أدب ضدّ الجوائز: بين مواقف أخلاقية سامية وعدمية مطلقة

بعضهم رأى فيها ابتذالا وإهانة للكاتب

AFP
AFP
الكاتبة جومبا لاهيري في حفل توزيع جوائز الكتاب الوطني الـ75 في نيويورك.

أدب ضدّ الجوائز: بين مواقف أخلاقية سامية وعدمية مطلقة

في الوقت الذي يتهافت الكثير من الكتّاب على صيد الجوائز في معظم محافلها عالميا، حدّ باتت أسماء البعض منهم ملازمة لصخب نجوميتها وحضورها الإعلامي، يُحسب لأقلية أخرى من الكتاب نزوعهم المضاد في النظر إلى ثقافة الجوائز، بين من رفض نيلها بعد التتويج، ومن ظفر بأغلبها مسبقا لكن ارتدّ عليها لاحقا، وبين من قاطعها طوال حياته الإبداعية، إما لأسباب سياسية، أو أخلاقية، أو إنسانية، أو وجودية، أو أدبية خالصة.

ضد الإبادة

مَثَارُ جدلِ هذا الموضوع، أعاده وجدّده ما أقدم عليه كتّاب أميركيون من أصول متعدّدة في خطوة لافتة بعد الانسحاب من اللائحة المرشحة للجائزة السنوية التي ترعاها مؤسسة أو نادي "القلم" الأميركي عام 2023، اعتراضا على موقف المؤسسة المطبّع مع جرائم إسرائيل في غزة، إذ يبدو تواطؤها واضحا من خلال إنكار الإبادة، وضمت قائمة هؤلاء المقاطعين تسعة كتّاب مرشحين بقوة لجوائزها ومنها الخاصة بأفضل كتاب، والتي تحمل اسم همنغواي، واسم جان شتاين.

هذا ما تفاقم مع إلغاء حفل الجائزة نفسها لهذه السنة 2024، إذ انسحب من لائحتها 29 كاتبا مرشحا للسبب ذاته، تنديدا بخرق حرية التعبير وانحياز المؤسسة للطرف الإسرائيلي في ارتكاب محارق يومية في غزة، وكذا تضامنا من هؤلاء الكتّاب مع المبدعين الفلسطينيين، فقاطعوا جوائزها الأخرى مثل جائزتي روبرت بينغهام، وفوكنر، وثالثة هي جائزة القلم للترجمة، ومن بين الكتّاب المنسحبين: كريستينا شارب، وكاثرين لايسي، وجوزيف إيرل توماس، ومايا بينيام.

وفي الولايات المتحدة أيضا، رفضت الكاتبة جومبا لاهيري ذات الأصل الهندي استلام جائزة إيسامو نوغوتشي لهذا العام 2024 الممنوحة من متحف نوغوتشي في كوينز بنيويورك، عندما طرد المتحف ثلاثة موظفين ارتدوا الكوفية تضامنا مع الفلسطينيين في غزة.

وفي هذا المنحى التضامني مع غزة، أعادت الكاتبة الجنوب أفريقية زوكيسوا وانر هذا العام جائزة معهد غوته التي نالتها عام 2020، إذ رفضت الاحتفاظ بأيقونة تكريمها بميدالية غوته المرموقة بالنظر إليها كلقب ترعاه الحكومة الألمانية المتواطئة في الإبادة التي تتعرض لها غزة، وهي من أكبر مصدري الأسلحة لإسرائيل، مصرحة بأن هذا التوسيم صادر عن الجناح الثقافي لحكومة تقف على الجانب الخطأ من الإبادة الجماعية مرةً أخرى.

رفضت الكاتبة جومبا لاهيري ذات الأصل الهندي استلام جائزة إيسامو نوغوتشي تضامنا مع الفلسطينيين

اعتراضا على سياسات حكومية مغلقة

قبلها باثنتي عشرة سنة رفض الشاعر الأميركي لورنس فيرلينغيتي، جائزة يانوس بانونياس الدولية للشعر التي تمنحها مؤسسة القلم الهنغارية عام 2012، معترضا على سياسات الحكومة المجرية المُجهِزة على حرية التعبير والحقوق المدنية.

