تكاد الاعتداءات الإسرائيلية على العاصمة اللبنانية تتحول إلى خبر روتيني، مع تكرار الغارات وما تخلفه من ضحايا ودمار كانت مقتصرة حتى وقت قريب على مناطق نفوذ "حزب الله" في الضاحية الجنوبية لبيروت.
غارات تستهدف شخصيات حزبية قررت التخفي بين المدنيين في الأحياء السكنية لبيروت، فلا الإسرائيلي يأبه لحياة السكان ولا من قرر استخدامهم دروعا بشرية.
ينام اللبنانيون على تفاؤل حذر حول قرب التوصل إلى اتفاق بين لبنان وتحديدا "حزب الله" من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، ليستيقظوا بعد منتصف الليل على تحذيرات الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي يطالبهم بإخلاء مبان في الضاحية إن كانوا محظوظين قليلا، أو ليستيقظوا على وقع الغارات على أحيائهم في بيروت دون أي تحذير.
منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023 دأبت إسرائيل على استهداف عناصر وقيادات في "الحزب"، إلا أنه وبعد أن "استتب" الأمر لنتنياهو في غزة، يمكن القول إنه تفرغ لحربه على "حزب الله". وما بعد "عملية البيجر" ليس كما قبلها، فقد استهدفت إسرائيل قيادات "الحزب" العسكريين والسياسيين ومؤخرا الأمنيين، بمن فيهم حسن نصرالله، ودخلت بريا إلى الجنوب اللبناني بعدما كانت قد انسحبت منه عام 2000 تطبيقا للقرار 425، حتى إن الأنباء الآتية من الميدان بدأت تمهد لخبر وصول الجيش الإسرائيلي إلى الليطاني.
قبل أيام قليلة عاد المبعوث الأميركي (الإسرائيلي الجنسية أيضا) آموس هوكشتاين إلى لبنان بعدما تسلّم رد لبنان على مسودة المشروع، وأكد بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري أن "الاجتماع كان بنّاء ونحن أمام فرصة حقيقية للوصول إلى نهاية للنزاع"، فيما نُقِل عن بري أن "الوضع جيد مبدئيا"، موضحا أن ما تبقّى لإنجازه هو "بعض التفاصيل".
منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023 دأبت إسرائيل على استهداف عناصر وقيادات في "الحزب"
ولكن- كما يقال- الشيطان يكمن في التفاصيل. ووفقا للأخبار المسربة عن مسودة الاتفاق، فقد وافق الطرف اللبناني المفاوض على البند المتعلق بالدفاع عن النفس، أو بكلمات أوضح، إعطاء الحق لإسرائيل بانتهاك سيادة لبنان عندما تقتضي الحاجة من وجهة نظر إسرائيلية. وما برر الموافقة "اللبنانية" على هذا البند هو صياغته الجديدة حسبما نقلت وسائل إعلامية والتي تفيد بأن "لكل طرف حق الدفاع عن النفس إذا اعتُدي عليه، على أن تضمن الولايات المتحدة عدم إقدام إسرائيل على تنفيذ ضربات استباقية".
إذن الضامن هو الولايات المتحدة الأميركية الحليف والصديق الوفي لإسرائيل كما تكرر قوى الممانعة، والوسيط هو مبعوث يحمل الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية، والمفاوض هو الرئيس نبيه بري المكلف رسميا من قبل "حزب الله" وأمينه العام الجديد نعيم قاسم، في ظل غياب حقيقي للدولة اللبنانية ومؤسساتها، وإن كان هوكشتاين قد تنبه أخيرا للأمر فقرر- إضافة إلى لقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال الرئيس نجيب ميقاتي لوضعه في صورة ما تم التوصل إليه، وقائد الجيش العماد جوزيف عون- قرر أيضا لقاء قادة بعض الأحزاب اللبنانية لسماع وجهات نظرهم. لكن الدولة بمفهومها المؤسساتي بقيت غائبة عن المفاوضات، بما في ذلك مجلس الوزراء مجتمعا ومجلس النواب، وخصوصا في ظل فراغ رئاسي مستمر منذ أكثر من عامين.
كل هذا يطرح العديد من الأسئلة، فهل الاتفاق المنوي الوصول إليه- إن تم- هو بين لبنان وإسرائيل أم بين "حزب الله" وإسرائيل؟
مضى 18 عاما على "حرب تموز" 2006 وصدور القرار 1701، وأثبتت هذه الأعوام الـ18 أن الطرفين- أي إسرائيل و"حزب الله"- لم يلتزما به وببنوده
هل مهمة مؤسسات الدولة المعنية هي الإشراف على تنفيذ ما يتوصل إليه الطرفان؟ ومن يضمن في الداخل اللبناني سلامة الأجهزة الأمنية وعلى رأسها الجيش اللبناني إن اتخذت إجراءات جدية لتنفيذ الاتفاق؟ وخصوصا مع التحريض المستمر على الجيش اللبناني و"ضعف" إمكانياته من قبل كل الأقلام التي تدور في فلك "حزب الله".
هذه الأسئلة تجعل من المستبعد التوصل إلى اتفاق في وقت قريب، فحتى لو كانت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية يدركان أن "حزب الله" هو الحاكم الفعلي في لبنان، فإن الأمر اختلف مؤخرا على وقع "حرب الإسناد" وما تبعها، فما يقوم به رئيس الحكومة الإسرائيلية يأتي في سياق إضاعة المزيد من الوقت والفرص ليحقق مزيدا من "الإنجازات" العسكرية أيا كانت كلفتها الإنسانية والمادية على لبنان. لقد استبق نتنياهو وصول هوكشتاين بإعلان مضيه في حربه لتدمير قدرات "حزب الله" البشرية والعسكرية.
لقد مضى 18 عاما على "حرب تموز" 2006 وصدور القرار 1701، وأثبتت هذه الأعوام الـ18 أن الطرفين أي إسرائيل و"حزب الله" لم يلتزما به وببنوده، والحديث اليوم عن أن الحل يكمن فقط في العودة إلى القرار دون آلية جدية وواضحة لتطبيقه بكافة بنوده، كمن يطالب اللبنانيين بالاستعداد لحرب مدمرة جديدة بعد بضعة أعوام. وكمن يعطي فرصة جديدة لنصر إلهي من هنا ونصر سياسي وعسكري من هناك، وكل ذلك على أشلاء لبنان واللبنانيين.