تقدم الحرب الحالية بين إسرائيل و"حزب الله" اللبناني نموذجا مثاليا عن فداحة فرض "النزعة الوطنية" كحتمية سياسية وذات مقام ثقافي وروحي فوقي، تفترضها وتفرضها نُخب ثقافية وقوى سياسية راسخة، موظفة حالة الطوارئ السياسية والحياتية الراهنة.
الفداحة متأتية من أن فرض هذه النزعة يؤدي ميكانيكيا إلى أن يكون الجميع في صف "حزب الله" وخياراته الميدانية والسياسية، وتاليا القبول والخضوع فعليا لمشروعه السياسي، الذي لا يُمكن إخفاء آثاره، الدمار الذي تسبب به في مختلف مناطق لبنان، ولمرات لا تُعد، والجحيم الحياتي الذي أوقع البلاد به، من انهيار شامل للاقتصاد وتعكير لشكل الحياة العامة والإطاحة بالمجال السياسي، منذ ربع قرن وحتى الآن، على الأقل. وهو خضوع لن يكون في الراهن فحسب، بل سيمتد حتما للتسليم برؤية "حزب الله" لمستقبل لبنان، وربما المنطقة، وتكريس رؤيته وقراءته لمجريات الماضي القريب.
العكس لا يعني ولا يؤدي إلى أي تخفيف في الموقف المناهض لإسرائيل، كجامع سياسي شبه وحيد بين اللبنانيين.
لا تشكل حالة "حزب الله" إلا نموذجا واحدا، وإن كان الأكثر وضوحا، من طيف من الحالات التي تحيط بأحوال مجتمعاتنا ودولنا، تُستخدم الخطابات والنزعات الوطنية في كل واحدة منها كـ"مرفق حربي"، يستعمله تيار سياسي أو رأي ثقافي من القوى الداخلية، لابتزاز وإخضاع الآخرين لمواقفه وخياراته السياسية، وغالبا ما يؤدي ذلك إلى أشكال فادحة من الخسائر، لأنه يحجم الخيارات السياسية ويغلق الأفق الثقافي ويدفع نحو مناخات من العسكرة العامة، ويسمح لتيار سياسي واحد بأن يحتكر تعريف الأشياء وتصنيفها وترتيب تبعاتها ومساراتها.
الديمقراطية في تجاربنا القليلة صارت عارية عن أية قيمة تتجاوز عمليات/ مهرجانات الانتخاب، مكرسة نزعات عشائرية ومناطقية وطائفية
لا يتعلق الأمر بقوى السيطرة المركزية فحسب، ففي مرات لا تُعد يُمكن أن يستخدمها طرفا الصراع الداخلي في الآن عينه. في سوريا مثلا، وبعدما بقي النظام الحاكم لأكثر من نصف قرن كامل يستخدم "العروبة" كأداة لضبط المجال العام وتعنيف مناهضيه، صار منذ عام 2011 يستخدم "الوطنية السورية" لفعل الشيء نفسه، لكن ذلك لم يحل دون نزوع الكثير من مناهضيه لممارسة الأمر نفسه، وإن ليس ضده فحسب، بل ضد سوريين آخرين، مختلفين معهم ومع النظام الحاكم في الرأي والفعل السياسي.
طوال العقد الماضي، كان ثمة أمثلة لا تُعد شبيهة بتلك، في الانقسام الأهلي العراقي الحالي وفي حروب اليمن والسودان، والمناكفة السياسية في مصر وتونس وفلسطين. فمثلما كانت القوى الحاكمة تستخدم آليات المحق السياسي الميداني والإلغاء الثقافي والرمزي لـ"الخصوم" والمختلفين سياسيا، عبر توظيف أيديولوجيات العروبة والإسلام السياسي وعبادة القائد/الفرد طوال العقود الماضية، كأدوات تسمح لها باحتكار السُلطة وفرض الإرادة على المجال العام، صارت القوى نفسها تستعمل "الوطنية" لممارسة أدوار القسر ذاتها.