Getty Images
الكاتب الإسباني خافيير مارياس

وفي السنة ذاتها 2012، رفض الكاتب الإسباني خافيير مارياس جائزة الرواية الوطنية عن روايته "لوس أنامورامينتوس"، مبررا ذلك بأن قبولها سيكون أمرا وقحا لأنه يعارض أن يوصف بالكاتب المفضل لدى حكومة محافظة، من الأجدر ألا يشارك في ألعابها السياسية.

عودة إلى تاريخ أشهر رافضي الجوائز

في طليعة من رفضوا جائزة نوبل للآداب، أيقونة السخرية الكاتب جورج برنارد شو عام 1925 مسترخصا قيمتها ومتهكما من صانعها: "قد أغفر لنوبل اختراعه للديناميت، لكنني لا أغفر له اختراع جائزة نوبل"، غير أنه ما فتئ أن أقبل على استلامها بعد مرور سنة، مع الامتناع عن استلام مستحقاتها المالية.

وفي السنة ذاتها 1926، رفض الروائي سنكلير لويس جائزة "بوليتزر" الأميركية عن روايته "أرو سميث"، وقد بعث برسالة يشير فيها الى أوفى أسبابه الشخصية، وهو أن لجنة تحكيم "بوليتزر" كانت أوصت به قبل خمس سنوات عن روايته "شارع ماين"، لكن مجلس أمناء جامعة كولومبيا قرر أن عمله لم يستوف شروط خطة الجائزة ومنحها للكاتبة إديث وارتون عن روايتها "عصر البراءة"، وبعدها بأربع سنوات نال جائزة نوبل للآداب وكانت محاضرته في محفل تسلمه موسومة بعنوان "الخوف الأميركي من الأدب".

AFP
الكاتب والناقد الأيرلندي جورج برنارد شو في منزله بلورنس، يوليو 1947.

كرّر الكاتب ويليام سارويان موقف رفض جائزة "بوليتزر" عام 1940 عن مسرحية "وقت حياتك"، لكن لأسباب أخرى، أدبية وأخلاقية، إذ أعلن معارضته من حيث المبدأ منح الجوائز في الفنون، مستطردا أن مثل هذه الجوائز تفسد الفن وتضعه موضع حرج.

وهو ما عزّزه موقف الكاتب المسرحي إدوارد ألبي، بالرغم من قبول جائزة "بوليتزر" في عام 1967، إلا أنه وصفها بأنها "شرف في حالة انحدار".

في طليعة من رفضوا جائزة نوبل للآداب جورج برنارد شو عام 1925 متهكما من صانعها: "قد أغفر لنوبل اختراعه للديناميت، لكنني لا أغفر له اختراع جائزة نوبل"

أما أغرب مواقف الحصول على جائزة نوبل للآداب فتمثل في حالة الروائي الروسي بوريس باسترناك الذي رفضها قسرا بإملاءات حادّة من الطغمة العسكرية، إذ عدّت روايته "الدكتور جيفاكو" في 1958 نصّا مضادا للثورة البلشفية وعواقبها، وبسببها تكبّد أفدح أشكال التضييق والإسكات تحت التهديد، بل ساهمت المؤسسة الثقافية بما فيها اتحاد الكتاب الروس في اتهامه بالتواطؤ مع الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفياتي.

فيما يظل جان بول سارتر النموذج الأوضح في رفض جائزة نوبل بلا هوادة عام 1964، وأسبابه الدامغة هي نظرته العدمية تجاه رسمية الجوائز عموما، محذرا من فخ سلطتها كمؤسسة قد تنزلق بأفكاره إلى مستنقع الابتذال تحت إكراه المحافل التي تعقبها، وهذا ما فعله مسبقا في رفضه الوسام الفرنسي الشهير بجوقة الشرف عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية.

Getty Images
الروائي المصري صنع الله إبراهيم.

وضمن آخر طرائف حدث سارتر النوبلي، كتبت الأميركية أورسولا لي غوين مقالا ساخرا حول تأسيس جائزة باسم سارتر، لكن بعنوان لافت: جائزة الأدب لرفض الجوائز الأدبية.

