أبرز الأفلام العربية المشاركة في الدورة 45 من "القاهرة السينمائي" وجوائزها

مفاجآت سارّة من فلسطين ولبنان ومصر والسعودية وتونس والمغرب

vp.eventival.com/ciff/45th
vp.eventival.com/ciff/45th
مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 45

أبرز الأفلام العربية المشاركة في الدورة 45 من "القاهرة السينمائي" وجوائزها

بعد غياب عام، عاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين برئاسة حسين فهمي وإدارة عصام زكريا، مشحونا بالفعاليات، من تكريمات لشخصيات سينمائية ومحاضرات عن الفن السابع وعروض استعادية لأفلام قديمة رُممت، عروض حظيت بإقبال جماهيري كبير طوال أيام المهرجان، إضافة إلى مجموعة من الأفلام المهمة دوليا وعربيا. كانت الحرب على غزة، السبب في إلغاء دورة المهرجان العام الماضي، أمّا هذا العام، وبما أن الحرب لم تتوقف، بل توسعت للأسف، فقد بدا ضروريا أن يقول صنّاع السينما العرب أيضا كلمتهم، وأن يدخلوا في حوارات مفتوحة مع زملائهم الآخرين من صنّاع الأفلام، ومع الجمهور المتعطش للمشاهدة والتفاعل مع ما يراه.

اتسمت المشاركات العربية، التي توزعت على المسابقات المختلفة للمهرجان هذا العام، بالتنوع في الموضوعات والأساليب، وفي طبيعة الحال بتفاوت المستويات الفنية، لكن الأكيد أن السينما الفلسطينية حجزت لنفسها مكانا على خريطة العرض وكذلك الجوائز، وينطبق الأمر نفسه على السينما اللبنانية. حتى المصرية التي يعاني إنتاجها التجاري من الركاكة في الأعوام الأخيرة، قدمت فيلمين حظيا بالإقبال الجماهيري، والاستحسان النقدي والتتويج بالجوائز.

علاوة على المشاركة السعودية، بأفلام بين الطويل والقصير. في السطور التالية، استشكاف لبعض أبرز الأفلام العربية التي عُرضت هذا العام، والجوائز التي حصدتها.

"أرزة"... في التحايل على قسوة الحياة في لبنان

من إخراج ميرا شعيب، وسيناريو فيصل شعيب ولؤي خريس، يأتي "أرزة"، الفيلم الذي لا يناسبه وصف أكثر من حيوية الأحداث، وتطورها المنطقي السلس، وحيوية الحبكة والبناء المحكم للسيناريو. الفيلم إنتاج مشترك بين لبنان ومصر والسعودية. تؤدي دور أرزة، ديامان أبو عبود، هي ربة منزل مجتهدة، تصنع بيديها الماهرتين الفطائر كل يوم وتبيعها بالتوصيل لمن يطلبها بالتلفون. عمل يدر ربحا بسيطا وسط ظرف اقتصادي غير هيّن في بيروت، لكن أرزة المسؤولة عن ابنها الشاب كِنان (بلال الحموي)، وأختها نصف العاقلة ليلى (بيتي توتل)، تود التوسع في هذا العمل، لأن تلك هي تقريبا الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة مع ارتفاع الأسعار، والشح في السلع.

تستميل حكاية أرزة المتفرج بسهولة، فهي في النهاية عن امرأة مكافحة، ومعيلة لا تكفّ عن التحايل على الحياة، ولا تعدم خفة الظل. أي أن أرزة تمثل في النهاية، العديد من النساء العربيات اللواتي يعشن الظروف نفسها، يقاسين منها في صمت. ولعلّ أمومة أرزة هي حاميتها من الجنون، ولولاها لتحولت إلى نموذج ليلى، شقيقتها، جرّاء وحدتها وأعبائها وتخلي المجتمع عنها.

