غزة... عصابات منظمة تسرق المساعدات الشحيحة

تحت مرأى الجيش الإسرائيلي

أ ف ب
أ ف ب
يتدافع الناس للحصول على أكياس الدقيق في مركز توزيع مساعدات "الأونروا" في دير البلح في وسط قطاع غزة، في 3 نوفمبر

غزة... عصابات منظمة تسرق المساعدات الشحيحة

منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عادت أزمة الجوع لتخيم بظلالها على أكثر من مليون ونصف المليون من النازحين الغزيين في قطاع غزة، وذلك بعد عمليات تقنين إسرائيل لدخول شاحنات المساعدات الإغاثية، إلى جانب سرقة ونهب الشاحنات تلك على يد عصابات غزية منظمة تسمح إسرائيل بدخولها عن طريق معبر كرم أبو سالم أقصى جنوب شرقي رفح، فتقوم بأفعالها تحت مرأى الجنود الإسرائيليين الموجودين في مناطق قريبة من مكان تمركزها.

وبدأت عمليات سرقة شاحنات المساعدات منذ أشهر، في فبراير/شباط الماضي، حيث عانى النازحون، في جنوب ووسط وشمال قطاع غزة، من الجوع بسبب فقدان المواد الغذائية الأساسية وحاجتهم للخيام والملابس. وكان الأمر يتم بهدف الحصول على بعض المساعدات من سكان فقدوا أدنى مقومات الحياة، إلا أنه وفي تلك الفترة، بدأت بعض العصابات غير المنظمة في الظهور، والتي أصبحت تغلق الشوارع في طريق الشاحنات بهدف توقيفها وإبطاء سيرها ثم الانقضاض عليها وسرقة بعض من حمولتها، لكن الأمر تطور مع مرور الوقت.

أ ف ب
فلسطينيون يجمعون مساعدات غذائية في مخيم البريج للاجئين في وسط قطاع غزة، في 6 نوفمبر

ومع تزايد عمليات السرقة، أصبحت المؤسسات والمنظمات الدولية، تستخدم بعض الشباب الذين عرفوا بـ"جماعات تأمين المساعدات"، فتكون مهمتهم العمل على حماية المساعدات من النهب والسرقة بهدف تأمين وصولها إلى هدفها المحدد، إلا أنه وبسبب استخدام مجموعات النهب والسرقة للأسلحة وإطلاق النار على الشاحنات والتي أدت إلى مقتل عدد من العاملين في مجال التأمين، أصبح الأمر يشكل خطورة على حياتهم، لتحاول المنظمات العمل على إدخال المساعدات من طرق مختلفة. كما أن الجيش الإسرائيلي لم يتعاون في هذا الأمر بحسب ما يقول عدد من العاملين في المنظمات الإغاثية الدولية، وهو ما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" في تقرير لها.

وقد تفاقمت أزمة سرقة المساعدات والبضائع، بعد شهر مايو/أيار الماضي، حيث كانت المساعدات تدخل عن طريق معبر رفح البري، والذي سيطر عليه الجيش الإسرائيلي وعمل على تدميره وإغلاقه في الشهر ذاته. وهو ما أثر على البضائع الواردة إلى السكان والنازحين في قطاع غزة، حيث كان يتم السماح بدخول أو تهريب السجائر عن طريق معبر رفح، لكن القوات الإسرائيلية عملت على منع إدخالها بشكل رسمي بعد اعتماد دخول المساعدات وبضائع التجار عن طريق معبر كرم أبو سالم. ووصل الأمر بالجيش الإسرائيلي، بحسب ما يتداول به، لاستخدام هذا الأمر كمقايضة مع الغزيين في الحصول على معلومات حول المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة لدى حركة "حماس"، مقابل الحصول على السجائر.

تسببت عمليات القصف المباشر وقتل رجال شرطة "حماس" و"عناصر التأمين"، من قبل الجيش الإسرائيلي، في تنامي جماعات اللصوص وسرقة المساعدات

ومع المنع الإسرائيلي لدخول التبغ ومشتقاته، بحث الغزيون عن طرق بديلة، حيث انتشرت عمليات التهريب داخل المساعدات الدولية وبضائع التجار، وكشف الجيش الإسرائيلي بعضها خلال دخول الشاحنات من معبر كرم أبو سالم، فيما استطاع المهربون إدخال كميات كبيرة منها وبأسعار باهظة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السجائر لتصل إلى أكثر من 50 دولارا للسيجارة الواحدة، وهو ما اعتبرته عصابات اللصوص ثروة يجب الاستفادة منها.
ويقول أحد سائقي شاحنات المساعدات، لـ"المجلة": "كان اللصوص يتعمدون مهاجمة شاحنات محددة، ومن الواضح أنه كانت لديهم معلومات عن نقلها السجائر والتبغ المهرب". ويشير إلى أن "عمليات السرقة كانت بالأساس عمليات بحث عن السجائر التي خططوا لتهريبها ضمن المساعدات، كما أنهم كانوا يلقون بعض المساعدات في الشارع لتمويه عملية السرقة والحصول على التبغ الذي يبيعونه بأسعار باهظة".
ويقول مسؤولين في الأمم المتحدة أنهم طلبوا من إسرائيل مرارا وتكرارا اتخاذ إجراءات صارمة ضد عمليات تهريب السجائر والتبغ، أو السماح بدخولها بشكل قانوني، لتخفيف أعمال النهب، لكن المناقشات كانت بلا جدوى. حيث يعتقد أن السبب الرئيس وراء عمليات نهب المساعدات، هو عملية تهريب التبغ داخلها.

