسئلة الماضي واغتراب الحاضر

تأملات في ماضي البلاد وحاضرها

AlMajalla
AlMajalla

"حيث مولد الشمس" للجزائري حبيب السائح: أسئلة الماضي واغتراب الحاضر

تستعرض رواية "حيث مولد الشمس... سيرة أخرى لحسين الشاذلي" للروائي الجزائري حبيب السائح رحلة تأملية داخل الذات الإنسانية، في تفاعل يمزج بين الحنين والغربة، والأسئلة الوجودية. عبر بطلها حسين الشاذلي، تتناول الرواية مواضيع الزمن والذاكرة والفناء بأسلوب يستدعي الإبحار في أسئلة فلسفية تتعلق بالوجود وتجربة الجزائريين التاريخية والاجتماعية، ليعكس الكاتب عبرها محنة البحث عن معنى الحياة، التي أحسن التعبير عنها بافتتاحية عمله: "إننا لا ننسى بقدر ما نكبت". هذه العبارة المكثفة تستحضر معاناة البطل حسين في قمع ذكرياته المؤلمة، وتجعلها منطلقا أساسيا للتأملات التي تكمن خلف كل سطر.

صراع الذات مع الذاكرة

يحاول حسين عبثا التعايش مع ماضيه الحافل بالحروب والصعوبات، لا عن إيمان بعبارة نيتشه الشهيرة "ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى"، بل لرغبته في إيجاد ملاذ يهرب إليه من وطأة الذكريات التي تفرض نفسها عليه. هذا التوتر النفسي يجعله يشعر بوحدة عميقة في وطنه، مما ينعكس على تصرفاته وعلاقاته بالآخرين. هذا الجانب من شخصية حسين يعيد إلى الأذهان حالة البطل في رواية "الغريب" لألبر كامو، حيث يعيش حسين أيضا شعورا دائما بالغربة، لا منفى خارجيا بل غربة داخلية تتجلى في وطنه الجزائر. حيث يصبح الوطن نفسه كيانا غريبا عن صاحبه، يشكّل عالما مزدحما بالتناقضات.

بهذا، يظهر حسين حالة فريدة تجمع بين قسوة الماضي ومرارة الحاضر، يجسّد تجربة جماعية تشعر بها أجيال عاشت قسوة التاريخ. فبينما تسكنه ذكريات الطفولة والشباب، يحاصَر بعواقبها التي تلقي بظلالها على حياته الراهنة. إن هذا التداخل بين الماضي والحاضر يُظهر مدى تأثير تجارب الحياة على النفس البشرية وكيف تشكّل رؤيتنا للواقع.

هذا التداخل بين الماضي والحاضر يُظهر مدى تأثير تجارب الحياة على النفس البشرية وكيف تشكّل رؤيتنا للواقع

يجد حسين نفسه متأرجحا بين ضجيج ذكريات "حي الزنوج" في وهران وصمت واقعه الحاضر، حيث تصبح هذه الذاكرة نافذة لالتقاط تفاصيل الحياة اليومية. ففي حين تمثل وهران ماضي الطفولة والأسواق والأصوات، نجد أن أدرار تمثل في خياله ملاذا روحانيا. لقد استخدم السائح هذه المدن كرموز للأمل والألم، وجعل من المنزل الذي ورثه حسين عن والديه رمزا للثبات ولذاكرة الأجيال.

تتجلى هذه الرمزية بوضوح عندما يتأمل حسين البيت الذي نشأ فيه، حيث يرتبط هذا المكان بحكايات أجداده وذكرياته الخاصة. وبهذا، كشف السائح عن الرابطة بين الذاكرة والأرض، ليظهر أن الوطن في حالة حسين ليس مجرد موقع جغرافي بل هو هوية عميقة الجذور. إن هذا الربط يعكس رؤية الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بأن "المنزل ليس مجرد مكان، بل هو ملاذ من الزمن العابر"، فتغدو ذاكرة حسين امتدادا للأرض.

Jacques GREVIN - AFP
جنود يفتشون هويات بالقصبة، الجزائر، 12 ديسمبر 1960، بعد تظاهرة ضد سياسة ديغول.

تجسيد التاريخ

لا تقدم الرواية رحلة شخصية فحسب بل هي مرآة لعذابات جماعية ارتبطت بتاريخ الجزائر. تظهر ذكريات حسين عن التهجير، وحواجز الجنود، وتبرز من خلال ذلك رؤية الكاتب العميقة حول العواقب النفسية للاستعمار الفرنسي. عبر هذه المقاطع، يظهر السائح كيف يعبر هذا التاريخ عن نفسه في الفرد، بحيث يجسّد حسين هذا الصراع الذي يفرضه الماضي بكل ثقله.

بهذا، ينسج الكاتب سردا متكاملا لعذابات أجيال، محاكيا بذلك ما عبّر عنه المفكر فرانز فانون من أن الاستعمار لا يدمر المجتمعات فحسب، بل يمسخ الروح. فكل لحظة يتذكر فيها حسين الألم والفقد تُبرز مدى تأثير التاريخ على الفرد. وهذا الطرح يجعل من الرواية عملا جماعيا، يعرّي الآثار النفسية العميقة التي خلّفها الاستعمار على الشعب الجزائري من خلال سيرة حسين الشخصية.