يبقى الفيلم اللبناني "أرزة" فيلما ذكيا، نابضا، قادرا على عقد صلة فورية مع المشاهد

تقطع أرزة مع ابنها كِنان رحلة في المجتمع اللبناني وبين الطوائف والمناطق، بحثا عن الدراجة النارية التي كانت اشترتها له بشق الأنفس، لتوصيل فطائرها للزبائن. في رحلة بحثها عمن يساندها، تتقمص أرزة، هويات عديدة ومتغيرة، وتحاكي لسان أبناء هذه المناطق، مرتدية علاماتهم الدينية مؤقتا. هذه الحيلة، تخلق في طبيعة الحال، الكثير من المواقف الكوميدية، والعبارات الكاشفة عن تعقيد الوضع في بيروت واحتقانه، لكن من منظور مواطنة شبه محايدة، لا انتماء محددا لها، كما أُريد لها في الفيلم. إنها إنسانة تود تدبير أوضاع معاشها اليومي. وما الذي سيعبّر عن إلحاح العادي، واليومي أكثر من خَبز الفطائر وأكلها؟

Cairo International Film Festival - Facebook
الممثلة ديامان أبو عبود في فيلم "أرزة".

قبل أن تنجح أرزة في تقمص هويات المجتمع اللبناني المتفرقة كي تصل إلى مبتغاها، نجحت ديامان أبو عبود في الدخول إلى جلد شخصية أرزة، حتى بدا تكوينها الجسماني النحيل والثابت، وعروق يديها المشدودتين وابتسامتها التي لا تغيب، تفاصيل لا يمكن تخيّل شخصية أرزة بلاها. في الفيلم لحظات من الدفء الإنساني، وبحث الشباب عن الحب في مواجهة الأزمة. صحيح أن حكاية ليلى التي جُنّت لغياب حبيبها منذ سنوات، قد لا تكون أكثر الثيمات جِدة في الأفلام العربية، إلا أن "أرزة" يبقى في المجمل فيلما ذكيا، نابضا، قادرا على عقد صلة فورية مع المشاهد. 

حصل الفيلم على جائزة أحسن سيناريو من المهرجان، كما حصدت ديامان أبو عبود جائزة أحسن ممثلة.

Cairo International Film Festival - Facebook
فيلم "أحلام عابرة"

"أحلام عابرة"... حسن النية السينمائي إزاء واقع فلسطين المحتلة

بقدر ما نتطلع، كمشاهدين عرب، لمشاهدة أفلام تهتم بقضايانا، الكبرى منها والصغرى، نخشى من إفساد الواقع للفن، ومن المباشرة الزائدة التي يمكن أن تقود إلى نتيجة عكسية تماما. فيلم "أحلام عابرة" من سيناريو وإخراج رشيد مشهراوي، وهو كان فيلم افتتاح المهرجان، حاول العثور على صيغة معقولة بين القضية والفن، والأهم على تحقيق متعة سينمائية للمشاهد، ويمكن القول إنه نجح في بلوغ مسعاه. الفيلم إنتاج مشترك بين فلسطين والسويد والسعودية وفرنسا، من تمثيل عادل أبو عياش وأميليا ماسو وأشرف برهوم.

ميل رشيد مشهراوي لتأليف مزاج سينمائي حلو وحسن النية إزاء العالم رغم شروره، يجعل من "أحلام عابرة" فيلما يستحق المشاهدة

يروي الفيلم حكاية الصبي سامي، ذي الاثني عشر عاما، المغرم بالحمام، وإذ تضيع منه حمامته المفضلة ولا تعود إلى عشها، يبدأ رحلة في مناطق فلسطين، بحثا عنها. في هذه الرحلة يرافقه خاله، النحّات لتماثيل يسوع، وابنة خاله الصحافية المتدربة التي تريد معهما أن تستكشف أحياء المدينة. لا يوقِف الثلاثي شيء في رحلتهما، لا انتصاف النهار، ولا الحواجز الأمنية الإسرائيلية وعنت الضباط والجنود المفتشين. نتابع هذه المشاهد، وفي داخلنا غصة، وخشية من عنف مفاجئ يخضع له الأبطال، ونخضع له معهم على الشاشة، غير أن "أحلام عابرة"، ينذر نفسه للبحث عن الحمامة، التي قيل إلى سامي إنها ربما عادت إلى بيتها الأول، لكن أي بيت أول؟ وخصوصا أن بعض هذه البيوت صار يستوطنها اليوم أجانب غير مواطنيها الأوائل.