أ ف ب
شاحنات محملة بالمساعدات تسير على طريق صلاح الدين في مدينة دير البلح بوسط قطاع غزة في 5 نوفمبر

ولمواجهة عمليات السرقة، حاولت وزارة الداخلية في غزة، والتابعة لحركة "حماس"، تجنيد عدد من أفراد الشرطة بلباس مدني للعمل على تأمين المساعدات ومنع نهبها، إلا أن الجيش الإسرائيلي تعمد استهداف أفراد التأمين التابعين لـ"حماس" في عمليات قصف مباشر لهم  بلغ عددها 141 وأدت إلى مقتل 706 رجال من شرطة "حماس" وعناصر تأمين شاحنات المساعدات، حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، بحسب ما أفاد به المكتب الإعلامي التابع لحكومة "حماس" في غزة.
هذا بالإضافة إلى مقتل عدد من المدنيين وأفراد الشرطة التابعين للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، إذ حاول بعضهم العمل على تأمين المساعدات الإغاثية خلال دخولها إلى مدينة غزة عن طريق حاجز نتساريم الشرقي (يتمركز الجيش الإسرائيلي داخل محور نتساريم الذي عمل على إنشائه بعد السيطرة على أميال واسعة من أرض القطاع بهدف الفصل بين المدن)، قبل عدة أشهر، ما أدى إلى مقتل أكثر من 5 منهم في استهداف إسرائيلي مباشر على شارع صلاح الدين الرئيس بالقرب من الدوار الكويتي.
وتسببت عمليات القصف المباشر وقتل رجال شرطة "حماس" وعناصر التأمين في تنامي جماعات اللصوص وسرقة المساعدات، حتى أصبحت تعمل كجماعات منظمة لها مناطق تسيطر عليها وتضم عشرات اللصوص، كما أصبح لديهم مخازن كبيرة لتخزين المسروقات، ليتطور الأمر إلى سرقة شاحنات بأكملها خلال الشهرين الماضيين.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، منعت إسرائيل دخول مئات الشاحنات إلى قطاع غزة، بحجة أن المسلحين يستفيدون منها في عمليات التجارة، ثم سمحت بدخول أعداد مقننة من الشاحنات التي تحمل المساعدات لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ بدء الحرب. ومن جهتها تتهم الأمم المتحدة، عصابات اللصوص، بسرقة قرابة نصف المساعدات الغذائية التي عمل برنامج الغذاء العالمي على إدخالها إلى جنوب القطاع.
ويبقى السؤال، من أين جاء هؤلاء اللصوص وكيف جرت عمليات تنظيمهم؟ ومن يقف خلفهم حتى أصبحوا يعملون تحت مرأى من جنود الجيش الإسرائيلي دون حساب أو خوف، في الوقت الذي يستهدف فيه الجيش كل من يحمل السلاح من الغزيين؟

عمل اللصوص وأصحاب السوابق والمحكوميات العالية منذ ما قبل الحرب، على العودة لارتكاب الجرائم وعمليات السرقة والنهب، تحت كثافة القصف الإسرائيلي

