19 نوفمبر 1977... عندما ذهب السادات إلى "بيتهم"

بقي معزولا عربيا حتى اغتياله على يد أصوليين مصريين

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس أنور السادات يلقي كلمة أمام الكنيست الإسرائيلي في القدس في 20 نوفمبر 1977

19 نوفمبر 1977... عندما ذهب السادات إلى "بيتهم"

في 16 سبتمبر/أيلول 1977، وصل وزير خارجية إسرائيل موشي ديان إلى المغرب للقاء نائب رئيس الحكومة المصرية الفريق حسن التهامي، أحد المقربين من الرئيس أنور السادات. تسقط هذه الزيارة من الأدبيات التاريخية عادة ولكنها مهّدت الطريق وبشكل كبير جدا لزيارة السادات إلى القدس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام. كان السادات دائما في عجلة من أمره... في عجلة لخوض حرب أكتوبر سنة 1973، وفي عجلة للوصول إلى وقف إطلاق النار... في عجلة إلى فتح علاقة جيدة مع الأميركيين وإلى الانقلاب على حلفائه التاريخيين في الاتحاد السوفياتي. وفي مذكراته يقول إنه كان في عجلة أيضا للوصول إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل، منذ اللحظة الأولى لتنصيبه رئيسا لمصر في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1970. جاءه السفير الأميركي إليوت ريتشاردسون لتقديم واجب العزاء في الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فقال له السادات: "كل ما أريده هو السلام. أدعوكم للعمل من أجل السلام".

وفي أبريل/نيسان 1977 كان السادات قد توجه إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي الجديد جيمي كارتر، وقدم له مقترحا لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانسحاب إسرائيل من كل المناطق العربية المحتلة منذ سنة 1967. وفي شهر أغسطس/آب ذهب إلى بوخارست للقاء الرئيس نيكولاي تشاوشيسكو الذي كان قد أنهى لقاء مدته ثماني ساعات مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن. قال له الرئيس الروماني: "بيغن يريد التوصل إلى حل. دعني أقر لك أنه قطعا يريد السلام".

أ.ف.ب
السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن والرئيس الأميركي جيمي كارتر يوقعون اتفاقية السلام في البيت الأبيض، 17 سبتمبر 1978

بنى السادات على هذه العبارة وعرض أن تتم دعوته إلى القدس من رؤساء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن: جيمي كارتر من الولايات المتحدة، ليونيد بريجنيف من الاتحاد السوفياتي، الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، الزعيم الصيني هوا جيو فينغ، ورئيس وزراء بريطانيا جيمس كالاهان. فاقت فكرة السادات الطموحة قدرتها على التحقيق، ومع ذلك بذلت كل من رومانيا وإيران والمغرب والولايات المتحدة مجهودا كبيرا وقامت بنقل الرسائل بينه وبين الإسرائيليين، وصولا لتحديد موعد زيارته إلى القدس في 19 نوفمبر 1977. كان وزير الخارجية المصرية إسماعيل فهمي أول من علم بهذه الزيارة، وأول من استقال من منصبه اعتراضا عليها.

"إلى آخر مكان في العالم"

قبل الإعلان عن موعد الزيارة كان على السادات تهيئة الأجواء والرأي العام المصري والعربي، وفي 9 نوفمبر خطب في مجلس النواب وأعلن عن استعداده الذهاب "إلى بيتهم... إلى آخر مكان في العالم" من أجل السلام.