ولعلّ "أحلام عابرة" يعبّر بخطابه عن ثلاثة مستويات من الوعي. الأول هو الطفل سامي، الذي لا يرى من هذا العالم شيئا إلا ذكرياته مع الحمامة، وحاجته إلى عودتها، وهو المستوى الذي نخشى عنده على هشاشة الطفولة. ومستوى الشباب الذي تمثله الصحافية المتدربة وابنة الخال المخلص، وهو وعي اليافعين الباحث عن معرفة بلاده، وعلى طريقته يقاوم. أما المستوى الثالث فهو مستوى الخال، المتعب الذي يشعر باليأس من الخطابات السياسية، وبنوع من الذنب والمسؤولية تجاه الأجيال الأصغر، ولذا يكتفي بتسيير شؤون الحياة العادية، واتخاذ مسافة ملائمة من الأمل واليأس معا.

Cairo International Film Festival - Facebook
فيلم "أحلام عابرة"

ربما اتسم الفيلم في بعض عباراته الحوارية بالمباشرة، وربما اكتنتفه درجة مكشوفة من الرمزية، ومع ذلك فإن ميل رشيد مشهراوي لتأليف مزاج سينمائي حلو وحسن النية إزاء العالم رغم شروره، وهو يحكي حكايته هذه، وبمعونة من الموسيقى المصاحبة الرقيقة التي ألّفها جوهان كورتيت، وتعتمد أساسا على العود، يجعل من "أحلام عابرة" فيلما يستحق المشاهدة.

حصل الفيلم على الجائزة الثالثة المقدّمة من إتحاد إذاعات وتلفزيونات دول منظمة التعاون الإسلامي.

ليس من المعتاد أن نشاهد أفلاما تسجيلية عن معتقلين سياسيين في عهد مبارك، وهو عهد أقرب نسبيا، ومع ذلك طواه شيء من النسيان

السياسي هو الشخصي في التسجيلي المصري "أبو زعبل 89"

مثّل عرض الفيلم التسجيلي "أبو زعبل 89"، من إنتاج مصري ألماني أحد أهم الأحداث السينمائية في دورة هذا العام من المهرجان. نفدت تذاكر الفيلم أكثر من مرة، واستجابت إدارة المهرجان بتخصيص عرض جديد للفيلم، سرعان ما نفدت تذاكره أيضا. الفيلم الذي نافس ضمن فئة أسبوع النقاد، يحمل اسم المعتقل الشهير السيئ السمعة، ليمان أبو زعبل، وهو عنوان كافٍ لتبرير الشعور بالانقباض مقدما، وقبل أي مشاهدة، لكنه كافٍ ربما أيضا للانجذاب والرغبة في المعرفة والفهم.

في السينما المصرية أعمال تصف الاعتقال السياسي والتعذيب في عهد عبد الناصر، لكن ليس من المعتاد أن نشاهد أفلاما تسجيلية عن معتقلين سياسيين في عهد مبارك، وهو عهد أقرب نسبيا، ومع ذلك طواه شيء من النسيان، مع التغييرات السياسية المتلاحقة في مصر، خلال العشرة الأعوام الأخيرة. في "أبو زعبل"، يروي صانع الأفلام بسام مرتضى، شيئا مما حدث لأبيه محمود مرتضى، حين اعتقل في مارس/ آذار 1989، وأودع في الليمان، بسبب مساندته حقوق عمال شركة الصلب ودفاعه عنهم. على وجه الدقة، يروي بسام قصته وهو الطفل الذي شهد حادثة الاعتقال العنيفة، ولا يفهم شيئا بعد من الدنيا، ويروي تأثير هذا الاعتقال على طفولته، وعلى نشأته النفسية، وعلاقته لاحقا بأبيه، الذي خرج من المعتقل شخصا آخر غير الذي دخل إليه.