ينسج الكاتب سردا متكاملا لعذابات أجيال، محاكيا بذلك ما عبّر عنه المفكر فرانز فانون من أن الاستعمار لا يدمر المجتمعات فحسب، بل يمسخ الروح

يعتمد السائح على أسلوب المونولوغ الداخلي، حيث نجد حسين يعبر عن أفكاره وتأملاته بأسلوب شاعري، مشبع بالتكرار والإيقاع. هذه التقنية تمنح القارئ فرصة لمعايشة الأحاسيس العميقة التي يتأرجح فيها حسين بين الحنين والأسى. تتجلى الأسئلة الوجودية في كل سطر، منجرفا في تساؤلات مغرقة في عبثية وجودية تبحث عن معنى لحياة تتكرر فيها الأحداث دون أجوبة واضحة.

بهذا، يصبح المونولوغ الداخلي وسيلة لاكتشاف حسين لنفسه، وإبراز ألمه النفسي وتجاربه الفردية ضمن نسيج يجمع الماضي بالحاضر. تتسارع وتيرة التفكير، حيث يصبح كل تأمل تجسيدا للصراع النفسي الذي يعيشه، لتبدو التأملات كقوة متداخلة تتعاظم مع كل جملة، مما يخلق توازنا بين الحزن والأمل.

shutterstock
قصور ولاية أدرار، الجزائر.

البحث عن ملاذ روحي

في بحثه عن ملاذ من ضجيج الحياة الحاضر، يلجأ حسين إلى أدرار، ليجد فيها شيئا من السكينة والعمق الروحي. هذا المكان، الذي يبدو خارج الزمان والمكان، يمثّل رمزا لحنين حسين الى هوية نقية غير مشوهة، ومحاولة منه لاستعادة اتصال مع الذات، بعيدا من الواقع الملوث. ورغم أن لقاءه شخصية "المرابطة" يمنحه لحظة من الاسترخاء والسلام، فإنه يظل عاجزا عن الانفصال عن جراح الماضي وذكريات "حي الزنوج"، التي تشكل صراعا داخليا مستمرا.

إن هذا الصراع يعكس ما يعيشه العديد من الجزائريين اليوم، حيث يستمر التناقض بين ما يُعتبر وطنا وبين ما يُشعرهم بالغربة. من خلال هذا السياق، تظهر أدرار كأكثر من مجرد مكان، بل كملاذ روحي يسعى فيه حسين للشفاء والبحث عن الذات.

تكشف الرواية من خلال حسين عن الصراع الداخلي بين الحلم الجماعي بالحرية وخيبات الحاضر. فحسين يعيش تناقضا بين تطلعات الماضي وانكسارات الحاضر، بين ما كان ينتظره من الوطن وما وجده بعد الاستقلال. هذا الجانب من الرواية يعكس عمق الألم الذي شعر به جيل ضحى بالكثير، ليواجه لاحقا خيبة الأمل في الواقع.

دعوة الى التفكير والتأمل في ماهية الوجود وكيف يمكن للذكريات أن تحدد مسار حياتنا

إن الحلم بالتحرر من قيود الاستعمار وما تلاه من آمال كبيرة كانت مبنية على أساس من التضحية والفداء، يتلاشى مع مرور الوقت ليترك وراءه إحساسا بالخيبة. وبذلك، يُظهر السائح هذا التناقض بوصفه ليس مجرد صراع فردي، بل هو تعبير عن شعور أعمق يمتد بين مختلف الجزائريين ممن عاشوا حلم الاستقلال ومآلاته. هذا التداخل بين الأمل والألم هو ما يشكل جوهر التجربة الجزائرية، ويجعل من حسين صوتا لأجيال بأسرها.

AFP
قوات فرنسية في عملية عسكرية في تابلات، 21 أبريل 1956، خلال الحرب الجزائرية.

لا يقدم السائح نهايات حاسمة، بل يترك حسين حائرا بأسئلته في خصوص الموت والحياة، فتظل النهاية مفتوحة كتعبير عن عبثية الحياة. وكأن الرواية تخبرنا أن لا إجابات نهائية في هذا العالم، حيث يُعتبَر البحث عن المعنى في حد ذاته حريّة. إن هذا الأسلوب في إنهاء الرواية يمنح القارئ فسحة للتأمل، ويؤكد أن رحلة البحث عن الحقيقة قد تكون أهم من الوصول إليها، وكأنها تقول لنا إن الحرية قد تكمن في طرح الأسئلة لا في الإجابة عنها.

تتجاوز رواية "حيث مولد الشمس" حدود السرد التقليدي، لتقدم تجربة عميقة تتناول قضايا الوجود والغربة، حيث يجد القارئ نفسه في قلب صراعات حسين وأفكاره. فتظهر تأملاته في الزمن والذاكرة والهوية كيف أن التاريخ الفردي يرتبط بشكل عميق بالتاريخ الجماعي. في النهاية، تشكل الرواية دعوة الى التفكير والتأمل في ماهية الوجود وكيف يمكن للذكريات أن تحدد مسار حياتنا.

font change

مقالات ذات صلة