بدا الرئيس المصري مرتبكا على سلّم الطائرة، وهو يتبادل الابتسامات مع جمهور لم يتمكن من التعرف عليه بوضوح لأن الإسرائيليين فتحوا المصابيح الساطعة في وجهه، خوفا من كمين أو خدعة عسكرية

كان السادات خطيبا مفوها وبارعا في الاستعراض المسرحي، وقد أصر على حضور الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات تلك الجلسة، والذي وقف مذهولا ولم يصدق ما سمعه من الرئيس المصري. أحد الحاضرين في البرلمان يومها كان أمين عام جامعة الدول العربية السفير محمود رياض الذي كتب في مذكراته: "لقد بدت لنا العبارة ونحن نستمع إليها داخل قاعة مجلس الشعب مجرد نوع من المبالغة الكلامية وفي التحدي، ولم يدر في خلدنا مطلقا اعتبارها شيئا جادا". وقد علّق السادات على الجلسة بالقول: "كان رد الفعل مضحكا إذ تصور البعض أنها زلّة لسان ولم يعلموا أن وراءها تفكيرا طويلا عميقا. فما زال البعض يتصور كما هي العادة أن يقول السياسي كلاما لا يعنيه، وهذا لا يمكن أن أفعله".

رد فعل الأسد

بعد عودته إلى مكتبه تلقى السادات اتصالا من نظيره السوري حافظ الأسد الذي بدى غاضبا ومندهشا. سأله الأسد: "هل تعني حقا ما قلته في الخطاب؟ هل تريد الذهاب إلى إسرائيل؟". أجابه السادات بالتأكيد وتوجه إلى دمشق في 16-17 نوفمبر، ليقول: "إذا ثبت أن هذا سيكون آخر عمل أفعله فسوف أقوم به ثم أعود إلى مصر وأقدم استقالتي وأنا على قناعة تامة بالحاجة إلى هذه المبادرة". أجابه الأسد بأنه مقدم على خطأ تاريخي فادح، لأنه سيعطي شرعية للاحتلال ويشق الصف العربي وينهي حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. رد السادات: "فلنذهب معا" فأجابه الأسد بانفعال: "أنا؟ أبدا!". وهنا قال الرئيس المصري: "إذ فشلت فسوف أعترف بأني كنت مخطئا". استمر اجتماع دمشق العاصف أربع ساعات متواصلة وكان الأخير بين حافظ الأسد وأنور السادات.

السادات في القدس

في 19 نوفمبر 1977 انطلقت طائرة الرئيس المصري من قاعدة أبو صوير الجوية غرب مدينة الإسماعيلية وبعد أربعين دقيقة هبطت في مطار اللد (مطار بن غوريون) على بعد 15 كيلومترا من تل أبيب. بانتظاره كان أعضاء الحكومة الإسرائيلية كافة، يتقدمهم رئيس الوزراء مناحيم بيغن. تزامنت زيارة السادات إلى إسرائيل مع نفور ملايين الحجاج المسلمين من عرفات إلى مزدلفة، وعنونت جريدة "التايمز" البريطانية: "وداعا للتضامن العربي". وأعلنت سوريا يوم التاسع عشر من نوفمبر يوم حداد وطني في أرجاء البلاد كافة، حزنا على زيارة السادات.

غيتي
السادات فور وصوله مطار القدس في 19 نوفمبر 1977، وهو أول رئيس عربي يزور رسميا إسرائيل

بدا الرئيس المصري مرتبكا على سلّم الطائرة، وهو يتبادل الابتسامات مع جمهور لم يتمكن من التعرف عليه بوضوح لأن الإسرائيليين فتحوا المصابيح الساطعة في وجهه، خوفا من كمين أو خدعة عسكرية. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي موردخاي غور كان يعتقد أن زيارة الرئيس المصري فخ، وبدلا من السادات ستخرج من الطائرة فرقة من الكوماندوز المصريين ليطلقوا النار على أعضاء الحكومة الإسرائيلية. كتب السادات في مذكراته أنه وقف وجها لوجه مع رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير التي كان قد حاربها سنة 1973، والتي قطعت زيارتها إلى الولايات المتحدة لتكون في مقدمة مستقبليه. "ثم قابلت أبا إيبان وبعده آرئيل شارون وقلت له: إذا أتيت مرة أخرى إلى الضفة الغربية من القناة فسيكون السجن بانتظارك. فقال: أبدا... أنا حاليا وزير الزراعة". في الترجمة الإنجليزية لمذكرات السادات، ورد خطأ بأن شارون كان وزيرا للثقافة في حينها، ولكن الأصح أنه كان وزيرا للزراعة، كما جاء في النسخة العربية من كتاب "البحث عن الذات".