Cairo International Film Festival - Facebook
الفيلم التسجيلي "أبو زعبل 89"

يتمركز الشريط السينمائي تقريبا حول شخص بسام، حول سرده الصوتي وتعليقاته على الصور المؤرخة والجوابات والحوارات التي يرويها أشخاص عاشوا الحدث. في مشاهد عديدة، نرى بسام الشاب واقفا يولينا ظهره، يتفرج على نفسه، على شاشة كبيرة، يعيد فيها تمثيل ما اختبره والده وحكى عنه من تعذيب. في مشاهد أخرى، نرى الممثل سيد رجب، وكان أحد المعتقلين آنذاك، وهو يحكي ما جرى، بطريقة مسرحية، تبيح له اتخاذ مسافة آمنة مع الحدث. في أجزاء أخرى من الفيلم، نتابع شهادة محمود مرتضى نفسه عن الاعتقال، وبالتدريج ندرك موقع مرتضى كغائب من الحكاية، هو الذي يبدو بانفصاله العاطفي آخِر المتفاعلين مع الحدث الذي يتأسس عليه هذا الفيلم.

وبرغم تصدُّر بسام وأبيه للفيلم حكيا وتصويرا وتعليقا، تحظى السيدة فردوس، والدة بسام والزوجة السابقة لمحمود، بموقعها الحقيقي والمستحق، الذي لم تسع إليه، في البطولة المجازية للحكاية. هي التي ظهورها أقل وخيباتها أكبر، ورحيلها من الفيلم أسرع بموتها، لا يمكن إلا أن تترك بصمتها على روح المتفرج. وكأن "أبو زعبل 89" هو في النهاية عنها. فهي أكثر مَن تحدث بطبيعية، ولم تحسب حسابا لكلامها، ولا اهتمت بصورتها أمام الناس، خلافا للمناضل محمود مرتضى الذي جاهر في نهاية الفيلم بهاجسه الأشد حميمية: "أنتو شايفيني إزاي؟ أحيانا بحس إني متشاف غلط!".    

حصل "أبو زعبل 89" على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل مناصفة، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة.

يتسم "الموجا الزرقا" بتعدد مستويات حكايته، وثراء الزوايا التي يمكن من خلالها أن نشاهده، وبالتالي أن نتفاعل معه كتابة

"المرجة الزرقا"... عن الصحراء المغربية وفعل الرؤية

من إخراج داوود أولاد السيد، يأتي هذا الفيلم المغربي، الذي يتسم بتعدد مستويات حكايته، وثراء الزوايا التي يمكن من خلالها أن نتفرج عليه، وبالتالي أن نتفاعل معه كتابة. الفيلم من تأليف مجيد سداتي وحسين شاني، إلى جانب أولاد السيد. وهو يروي قصة يوسف الصبي الكفيف، المغرم مع ذلك بالتصوير، والذي يحصل على آلة فوتوغرافيا، ويريد أن يزور بحيرة المرجة الزرقا الشهيرة ليصورها بعد أن سمع جده، سائق التاكسي، يحكي لجدته، أن زوارا أجانب من الضريرين قد أتوا من بلادهم خصيصا لزيارة البحيرة وسط الصحراء.

يتمتع يوسف بخفة الظل، والذكاء، ويعرف أن وضعه كصبي يتيم الأبوين، يضغط على جديه القرويين ليحققا له أمانيه. هذه الأماني تتحدد جميعها حول فعل الرؤية، فهو يريد أن يرى النجوم المرصعة في الليل، ويريد أن يخوض رحلات ليحكي عنها لزملائه حين تبدأ الدراسة، وهو حتى يصوِّر ضباط الشرطة، على ما في هذا الفعل من تهديد أمني. يوازي فعل الرؤية هنا في طبيعة الحال فنّ السينما، ويتضمن كذلك التصوير، مما يضيف تلقائيا إلى جمالية الفيلم وشاعريته.

