في القرن العشرين بلبنان مثلاً، ومن خلال المسرح الموسيقي الغنائي للرحابنة، التقى الشرق بالغرب، بعد أن شكلت هذه العائلة الهوية الثقافية الموسيقية اللبنانية الجديدة. نعم كانت جديدة لكن انطلاقاً من هوية لبنان المتجذرة في تقاليدها الشعبية، سواء الحكايات والرقصات أو الحوارات الغنائية، وفي تعابير لغوية أصيلة. فاحترم الجمهور باختلافه، هذا التجديد والابتكار، بتقديم الرحابنة أعمالهم الموسيقية وتراثهم الغنائي لوطنهم في عصر منفتح، منها على سبيل المثال مسرحية ميس الريم، وقصة الحب والاختلاف، لتبيان النزاع الاجتماعي أو العشائري، والصراع الثقافي الذي يؤججه البعض، لكن من خلال الفن. وسواء في لبنان أو أية دولة عربية أخرى، هناك حاجة إلى عائلة موسيقية جديدة أو وعي اجتماعي أُسري لنقل التراث بين الأجيال، وفي أعمال متجددة، أكثر من أي وقت مضى، بعد ابتعاد جيلين عن تراثهم وثقافتهم الأصيلة، إن لم نقل أجيالا.
على أن هذا التمهيد يجعلنا نتساءل كيف يكون النقل الثقافي بين جيلين وأكثر؟ وأعني الفنون والأذواق الموسيقية، والتقاليد والعادات والرقصات والآداب، ووسائل الاستماع الشفاهية، وكلها من الأفكار الجوهرية للمجتمع نفسه، والتي تُنقل من الآباء إلى الأبناء، مثلها مثل الدين والمذهب الذي يتم نقله بشكل مدروس لدى العائلات في المجتمعات الشرقية والعربية الحديثة. في المقابل هناك سهو في نقل تراث المجتمع وثقافته، كما كان يحدث في القرون السابقة حيث كان انتقال "العدوى" من الآباء إلى الأبناء، وعبر الأجيال، لنقل العناصر الثقافية، وهو ما تم نسيانه اليوم في مجتمعاتنا العربية والشرقية، لنجد أجيالا جديدة لا صلة لها بالتراث واللغة والذوق الخاص بمجتمعها.
النقل هو رأس المال الذي تتمسك به الشعوب المتحضرة، بالملموس وغير الملموس، من جيل الآباء إلى جيل الأبناء
إذن نحن نحتاج إلى الإطار الذي يتم فيه تفصيل قضايا نقل الذوق بين الأجيال، بتخصيص قسم منهجي لتبرير ما نحن عليه. فمقارنة الأذواق والعادات الموسيقية والاجتماعية والفكرية، أصبحت واسعة بلا شك بين جيلين وأكثر، وثمة هوة، خصوصا أننا بلا منهج. أو لعله النسيان والسهو كما ذكرت، حول نقل التراث بين الأجيال، لُغةً وذوقاً وتاريخاً ومعتقداً، في التنشئة الاجتماعية لجيل من البالغين، ليصبح النقل عبر الأجيال، تماماً مثل نقل الدين والمذهب. ولكي يصبح النقل ديناميكياً بمرور الوقت، واضحاً وواعياً، لكن الأهم أن يكون خفياً وبشكل غير مباشر، أي كأنه تحصيل حاصل ومفروغ منه.
وتهمني الإشارة إلى أنه في التاريخ القديم للأمم كانت هناك ثلاث آليات للتعلم والنقل، جميعها نعرفها، أولاً بتقليد الطفل والديه، وبعدها من خلال آليات التعزيز الإيجابي والسلبي، أي تهنئتهم على اختيار منتج معين، من سمع وقراءة وفهم، أو توبيخهم على سوء الاستخدام. وأخيراً، يمكن أن يتم هذا التعلم في إطار التفاعلات الاجتماعية التي تحدث في سياق الأسرة، وكذلك بين المراقبة والتعزيز، وتدريب الطفل على رقصاته النابعة من التراث مثلا، كي لا يذهب إلى الاستهلاك المادي والموسيقي والفكري والاغتراب بسهولة.
النقل هو رأس المال الذي تتمسك به الشعوب المتحضرة، بالملموس وغير الملموس، من جيل الآباء إلى جيل الأبناء، فالنقل عملية طوعية وغير طوعية من جانب المرسل، وعملية فعالة إذا حصل عليه الطفل أو الوالدان بشكل دائم. مثلها مثل الصور والمجوهرات والأثاث، وكل ما هو في سياق الميراث، وكله يأخذ طريقا إما للحفاظ على ثقافة الوطن وهويته، أو تفكيك أصالته... فالتغيير أمر طبيعي، لكن نقل الموروث واجب، وتطويره وعد محتوم.