العراق… الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

تتوالى فضائح الفساد عبر التسريبات الصوتية

EPA
EPA
متظاهر يلوح بالعلم العراقي خلال مظاهرة في ساحة التحرير وسط بغداد في 1 أكتوبر

العراق… الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان والحكومة ويحملها مسؤولية الفساد والفشل في الاستجابة لمتطلبات حياته اليومية الأساسية. أما الطبقة الحاكمة فتعترف بوجود أخطاء في الدستور وفي العملية السياسية وفي طبيعة النظام البرلماني وضعف الأداء السياسي، لكنها تقف عند هذا الحد من التشخيص ولا تريد أن تتحمل مسؤوليتها في إنتاج هذه المنظومة الحاكمة.

الفساد، مثلا. لا يوجد عراقي سواء كان مواطنا أو سياسيا، ينكر وجوده، ولا يمكن أن تتجاهل آثاره على جميع مرافق الحياة العامة ومؤسسات الدولة. ولكن هذا الاعتراف لم يعمل على محاربته ولا يقلل من تغوله حتى أصبح ظاهرة عامة، نتحدث عنها وكأنها متلازمة للواقع السياسي وليس شيئا طارئا على المجتمع والسياسة!

تخيل أنك تعيش في "دولة" لديها مؤسسة وظيفتها محاربة الفساد، واسمها "هيئة النزاهة". يخرج تسريب صوتي يُنسب لرئيس هذه الهيئة يتحدث في صفقة فساد "واعتراف بتلقيه الرشوة"! وعندما يتم استدعاؤه للمثول أمام القضاء، يخرج في مؤتمر صحافي صارخا: "نحن مستضعفون في هيئة النزاهة". ولحد هذه التفاصيل، يمكن عد الموضوع طبيعيا وتحدث مثل هكذا خروقات في أكثر البلدان التزاما بالقانون. لكن، عندما يتم إعفاؤه من منصبه كرئيس هيئة نزاهة وتعيينه مستشارا في وزارة العدل، هنا نكون أمام ظاهرة تكريم المتهمين بالفساد بدلا من محاسبتهم!

وتتوالى فضائح الفساد عبر التسريبات الصوتية، والتي يبدو أنها أصبحت تستهدف من يرتبط برئيس مجلس الوزراء. وأصبحت أقوى أسلحة خصومه في حرب التسقيط السياسي، فيعد رئيس هيئة النزاهة يأتي تسريب صوتي لرئيس الهيئة العامة للضرائب، ويتضمن فضيحة فساد كبرى تتعلق بالتلاعب بأموال الضرائب!

سيبقى الفساد في العراق حكاية لا تنتهي، ما دام المتورط الرئيس في قضية سرقة الأمانات الضريبة (سرقة القرن) حتى الآن خارج السجن، وما دامت الأموال التي سرقها لم تعد إلى خزائن الدولة

رئيس هيئة المستشارين، تمت إحالته للقضاء بتهمة التورط في الفساد بعد تسريب صوتي يتحدث فيه عن أمكانية تسهيل أي مشروع يقدم لإحدى الوزارات؟ ورغم عدم حسم القضاء ملف هذه القضية حتى الآن. فإنها تعد استهدافا واضحا وصريحا للشخصيات المقربة من رئيس الحكومة محمد شياع السوداني. ورغم أن الأصدقاء/الأعداء لرئيس الوزراء يتهمونه بوجود شبكة تجسس داخل القصر الحكومي تعمل ضد عناوين سياسية مهمة، فإن حرب التسريبات الصوتية هي الآن ضد الحكومة!

وسيبقى الفساد في العراق حكاية لا تنتهي، ما دام المتورط الرئيس في قضية سرقة الأمانات الضريبية (سرقة القرن). لحد الآن خارج السجن، وما دامت الأموال التي سرقها لم تعد إلى خزائن الدولة، والشخصيات السياسية المتورطة في صفقة الفساد هذه، لم يتم كشفها أمام الرأي العام.

أزمة نظام أم منظومة حكم

من أهم عناوين فصول كتاب "لماذا تفشل الأمم.. أصول السلطة والازدهار والفقر"، عنوان الفصل الثالث عشر "لماذا تفشل الأمم في هذا العصر.. المؤسسات، ثم المؤسسات، ثم المؤسسات". وخلاصته أن نظام الحكم يفشل عندما تقوم نخبة بتشكيل طبيعة المؤسسات الاقتصادية من أجل إثراء نفسها واستدامة قوتها وسلطتها على حساب الغالبية العظمى من الشعب.

لذلك، المشكلة في العراق ليست في طبيعة توصيف نظام الحكم باعتباره نظاما برلمانيا، ولا في شكل الحكم باعتباره "ديمقراطيا" ويقوم على أساس تداول السلطة. وإنما المشكلة في منظومة الحكم التي تقودها نخب سياسية تتعامل مع الدولة ومؤسساتها واقتصادها باعتبارها إقطاعيات تابعة لهذا الحزب أو ذلك الزعيم السياسي وحاشيته. وعلى هذا الأساس أصبح لدينا مظهر جديد للسيطرة على الموارد الاقتصادية للدولة وثروات البلد باعتبارها حصصا تتقاسمها قوى السلطة والنفوذ، وتتشارك في ريعها قوى موازية للدولة.

هذا الواقع، هو أساس انتشار الفساد ومظاهره في جميع تفاصيل المجال السياسي العام. وعلى هذا الأساس فإن النخبة الحاكمة والقوى الموازية للدولة لا تعد استحواذها على الموارد المالية والثروات في العراق من مظاهر الفساد. وإنما هو تقاسم للاقتصاد الريعي بين من لديه نفوذ سياسي أو لديه نفوذ بقوة السلاح الذي يفرض نفسه على المجتمع والدولة.