Cairo International Film Festival - Facebook
الممثل محمد خوي في فيلم "المرجة الزرقا".

من جانب آخر، يتخذ الفيلم من الصحراء مدينة وحيدة له، وهي لا تبدو هنا موحشة ولا مقبضة، إنما محببة وأليفة عند الجد، الذي يسافر عبرها ليل نهار، لينقل الركاب، الذين يبدون بدورهم متآلفين تماما مع بيئتهم الأصلية. يسمح البعد التأملي في الفيلم، باختمار أسئلة يوسف الداخلية، عن حرمانه من الحاسة التي تشكل أساس هوايته في التصوير. كيف صار كفيفا؟ ولم عليه أن يفاوض جديه طوال الوقت كي يحصل على ما يريد؟ ولمَ تثير رغباته عادة استنكار الكبار، أولئك يرونه غير راضٍ بالانسحاب، بل متمتعا بجسارة في الاكتشاف، ربما لا يملكونها هم كأصحاء.

في بعض اللحظات يحجب الجد المتعب عينيه، ويحاول أن يتصوّر العالم بعيني حفيده المطفأتين، وفي لحظات أخرى، يجعلنا مدير التصوير علي بنجلون نختبر بدورنا محدودية الرؤية، كما يحدث عندما يصل الجد وحفيده أخيرا إلى البحيرة الأسطورية، لكننا لا نراها ولا نعرف إن كان يوسف وجده بإزائها حقا. وكأن "المرجة الزرقاء"، هو فيلم عن الرؤية، عن العين، والصورة والسينما، عن المشاهدة كفعل قدرة وإرادة أيضا.

حصل محمد خوي، الذي أدى دور الجد، على جائزة أحسن ممثل (يوسف شريف رزق الله) من المهرجان، ومع هذا يجدر التنويه بدور الطفل يوسف، الذي أدى دوره الحقيقي ربما في الفيلم.

"دخل الربيع يضحك" إحدى أجمل مفاجآت السينما المصرية الأخيرة التي تحاول تغيير المعادلة السينمائية الحالية

"دخل الربيع يضحك"... بوح وصراخ وشجن مصري خالص

يُعَدّ "دخل الربيع يضحك" من الأفلام القريبة من الواقع، أكثر من السينما، أو بالأحرى من المكرور عن فن السينما، وبالتحديد فن السينما المصرية. وقد يعطي للوهلة الأولى، ذلك الإيحاء بأنه فيلم تسجيلي، فشخوصه مستغرقون تماما في أحاديثهم، وتعليقاتهم تبدو عفوية، حتى سوء الفهم الذي يتطور في كل مرة إلى شجار وصراخ وربما حتى شتيمة، يجيء طبيعيا، وكأننا نحضر مشهدا من الحياة، لا من الأفلام.

هذه الطبيعية التي ظهرت عليها الأربع قصص التي يتكون منها العمل، وتجري أحداثها في الربيع، يمثل خلفها جهد إخراجي واضح، وصفاء في الرؤية السينمائية، للمخرجة نهى عادل في بداياتها. إنتاجيا، تقف مع الفيلم مخرجة شابة أخرى موهوبة، هي كوثر يونس، وتلعب كذلك دورا تمثيليا في القصة الرابعة.

Cairo International Film Festival - Facebook
فيلم "دخل الربيع يضحك".

تبدأ القصة كلها من نقطة عادية، اجتماع ودي للأشخاص في جلسة لتناول الشاي في القصة الأولى، أو في صالون كوافور نسائي، أو حتى جلسة نميمة بين الصديقات، وتبلغ القصص كلها ذروة ما من التوتر ثم تنفجر بطريقة كارثية. لكن حتى الكوارث التي تقع في ذلك الربيع لا تخلو من مفارقات كوميدية وساخرة. وإذا بالكوميديا هنا مساحة للنقد الاجتماعي والطبقي، وطريقة خفية للبوح، وحتى للتأسي الموارب.