وبرؤية أكثر تحليلا، يبدو واضحا أن هذه الوطنية وخطابها حينما تم "توطينها" وإخضاعها للمنطق العام في مجتمعاتنا وأحوال بلداننا، فإنها تعرضت لتعكير شديد القسوة، أخرجها من سياقها التقليدي الذي عُرفت به، مثلما صار في أحوال نزعات سياسية/أيديولوجية أخرى، كالثورية والاشتراكية والديمقراطية. فالثورية التي كانت في تجربتها الأوروبية نبراسا للتحديث وتحطيم الاستبداد والسجون المادية والعقائدية، غدت في تجاربنا مجرد أداة لتكريس الفاشية العسكرية وتشييد أعتى أنواع السجون. والاشتراكية التي كانت ذروة دمج الديمقراطية بالمسؤولية المجتمعية والطبقية، لم تلد في ربوعنا إلا أنظمة مركزية شمولية. أما الديمقراطية في تجاربنا القليلة فقد صارت عارية عن أية قيمة تتجاوز عمليات/مهرجانات الانتخاب، مكرسة نزعات عشائرية ومناطقية وطائفية.
لكن، وبهذا المعنى، وطالما أن مجمل الأيديولوجيات السياسية تلك، التي كانت الوطنية آخر تجاربها، أدوات للقسر والغطرسة، فهل ستكون مجتمعاتنا وفضاؤنا السياسي رهن العدمية الثقافية والسياسية والروحية؟
تُعتبر "الوطنية" هي الأكثر تعقيدا وقدرة على المخادعة، لأنها الأكثر "سحرا"، تظهر بلبوس الرؤية القادرة على استيعاب الجميع
العكس تماما هو الصحيح، لأن نقد وتفكيك تلك الأيديولوجيات وخطاباتها، إنما يتم حسب تجاربها وممارساتها في الحياة والمسارات المعاشة، وليس كأفكار مجردة. وبقول آخر، لا يتم التعرض لها كمفاهيم سياسية ومعتقدات فكرية ورؤى ما للعالم والحياة العامة، بل كأدوات يتم استخدامها وتوظيفها من قِبل طبقات مهيمنة وقوى سياسية حاكمة، يمنحونها عادة طاقة من القداسة والاستثناء، لكنهم يستخدمونها ميدانيا لتكريس فوقيتهم السياسية وإلغاء أي نقاش عام حُر ورحب ومستوعب لجميع المختلفين، تحديدا ذلك النقاش القادر على الولوج ونقد ما يتم استغلاله وتكريسه عبر هذه الأيديولوجيات وخطابها.
في هذا السياق، تُعتبر الوطنية بخطابها هي الأكثر تعقيدا وقدرة على المخادعة، لأنها الأكثر "سحرا"، تظهر بلبوس الرؤية القادرة على استيعاب الجميع، متجاوزة الحساسيات الطائفية والشروخ القومية والطبقية والمناطقية، لكنها فعليا وفي كل تجارب بلداننا، لا تظهر إلا كمشاريع سياسية مركزية، مُحتكرة بيد تيار سياسي بعينه، ملغية حقيقة أن الوطنية بمعناها الأكثر رحابة إنما هي شيء آخر تماما، متعلق بمجموعة الرموز والشيفرات والحساسيات المحلية داخل مجتمعات الدولة الواحدة، ذاكرتهم الجمعية وحسهم بالتضامن الطوعي، مصالحهم المشتركة وشعورهم بالأمان المتبادل، وحيث لا شيء من كل ذلك في هذه الوطنيات السياسية.
ربما يُمكن تحديد معيار واحد لسلامة كل هذه الأيديولوجيات والنزعات السياسية، هو حفظ حق المواطنين والمخالفين التام والمصون في السُخرية منها. وهل لأحد اليوم أن يسخر من قادة الوطنية هؤلاء؟