ومن أهم ضحايا منظومة الحكم المؤسسات السياسية. وعلى الرغم من توصيف نظام الحكم في العراق بأنه "نظام برلماني"، فإن الحيز التمثيلي فيه ضيق جدا، وإدارة الحكم تجري عن طريق منظومة حاكمة تسيطر عليها طبقةٌ سياسيةٌ تجمع بين السلوكيات الأوليغارشية والأوتوقراطية، وتحتكر السياسةَ والسلطةَ، وتمارس نفوذَها على المجال السياسي، حتى تتمكن من احتكار الهيمنة على الدولة ومؤسساتها.

وأصبح النظام السياسي في العراق مغلقا، إذ لا يمكنه الاستمرار إلا بوجود الانقسامات الطائفية والقومية التي يتغذى عليها، وفي الوقت نفسه يعمل على إدامتها، محاولا إيهام المجتمع بأنه الممثل السياسي لها. على الرغم من أن البيئة السياسية في العراق تزدهر فيها الاصطفافات والولاءات الثانوية والتقليدية، وتنعدم ديناميات التوحيد والتجانس السياسيين.

من أهم ضحايا منظومة الحكم المؤسسات السياسية. وعلى الرغم من توصيف نظام الحكم في العراق بأنه "نظام برلماني" فإن الحيز التمثيلي فيه ضيق جدا

وظيفة منظومة الحكم في العراق أصبحت تنحصر في تحقيق التخادم المصلحي بين القوى السياسية الفاعلة، وكبح ديناميكية المجتمع الذي تترجم فيه نفسَها سياسيا، ومن ثم ينحسر مجال اشتغال المعارضة لِلنخب الحاكمة وتعبيرها عن مطالبها الاجتماعية والسياسية في وسائل خارج دائرة التمثيل السياسي، كالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

لم تنجح منظومةُ الحكم إلا في توفير بيئة خصبة لتفريخ قوى طفيلية على السياسة والاقتصاد، وظيفتها نهب الدولة ومواردها واقتصادها الريعي، وتساهم في إضعاف الدولة، والتمرد عليها تارة، وتارة أخرى تعمل على أن تكون موازية لها وتصادر وظائفها الرئيسة في الأمن واحتكار العنف المنظم.

الفساد وانهيار منظومة الحكم

السؤال الأهم، رغم تشخيص إخفاقات منظومة الحكم، فإن هناك ثباتا واضحا في سطوتها ونفوذها على الدولة والمجتمع. ويبدو أنها عصية على الانهيار في المدى القريب، ومبررات ذلك:

أولا، الفوضى والفساد هما اللذان يعملان على إدامة المنظومة السلطوية، إذ إن النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة يساهمان في إيجاد نوع من التوافق الضمني بين الفرقاء السياسيين على نهب الثروات والموارد الاقتصادية للدولة وتقاسم الاقتصاد الريعي. سواء كان النفوذ والسيطرة يجري عن طريق الأحزاب السياسية، أو قوة السلاح المنفلت، أو يجمع بين قوة السلاح والنفوذ السياسي. فكل هذه الطرق تؤدي إلى نتيجة واحدة هي نهب الثروات، ومن ثم تكون مهمة الحكومات إدارة نظام الحكم على أساس تحقيق التوازن بين رغبات ونفوذ مافيات السلطة.

AP

ثانيا، توافق الإقطاعيات السياسية على أن إعلان الموت الرحيم لنظام سياسي قائم على أساس صفقات تقاسم السلطة بين زعماء الأوليغارشيات السياسية وحاشيتهم يعني خسارة جميع الطبقة السياسية. 

وثالثا، البيئة الإقليمية التي لا تريد انهيار العراق ولكنها تعمل على إبقائه دولة هشة، ولذلك فإنها تغذي الانقسام والتشرذم والضعف والاختراق والفساد؛ لأنه يسهل تمرير الأجندة ومشاريع دول الجوار الإقليمي. وحتى الولايات المتحدة عرابة تغيير النظام في 2003، لا تريد الدخول في دوامة تغيير سياسي يحمل الكثير من المخاطر.

رابعا، رغبات الحكومات في البقاء بالسلطة، هي أساس الفوضى والسبب الرئيس في ديمومتها، إذ يصبح التمردُ على الدولة وتمرير صفقات الفساد مباحا، ما دامت الغايةُ هي البقاء في السلطة. والتي تحتاج أيضا، تقديم الولاء والطاعة لِلزعامات السياسية وحاشيتها، ولِكل مَن له قوة ونفوذ في مراكز القرار. وما تقدمه الحكومات للمنظومة السلطوية الحاكمة مِن تنازلات على حساب الدولة وسيادتها، يعزز تراكمات الفوضى، التي هي أخطر مِن الفوضى بحد ذاتها.

المأساة الحقيقية عندما أصبحنا نتعايش مع الفساد باعتباره مسألة طبيعية وليست شاذة، ونتعامل مع مافيات الفساد كمظهر طبيعي مِن مظاهر الحياة السياسية في العراق. فالمنظومة السياسية التي تقوم على أساس تحالف مقدس بين الفساد والعمل السياسي، تعمل الاحترافية السياسية فيه وفق معيار الإدامة والإبقاء على عمل هذه المنظومة، وليس التمرد عليها. فهذه الأنظمة لا تنتج إلا الفاسدين ولا تأتي إلى سدة الحكم إلا بالفاشلين. ومن ثم، لا يمكن لها أن تنتج لنا أنموذجا لقائد سياسي مثل مهاتير محمد صانع النهضة الماليزية، أو لي كوان يو صانع معجز سنغافورة.

font change

مقالات ذات صلة