الفيلم الذي مثّل مصر في المسابقة الدولية للمهرجان، يمكن القول إنه إحدى أجمل مفاجآت السينما المصرية الأخيرة، ويمكن النظر إليه في سياق أصوات سينمائية جديدة، لا سيما من النساء، تحاول تغيير المعادلة السينمائية الحالية.

حصد الفيلم جوائز عدة هي أحسن إخراج لمخرجته نهى عادل، وجائزة لجنة تحكيم النقاد الدولية (فيبرسي)، بالإضافة إلى تنويه خاص للممثلة رحاب عنان.

يوثق "حالة عشق" جانبا آخر من مشهد الحرب في غزة، وهو جانب الطبيب الذي يشاهد الموت، وينجح في منعه مرة، لكنه يفشل مرات

"حالة عشق"... قصة الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة جراح غزة

إضافة إلى أهمية مجموعة الأفلام القصيرة عن غزة تحت عنوان "من المسافة صفر"، التي عُرضت في المهرجان، يأتي هذا الفيلم التسجيلي "حالة عشق" ليوثق جانبا آخر من مشهد الحرب في غزة، وهو جانب الطبيب الذي يشاهد الموت، وينجح في منعه مرة، لكنه يفشل مرات، وفي الأثناء يغامر بحياته ليواصل عمله.

Cairo International Film Festival - Facebook
فيلم "حالة عشق"

من إخراج كارول منصور ومنى خالدي، وإنتاج مشترك بين فلسطين والأردن ولبنان وإنكلترا والكويت، يتتبع هذا الفيلم حالة العشق التي يعيشها الطبيب الجراح المزدوج الجنسية غسان أبو ستة، مع مهنته من جانب، ومع فلسطين من جانب آخر، ومع الحياة نفسها من كل الجوانب، رغم قبوله بالموت. من الصعب أن نتصوّر أن طبيبا شاهدا على كل تلك الفظاعات التي تُرتكب في غزة، وهو واعٍ بفداحتها، وناجح حتى في التنظير حولها (حين يميز مثلا بين القتل المتسلسل الذي يعنى بالتفاصيل، والقتل الجماعي الذي لا يهمه إلا القتل، ويرى أن إسرائيل تمارس قتلا متسلسلا لأن ضباطها يستعرضون تفاصيل القتل ويباهون بها) ولا يزال يحتفظ بهذه البراءة في مواجهة العالم. يقلب السمعة السيئة للجراحين كباردي القلب، فيبكي أمام الكاميرا ويحمر وجهه، وهو يتذكر الحالات التي يداويها، والخيارات التي عليه أن يمارسها، مع سواه من الأطباء. يعالج مَنْ قبل مَنْ، والاولوية لمَن لا يزال لديه عائلة. وهي اختيارات تفرضها ندرة الإمكانات في المستشفيات.

Cairo International Film Festival - Facebook
فيلم "حالة عشق".

تدردش كل من كارول منصور ومنى خالدي مع أفراد عائلة غسان، فنستمع إلى الحكايات التي تمس تاريخا عاما وخاصا في الآن نفسه، عن غزة وعن ارتباط الطبيب غسان بزوجته، وعن سفراته المستمرة إلى فلسطين في أوقات الحروب والمجازر وتقديم المساعدة. فيلم إنساني، وحميمي، يلعب دور أرشيفيا في لحظة تمحو إسرائيل ما تريد من مستشفيات ومبان وعلامات تاريخية.

حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل مناصفة، وجائزة سعد الدين وهبة لأحسن فيلم عربي.

 

"ثقوب"... فيلم سعودي مُختلف

بدعم من مسابقة ضوء، ورعاية هيئة الأفلام وبرنامج دورة الحياة، أتى عرض الفيلم السعودي "ثقوب" (الذي نتوقف عنده لأهميته رغم عدم حصوله على جوائز) ضمن آفاق السينما العربية في المهرجان، كنموذج مُختلف من السينما السعودية الناشئة. ينتمي الفيلم إلى نوع الإثارة والدراما النفسية الذي اشتهر به لا سيما ألفرد هيتشكوك، وهو من إخراج عبد المحسن الضبعان وتأليفه بالاشتراك مع فهد الأسطاء. 

