منذ أن أخرج ريدلي سكوت تحفته الفنية (المُجالد) التي فازت ببعض أهم جوائز الأوسكار سنة 2000 وهو يحاول أن يُقدم عملاً تاريخياً آخر يكون بنفس درجة النجاح، لكنه لقي الفشل تلو الآخر، حتى هذه اللحظة. "روبن هود"، و"المبارزة الأخيرة"، و"بيت آل غوشي"، و"نابليون"، كلها لم تقترب من نجاح "المجالد" الأول قيد أنملة، وبعضها فشل فعلاً على المستوى الفني وتقييم النقاد، وعلى مستوى شباك التذاكر.
وعندما سمعتُ بأنه قرر إخراج جزء ثانٍ لـ"المجالد" توقعت– مخطئا- أن يفشل فشلاً ذريعاً، فالعادة التي تكررت أن الجزء الثاني لأي عمل فني لا يكون في مستوى الجزء الأول. نادراً ما استطاع أحد أن يخرم هذه العادة. لا شيء جديد على مستوى الأفكار، فالفيلم لا يطمح في شيء أكبر من أن يكون نسخة مكررة ناجحة من الأول. رغم أن الجزء الأول نفسه، الذي حظي بكل المديح وتحدى الثاني أن يكون في مستواه، هو الآخر لم يقدم سوى قصة انتقام بسيطة لا يدور فيها كثير من الأحداث.
في الفيلم الجديد هناك على الأقل تناول أفضل لقضية الخلاف بين الإمبراطورَين ومجلس الشيوخ. رغم البساطة المفرطة في الجزء الأول لكنه نجح نجاحاً تضرب به الأمثال، لكن من قال إن النجاح الفني يتطلب فكراً؟! هناك أشياء تنجح وأخرى تفشل، ولا سبب على الإطلاق سوى الحظ والصدفة.
الحقبة التي يتحدث عنها الفيلم هي حقبة أفول أثر اليونانيين وبداية أثر إمبراطورية الرومان، ويا له من أثر. بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة، هي الفترة التي تخلى فيها الإنسان عن رغبته في اكتشاف الأفلاك
مرة أخرى، تحضر في هذا العمل الفني مشكلة تشويه التاريخ من أجل الفن، أو خلط الاثنين معا لصالح الفن، فنحن نعلم مثلا أن الضابط الذي عرض على مجلس الشيوخ أن يدخل بخمسة آلاف جندي ليقتحم روما لم يكن سوى يوليوس قيصر وليس ماركوس أكاسيوس كما في الفيلم.
دينزيل واشنطن– الذي سرق الفيلم– كان يجسّد شخصية ماكرينوس تاجر النخاسة الذي أصبح قريباً من الإمبراطور قرقلة وساعده في التخلص من غيتا لكي ينفرد بالسلطة. هنا خطأ تاريخي آخر، فالرواية التاريخية تقول إن ماكرينوس لم يُقتل على يد لوشيوس بطل الفيلم بل أصبح ماكرينوس الإمبراطور بعد قرقلة، وحكم لمدة سنة وشهرين (217–218). ولدهائه الشديد كان أول من يصبح إمبراطوراً دون عضوية سابقة في طبقة الشيوخ. وتقول الروايات إنه كان أمازيغيا أسمر ولد في شرشال بالجزائر، فلم يكن من الخطأ أن يتقمص دينزيل شخصيته.
هذه الحقبة التي يتحدث عنها الفيلم هي حقبة أفول أثر اليونانيين وبداية أثر إمبراطورية الرومان، ويا له من أثر. بالنسبة إلى تاريخ الفلسفة، هي الفترة التي تخلى فيها الإنسان عن رغبته في اكتشاف الأفلاك وقياس قطر الكواكب واستجلاء أسرار الطبيعة ورفع رايات العلم، كما كان يفعل اليونان، إلى مجرد الرغبة في الخلاص من الألم. إنه لا يطمح إلى السلام، هو فقط يرغب في أن يخفّ الوجع. إنه انحسار القلب الشجاع وحلول القلب الجبان.
في هذه الحقبة تراجعت معظم الفلسفات ولم يبق إلا الأبيقورية والرواقية التي أصبح فلاسفتها الرومان أقوى نفوذا وتأثيرا من فلاسفتها الإغريق. بقيتا لأنهما فلسفتا ألم، فلا علاقة لأبيقور باللذة. وعندما تجد أن أبيكتيتوس الرواقي يتحدث عن التخلي عما لا تستطيع التحكم فيه، فهو لا يقصد فقط تجاهل آراء وسلوكيات الآخرين، بل يقصد أيضا جسده، لأنه كان رقيقاً مستعبداً لا يملك جسده الذي قد تتمزق عليه السياط لأدنى سبب.
رغم نقاط الضعف، والقردة التي تبدو وكأنها قادمة من كوكب آخر، وتحويل الكوليسيوم إلى بحيرة صناعية تمتلئ بأسماك القرش، وأن فيلمه الجديد في الجملة يشبه الإنسان الذي يسير متكئا على كتف شخص آخر، فإن سكوت لم يفشل، بل تقدم بمتعة بصرية وتجربة روحية لا تنسى، وثمة لمسات بديعة للغاية، خصوصاً تلك المشاهد التي تحاول تصوير الموت والانتقال إلى عالم الغيب.