زيارة السادات إلى القدس كانت لها منعكسات جمة على الوطن العربي ومن آثارها المباشرة القضاء على الرجل ومقتله بعد أربع سنوات. ولكنها مهدت الطريق أمام اتفاقية كامب ديفيد

في المساء، جلس السادات مع بيغن لإجراء لقاء تلفزيوني مشترك وفي فمه الغليون. سأله المذيع الأميركي إن كان رئيس وزراء إسرائيل مرحبا به الآن في مصر، فقال السادات إنه سينظر في توجيه دعوة إليه، ليس لزيارة القاهرة بل سيناء التي كانت حتى ذلك التاريخ محتلة من قبل الإسرائيليين، وكأنه متأكد من أنها ستعود قريبا إلى مصر.

في المسجد الأقصى

قبل التوجه إلى الكنيست الإسرائيلي أراد السادات أن يصلّي في المسجد الأقصى في أول أيام عيد الأضحى. دعت إسرائيل عددا من رؤساء البلديات الفلسطينيين لاستقباله، ومنهم بسام الشكعة (نابلس)، وكريم خلف (رام الله)، وفهد القواسمي (الخليل). جميعهم رفضوا المشاركة، وكانت إسرائيل متخوفة من محاولة اغتيال بما أن حرم المسجد الأقصى قد شهد مقتل الملك عبد الله الأول ملك الأردن سنة 1951، على يد مواطن فلسطيني. ولكنها أدركت أيضا أن وقوف السادات وحيدا في المسجد سيكون ضربة كبيرة للزيارة ويعطي ذريعة إضافية لكل من عارضها من الفلسطينيين والعرب. فكرت إسرائيل بتدريب عناصرها على صلاة المسلمين، وزرعهم في محيط السادات أثناء الصلاة بالكوفية الفلسطينية للتمويه، ولكنها في النهاية سمحت لقرابة 1500 فلسطيني أن يشاركوا في صلاة العيد، تحت حراسة أمنية مشددة. وأثناء الصلاة، وصل للسادات خبر من مصر أنه قد أصبح جدا بعد ولادة حفيدته من ابنته، وعندما عاد إلى القاهرة قال: "في القدس قابلت فلسطينيين حقيقيين". كانت آخر زيارة له إلى المسجد الأقصى عندما كان وزيرا للدولة في عهد عبد الناصر في الخمسينات، وقد آلمه حالة التراجع فيه وكتب أن منبر صلاح الدين الأيوبي كان في حالة يرثى لها فأمر بترميمه على الفور.

أ.ف.ب
السادات يصلي في المسجد الأقصى في 20 نوفمبر 1977

زيارة السادات إلى القدس كانت لها منعكسات جمة على العالم العربي ومن آثارها المباشرة القضاء على الرجل ومقتله بعد أربع سنوات. ولكنها مهدت الطريق أمام اتفاقية كامب ديفيد بينه وبين مناحيم بيغن سنة 1978، التي وقعت في البيت الأبيض بحضور ورعاية الرئيس جيمي كارتر. كسرت الزيارة، ومن بعدها الاتفاقية، الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل، ومن نتائجها كان اتفاق السلام الفلسطيني الإسرائيلي سنة 1993 وسلام إسرائيل مع الملك حسين سنة 1994. معظم الدول العربية وصفت السادات بالخائن وطُردت مصر من جامعة الدول العربية، وبعد ثلاثة أسابيع من الزيارة شكلت "جبهة الصمود والتصدي" للوقوف في وجه الرئيس المصري وعزله عربيا، وكانت مؤلفة من "منظمة التحرير الفلسطينية" وسوريا والجزائر وليبيا واليمن الجنوبي، قبل أن ينضم إليهم العراق. وقد بقي السادات معزولا بالفعل في العالم العربي حتى اغتياله على يد أصوليين مصريين، في ذكرى حرب أكتوبر يوم 6 أكتوبر 1981.

font change

مقالات ذات صلة