يتصدر الفيلم اقتباس شهير ومُقبض لتولستوي: "كل العائلات تتشابه في السعادة، لكن للعائلات التعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة"، والتي تُحيلنا فورا إلى العنوان، هل هي ثقوب الجسد العائلي ما سنرى؟ لا نستغرق وقتا طويلا حتى نُعاين الثقوب في كل مكان من حياة هذه العائلة. في جدار البيت الذي سينتقل للسكنى فيه الابن "راكان"، يؤديه مشعل المطيري، مع زوجته "ريم" (مريم عبد الرحمن)، بعيدا عن الوالدة التي تتمسك بحضور ابنها، لنفهم ضمنيا أن في هذا الانتقال شُبهة هروب من بيت العائلة الكبير، وماضٍ ما ننتظر أن نعرف أكثر عنه، لكنه لن يمنحنا نفسه تماما، حتى نهاية الفيلم. ولعلّ التفسير لهذه المراوغة يكمن في الطبيعة التشويشية للألم النفسي، الذي يعاني منه راكان صراحة، ويعاني منه بالمثل شقيقه التوأم تركي لكن معبرا عنه بطريقة أخرى، الدور الذي يؤديه أيضا الممثل مشعل المطيري. 

في الفيلم استخدامات تجريبية جمالية للعدسات، واجتهاد كبير في الأداء وفيه أيضا استكشاف سينمائي مُلفت

على طريقة "دكتور جيكل ومستر هايد" يبدو ظهور الأخوين في مشاهد الفيلم. من جانب، راكان هو المقبول اجتماعيا، والمُستقيم على الأقل ظاهريا، والذي يزعجه التجلي المُستمر للثقوب والدوائر في محيطه، وهو لا يملك سيطرة عليها، إلى حد أننا نستنتج أن في الأمر عقدة نفسية من أشكالها. وعلى الجانب الآخر، تركي المجرم سابقا، ولا يمتنع عن ممارسة بعض الأعمال الخارجة على القانون، إن منحته مالا ولو قليل يُعيل به أسرته. لكن تركي، لا يُفكر بهذا المنطق الذي تُكتب به هذه السطور مثلا، ولا الذي يُحاول به راكان أن يُدير حياته، بل هو يعيش حياته المُظلمة، والظلام قسم أساسي من صورة الفيلم، في نوع من الاجترار السيكوباتي، ولا يكفّ، خلاف أخيه، عن إحداث الثقوب، ربما انتقاما من العائلة، ومن الأخ، على ما لا نعرفه تحديدا.

ملصق فيلم "ثقوب"

قد يكون سوء معاملة من الأم، تفريق بين الأخوين، وربما من النبذ الاجتماعي الذي يتعرض له بعد خروجه من السجن، وعجزه عن عيش حياة طبيعية خارج الظلام. في المُحصلة، يهدم تركي ما يبنيه راكان، أو هذا على الأقل ما يتسرب إلينا، حتى إنه يُمكن تأويل حضور الشخصين في الفيلم، على أنه حضور لشخص واحد يُعاني من انقسام الشخصية، جرّاء عنف عائلي غير مُعلن.

في الفيلم استخدامات تجريبية جمالية للعدسات، واجتهاد كبير في الأداء عند مشعل المطيري، وفيه أيضا استكشاف سينمائي مُلفت لأزقة وأطفال حُفاة وعوالم فقيرة، تلك التي يتخبط فيها تُركي، صحيح أن "ثقوب" يُخلف لنا أسئلة وغموض وحيرة لا يحسمها، أو يُجيب عنها، إلا أنه يبقى تجربة فيلمية جريئة ومختلفة وسط الإنتاجات السعودية الحالية. 

