بلغت فيروز اليوم التسعين من عمرها، وهي المولودة بحسب مطلعين عن كثب على ذلك، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1934 وليس في 21 نوفمبر 1935 على ما هو شائع خطأ في أكثر من مكان.
لا اسم، لا صوت، ولا كلمات، منحت لبنان، منذ مطالع خمسينات القرن العشرين، صورا أزهى وأبهى وأرقّ وأسمى من اسمها وصوتها وكلمات أغانيها. وهي، بصوتها الغريب، زرعت تلك الصور في مخيلة أجيال لبنانية وعربية كثيرة، وأطلقتها في أرجاء العالم.
قد يكون صوتها الغريب، الطالع منفردا من تراتيل معابد قديمة، هو باعث السحر في كلمات أغنية للبنان تعود إلى مطلع الستينات: "ع إسمك غنيت/ عَ إسمك رح غني/ ركعت وصليت/ والسما تسمع مني/ (...) هون السما قريبة/ بتسمعنا يا حبيبي".
وبلهجة أهل قرى جبل لبنان، التي هذّبتها رومنطيقية سحر الحنين إلى صور مجازية لزمنهم الآفل في تلك القرى، غنت بصوتها الابتهالي: "خدني على تلاتها الحلوين/ خدني على الأرض اللي ربّتنا/ انساني على حفاف العنب والتين/ اشلحني على ترابات ضيعتنا/ بواب العتيقة عم تلوّحلي/ وصوت النهورا (الأنهار)/ ينده الغيّاب/ وعيون عشبابيك تشرحلي/ صحاب عم بتقول نحنا صحاب/ (...) خدني ازرعني بأرض لبنان/ بالبيت يلي ناطر التلّي/افتح الباب وبوّس الحيطان/ وإركع تحت أحلى سما وصلّي".
إنها كلمات تضرّع وابتهال للعودة إلى "فردوس مفقود"، مرسوم بألوان الحنين المائية، وبصوت شفاف يرتِّل صلاة خشوعه لما لن يعود ولم يكن أصلا وفصلا. ألا وهو الوطنية اللبنانية.
الوطنية اللبنانية الريفيّة
أما لبنان الذي غنت فيروز أنها "نذرت صوتها، حياتها وموتها، لمجده"، فهو محض مجاز فني تعبيري فيرروزي - رحباني، على الرغم من أن ولادته قد تنطوي على آثار أو أصداء تحولات اجتماعية وثقافية، تعود إلى ما قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مجتمع جبل لبنان، وبيروت تاليا.
شكلت تلك التحولات الرحم التي وُلدت منها "وطنية لبنانية" ريفية ومسيحية المصدر الاجتماعي والثقافي والمخيلة. وهي الوطنية التي شكلت نواة "دولة لبنان الكبير" الناشئة في العام 1920، والتي اتُخذت مدينة بيروت عاصمة لها، غداة الحرب العالمية الأولى. وجاءت ولادة تلك الدولة في سياق التجاور والتفاعل النشيط بين مجتمع جبل لبنان ومدينة بيروت.