السؤال الأبرز المتصل بالمفاوضات بين "حزب الله" وإسرائيل والتي يديرها المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين هو: هل يريد بنيامين نتنياهو وقف الحرب في لبنان الآن؟
مجرد طرح هذا السؤال يؤشر إلى حقيقة موازين القوى في "الميدان" والتي تميل حتى الآن لمصلحة إسرائيل. وإن كان استمرار "حزب الله" بالاشتباك مع الجيش الإسرائيلي المتوغل جنوبا، وإطلاقه الصواريخ باتجاه العمق الإسرائيلي وصولا إلى تل أبيب، يبقيان "الميدان" مفتوحا على احتمالات متفاوتة. مع العلم أن وتيرة إطلاق "الحزب" للصواريخ المضادة للدروع، قصيرة المدى، والتي ظلّ يقصف بها المستوطنات الحدودية منذ بدأ الحرب قد تراجعت. وهذا ما يدفع أصوات إسرائيلية للبدء بدعوة مستوطني "الشمال" للعودة إليها، وهي دعوات لا تعكس الواقع تماما لكنها تشير إلى المتغيرات الأمنية التي طرأت على جانبي الحدود.
أيا يكن من أمر فإنّه لا يمكن قراءة الحرب الإسرائيلية ضد "حزب الله" على أن هدفها وحسب إعادة المستوطنين إلى "الشمال". بمعنى آخر فإن تحقيق هذا الهدف يستحضر معه حكما أهدافا أخرى للحرب، أو أنه قد لا يتحقق دون تحقيق تلك الأهداف. والسؤال هنا هل تسعى إسرائيل وحسب إلى تغيير الوضع الأمني في جنوب لبنان- أي دفع "حزب الله" للانسحاب إلى شمال الليطاني وتفكيك بنيته العسكرية الحدودية- أم إلى تغيير الوضع السياسي في لبنان، لناحية إسقاط سيطرة "حزب الله" على البلد وبالتالي توجيه ضربة قوية للنفوذ الإيراني في المنطقة؟
هذا السؤال يستحضر حكما الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والذي أخرج "منظمة التحرير" وفرض واقعا سياسيا جديدا بانتخاب قائد "القوات اللبنانية" بشير الجميل رئيسا للجمهورية. لكنه واقع ما لبث أن تبدّل بدءا من اغتيال الجميل بعد 20 يوما على انتخابه ثمّ حرب الجبل بين "القوات" و"الحزب الاشتراكي" بزعامة وليد جنبلاط، وتفجيرات السفارة الأميركية و"المارينز" والقوات الفرنسية في بيروت، وصولا إلى "انتفاضة 6 فبراير/شباط" التي قامت بها الميليشيات المسلحة الموالية لدمشق، وبالأخص حركة "أمل" بزعامة نبيه بري، ضد حكم أمين الجميل والجيش، والتي شكلت بداية تكريس نفوذ القوى الشيعية "الجديدة" في لبنان بدعم من سوريا ولاحقا من إيران.
من سوريا إلى إيران
الأكيد أن أوجه الاختلاف أكثر من أوجه الشبه بين اجتياح 1982 والحرب الحالية، ولاسيما لناحية غياب لاعبين كبار عن المشهد وأبرزهم الاتحاد السوفياتي، وحضور لاعبين جدد أهمهم إيران. بل الأكيد أن طهران حلّت محلّ دمشق في السعي المتواصل للإمساك بمفاصل الوضع اللبناني سياسيا وعسكريا من خلال "حزب الله". مع فارق أن دمشق القريبة من بيروت، لا بل التي كانت تعتبرها "خاصرتها الرخوة" وجزءا من جغرافيتها السياسية، كانت مسكونة بهاجس عدم تشكيل التغيير السياسي والعسكري فيها خطرا مباشرا عليها. والفارق الجغرافي هنا مهم بالنسبة إلى مقارنة تعامل كل من سوريا، في حرب 1982، وإيران في الحرب الحالية، مع الوضع اللبناني، حتى لو كانت طهران متأثرة جدا بإضعاف "حزب الله"، الذي كان يشكّل خط الدفاع الأوّل عنها خارج حدودها، ولذلك فقد اضطرت للرد بنفسها على اغتيال حسن نصرالله وإسماعيل هنية ليس بهدف الرد وحسب، بل في محاولة منها لترميم منظومة ردعها مع إسرائيل والتي تضررت جراء الضربات التي وجهتها الأخيرة إلى "حزب الله" بدءا من منتصف سبتمبر/أيلول الفائت.
ثمة وجه اختلاف آخر بين سوريا وإيران في ما يخص الحربين هاتين، وهو أنّ التحالف أو "التقاء المصالح" بين "منظمة التحرير" ودمشق لم يكن قويا ومستداما بل كان تحالفا ظرفيا سرعان ما انقلب مجددا إلى عداوة شرسة بعد خروج عرفات من بيروت وعودته إلى طرابلس للاشتباك مع القوات السورية في المدينة. وهو ما جعل موقف سوريا من السعي لإخراج ياسر عرفات ومقاتليه من بيروت موقفا متجاوبا ومرنا، أولا لمنع استطالة الحرب واضطرار دمشق للانخراط أكثر فيها. وثانيا لأنّ وجود عرفات في بيروت لم يكن في الأصل مريحا لدمشق، ولذلك فهي دعمت الميليشيات المسيحية المناوئة له في بدايات "حرب السنتين" (1975-1976) ثم ما لبثت أن انقلبت عليها، لإحداث توازن معين في القوى يجعلها تتحكم في اللعبة. وفي المحصلة فإن خسارة "منظمة التحرير" لم تكن خسارة لسوريا بالمعنى الفعلي، أو أنها خسارة يمكن تعويضها أو تحمل في طياتها ربحا على المدى البعيد، وهو ما أثبتته الأحداث اللاحقة!