"نوار عشية"... الحرقة التي تأكل شباب تونس

من تأليف وإخراج خديجة لمكشر، يأتي الفيلم التونسي "نوّار عشية"، المشارك في المسابقة الدولية للمهرجان (نتوقف عنده لأهميته رغم عدم حصوله على جوائز)، الذي يروي في مستواه الظاهر، حكاية يحيى (إلياس قادري)، الشاب المسكون بهاجس الهجرة عبر المتوسط، ومع ذلك يخشى الموت بحرا. هذا التناقض هو الذي يصنع في طبيعة الحال، الصراع الجواني عند يحيى، الذي يستعر مع وضعه الاجتماعي الهامشي، كإبن ناشئ في حيّ فقير، لأبٍ سكير عنيف، وإحاطته بأصحاب غير مستقيمين تماما. بؤس حياته العاطفية وانسداد أفق الحياة أمامه على البر، ذلك كله يغويه بشق البحر، إما ليبدأ حياة جديدة، وإما ليموت بين ذراعي حورية بحر متوهمة، يرسمها على جدران غرفته، ويحلم بها تتلقفه في كل مرة يسقط فيها إلى الأعماق. يخلق هذا الوضع، غضبا وكبتا في نفس يحيى، الذي يلزمه الكثير من الوقت حتى يلتقي دجو، مدرب الملاكمة (يونس ميكري)، ومساعدته روكي (فاطمة بن سعيدان)، وينخرط في ممارسة الملاكمة، ويحقق نجاحات سريعة، تجعل منه بطلا في الرياضة العنيفة. غير أن هذا كله، لا يبعد عن رأسه حلم الهجرة.

Cairo International Film Festival - Facebook
الفيلم التونسي "نوّار عشية".

الهجرة من حيث هي حلم يحيى وكابوسه، ترمز لها المخرجة خديجة لمكشر، هنا في فيلمها الروائي الأول، بالبحر الأبيض المتوسط، الشاسع، المغوي، وخصوصا حين تُعبّر الصورة عن تدرجاته اللونية وتفاعلاتها مع المواقيت المختلفة للنهار، لكنه كذلك البحر المخيف بابتلاعه جثث المهاجرين الحالمين، ثم لفظهم المُفزِع لاحقا إلى الشاطئ التونسي. حتى إن المخرجة قالت في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم إن عديدين من أهل البلد، يزورون البحر، بدلا من القبر، ويقرأون أمامه الفاتحة على أرواح أولادهم، مما يبين إلى أي حد تتفشى ظاهرة "الحرقة" حسب التعبير التونسي، أو الهجرة غير الشرعية وغير الآمنة في المجتمع التونسي.

على الرغم من هنّات السيناريو والمونتاج، يبقى "نوار عشية" ثرياً على مستوى الجماليات البصرية والصوتية

"نوار عشية"، تعني نوعا من الزهور ينبت في المزابل، ويموت في اليوم التالي، في إسقاط على أرواح الشباب. الفيلم لا يروي الحكاية بصورة خطية مرتبة، بل يعتمد على القفزات الزمنية السريعة، وغير المبررة أحيانا، واللقطات المبتورة، الموزعة، التي قد تبدو بلا معنى في عرضها الأول، لكنها تُفهم بشكل أفضل في النصف الثاني من الفيلم. هناك تتحوّر سردية الفيلم، أو تتضح، وبدلا من التركيز على يحيى، تضعه في سياق أوسع، هو الشعور العام بالاستياء، وكأن هذا اليأس هو الدافع الحقيقي للذهاب في اتجاه البحر.

على الرغم من هنّات السيناريو والمونتاج، يبقى "نوار عشية" ثرياً على مستوى الجماليات البصرية والصوتية، كما أن احتضانه صورة حورية البحر، برمزها الأسطوري والجنسي وحتى الطفولي، منح رقة ما للفيلم الأليم. وبدت الأغنيات المعبرة عن رحلة يحيى، وأصوات الحيتان التي لازمت الموسيقى، والغناء الأنثوي الناعم لحورية البحر تلك، أقرب الى نداء بديل من عالم آخر، ولو كان مظلما ومجهولا تماما.

font change

مقالات ذات صلة