ومع بدء الحرب منذ أكثر من عام، تعمد الجيش الإسرائيلي استهداف مراكز شرطة "حماس" وسجونها، وهو ما اضطرها لإخلاء السجون من اللصوص والمجرمين وأصحاب السوابق، بعضهم كان محكوما بالإعدام وآخرون يخضعون لأحكام بالسجن المؤبد، وذلك بحسب ما أفاد مصدر في وزارة الداخلية التابعة لـ"حماس" في غزة، والذي رفض الكشف عن هويته.
وعمل اللصوص وأصحاب السوابق والمحكوميات العالية منذ ما قبل الحرب، على العودة لارتكاب الجرائم وعمليات السرقة والنهب، تحت كثافة القصف الإسرائيلي وعمليات التدمير الواسعة لأحياء ومدن قطاع غزة. وتمكن هؤلاء من تجميع أنفسهم خلال الأشهر الأخيرة في شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وعلى بعد أقل من نصف كيلومتر واحد من مواقع الجيش الإسرائيلي، بحسب ما أفاد المصدر نفسه.
وقال: "طول الفترة الماضية، كنا نتابع تلك العصابات وكيفية تطورها وتشكيل نفسها، وكنا نعمل على إعداد الخطط لمحاربتها إلا أن عمليات القصف واستهداف رجال الشرطة كانت تؤخر من مهاجمتها". 
وتتهم وزارة الداخلية التابعة لـ"حماس" ياسر أبو شباب، وهو من أصحاب السوابق وكان يخضع لمحكومية في السجن لدى "حماس" قبل نشوب الحرب، بالضلوع في تشكيل وتزعم أكبر عصابات اللصوص التي تعمل على سرقة شاحنات المساعدات، كما تتهمه وزارة الداخلية نفسها بالتواصل والعمل مع الجيش الإسرائيلي.
وقالت الوزارة تلك في بيان صدر مؤخرا عنها، أنها رصدت "مكالمات بين عصابات اللصوص والجيش الإسرائيلي توضح مدى التعاون في التغطية على أعمالهم وتوجيه مهامهم، وتوفير الغطاء الأمني للعصابات من قبل ضباط في جهاز الشاباك الإسرائيلي". وأضافت: "تجاوز التعاون حد السرقة، حتى وصل الأمر إلى مشاركتهم في اغتيال عدد من عناصر المقاومة خلال تصديهم لعمليات التوغل الإسرائيلية".

أ ف ب
فلسطينيون نازحون فروا من بيت لاهيا في شمال قطاع غزة، يسيرون على طريق صلاح الدين الرئيسي في غزة على مشارف مدينة غزة، في 5 نوفمبر

وأكد المصدر في وزارة الداخلية التابعة لـ"حماس"، ضلوع عصابات اللصوص، في عمليات اغتيال عناصر الحركة، والتي كان آخرها اغتيال واحد من القيادات البارزة في "كتائب القسام"، الجناح العسكري لـ"حماس"، في مناطق شمال شرقي مدينة رفح، وذلك خلال عمله في التصدي لتوغل عدد من آليات الجيش الإسرائيلي، وعلى الأثر قررت "حماس" مهاجمة عصابات اللصوص والقضاء عليها، وذلك بالتوافق مع كبرى العشائر الغزية، بحسب المصدر إياه.
وكانت فرقة "سهم" التابعة لوزارة داخلية "حماس"- والتي أُعيد تشكيلها مؤخرا- قد هاجمت وبشكل مفاجئ، الاثنين 18 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، عصابات اللصوص في عدة مناطق شمال وشرق رفح، ما أدى إلى مقتل أكثر من 20 وإصابة 40 آخرين من أعضائها، بحسب ما أفادت الوزارة تلك في بيان. وأكد مصدر لـ"المجلة" مقتل شقيق أبو شباب في عملية المداهمة التي نفذها أفراد شرطة "حماس"، والتي جاءت بعد يومين من عملية سرقة 109 شاحنات من أصل 150 شاحنة تحمل مساعدات إغاثية كانت في طريقها من معبر كرم أبو سالم إلى وسط القطاع، وسبق ذلك سرقة 80 شاحنة من أصل 100 شاحنة في بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي أيضا.
وفي تقرير لصحيفة "واشنطن بوست"، نفى أبو شباب الذي تتهمه "حماس" بالوقوف خلف عمليات السرقة والقتل، أن يكون رجاله ممن يحملون أسلحة أو يهاجمون سائقي الشاحنات، وقال أنهم لا يمسون "الطعام أو الخيام أو الإمدادات الخاصة بالأطفال".
وادعى أن ما فعله كان نتيجة اليأس، "فلم تترك لنا (حماس) أي شيء، ويأتي مسلحوها بين الحين والآخر ويطلقون النار علينا"، مشيرا إلى أنه غير آبه باتهامه بالضلوع في التواصل مع الجيش و"الشاباك" الإسرائيليين، "فليقل أولئك الذين يتهموننا بالعمل مع إسرائيل ما يريدون، إسرائيل لا تحتاج إلينا".
وبعد ضغوطات دولية وأممية، عقب عمليات التقنين بحجة سرقة المساعدات وعدم قدرة الجيش على تأمينها، واتهامه "حماس" بسرقة المساعدات، ما أدى إلى تفاقم الجوع في مختلف مناطق قطاع غزة، عمل الجيش الإسرائيلي مؤخرا على فتح معبرين إضافيين لدخول شاحنات المساعدات الإغاثية، هما معبر كيسوفيم شرق مدينة دير البلح وسط القطاع، ومعبر زكيم أقصى شمال غربي القطاع، حيث دخلت شاحنات محدودة العدد كتجربة أولية، بحسب ما أفاد مصدر في منظمة دولية "المجلة".

font change

مقالات ذات صلة