الاستثناء العربي: صنع الله إبراهيم وأحمد بوزفور

عربيا دوّى موقف صنع الله إبراهيم عام 2003 حينما رفض جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية، احتجاجا على نظام بلده الممعن في الفساد وقمع الحريات، فضلا عن التنديد بمجازر أميركا في العراق وجرائم إسرائيل في فلسطين.

Facebook
الكاتب المغربي أحمد بوزفور.

كذلك فعل القاص المغربي أحمد بوزفور حين رفض جائزة المغرب للكتاب عام 2004، مفصحا عن عدم قبولها لأسباب منها ما يتعلق بوضعية حقوق الانسان في المغرب مع تفاقم التفاوت الطبقي واستفحال الأمية كنتيجة لفشل برامج الحكومة، ووفق بيان تصريحه يستطرد باعتراف جارح: "لا يمكن أن أقبل جائزة وزارة الثقافة عن كتاب طبعت منه ألف نسخة، ولم أوزع إلا 500 نسخة في أسواق شعب من 30 مليون نسمة".

لا يمكن أن أقبل جائزة وزارة الثقافة عن كتاب طبعت منه ألف نسخة، ولم أوزع إلا 500 نسخة في أسواق شعب من 30 مليون نسمة

أحمد بوزفور

توماس برنهارد: العدمية المطلقة

ينفرد الكاتب النمساوي توماس برنهارد (1931-1989) عن سابقيه بعدمية مطلقة، إذ ينبري لهجاء لاذع للجوائز في كتابه "صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين"، بدءا بمهزلة تقاليد منحها، التي يراها أكثر الأشياء التي لا تطاق في العالم. والجوائز وفق خبرته، لا تعلي من قدر المكرم كما كان يعتقد حينما نال أول جائزة في حياته، بل تحطّ من قدره بطريقة مخجلة. ولا يوارب برنهارد في أن ما جعله يحضر محافل الجوائز التي ظفر بها هو المال وحده، حتى بلوغه الأربعين. يذهب بعيدا في توصيف ابتذال الجوائز بأن تسليمها دوما يشعره بالإهانة العظمى، مشبها الأمر بأن لحظة منحها تشبه "التبول على رأس الفائز بها"، وهذا ما يورد له حكاية سوداوية حينما تسلم جائزة الأكاديمية، وخلال الحفل نامت الوزيرة وسُمِع شخيرها، ولم تستيقظ إلا عندما صخبت أوركسترا الحجرة الفيلهارمونية، وهو ما تكرّر بصورة أفدح في حفل تسلمه جائزة الدولة للآداب الذي انتهى بفضيحة، أولها كلمة الوزير عنه كفائز محض هراء، لا تمت الى شخصه وأدبه بحبة خردل، وآخرها حينما ألقى برنهارد كفائز كلمة قصيرة في المناسبة توجز فلسفته عن تفاهة العصر، عن الإنسان كبائس مصيره الموت، ناعتا النمساويين بفاتري الشعور لا مبالين بالحياة، بل بالانحطاط واللاشيء والفوضى، فأثار حفيظة الوزير الذي اندفع غاضبا كثور، منقضّا على برنهارد بلكمةٍ، ناعتا إيّاه بالكلب، وبانصراف الوزير غادر جميع المدعوين المسرح، وفي اليوم التالي صخبت الصحف بالإهانة التي طالت الوزير من طرف الكاتب، في حين أن الكاتب هو الذي أهين من طرف الوزير والجائزة معا.

AFP
المصور النمساوي سيب دريسسينجر في معرضه "توماس برنهارد، الذي لا يؤدي إلى شيء" في فيينا

صدر لبرنهارد بعد وفاته كتاب بعنوان "جوائزي: محاسبة"، يستوفي فيه نقده بتفصيل أشدّ سخرية للجوائز التسع التي نالها في سن مبكرة، دون مواربة، فيما أمسى يرفض الأخرى المتوالية في آخر حياته.

font change

مقالات ذات صلة