خمسة عقود مرّت على معانقة أوبير حداد الكتابة، وما برح هذا الشاعر والروائي يحفر داخل الأدب ثلمه الخاص، مبديا في ذلك مهارات كتابية وسردية تفسّر موقعه الفريد والمتقدم داخل المشهد الأدبي الفرنكوفوني. فرنسي من أصول تونسية وجزائرية، وطن حداد هو الخيال. وإذ يلامس رأسه السحاب، فإن قدميه لا تفارقان أرض الواقع، كما تشهد لذلك جميع رواياته التي عالج فيها موضوعات مهمة ساخنة، لكن برقّة شعرية وإنسانية بصيرة تمنحان نصوصه مذاقها الخاص وكل قيمتها.
جديد هذا الكاتب رواية بعنوان "السمفونية الأطلسية"، صدرت حديثا في باريس عن دار "زولما"، ويتخذ فيها من الحرب العالمية الثانية خلفية لسرد قصة طفل ألماني، وليقارب من خلاله، بكلمات رقيقة صائبة تشكّل ميزة أسلوبه، موضوع الأطفال الذين يضحّى بهم منذ فجر التاريخ على مذبح الكراهية وعنف البشر.
اسم الطفل كليمنس، وقصته تبدأ في ثلاثينات القرن الماضي، في مدينة ريغنسبورغ، جنوب ألمانيا، حيث ولد لعائلة بورجوازية مثقفة، بملامح تجعله يبدو مثل جنّي صغير خرج توا من أسطورة ألمانية. لكن هذه الملامح ليست ميزته الوحيدة، فهو يتمتع أيضا بموهبة موسيقية مدهشة سينميها ويصقلها مع جارته، عازفة البيانو الشابة هاندا، التي تحتضنه وتلطّف عزلته الناتجة من كونه يعيش بمفرده مع أم مضطربة تغادر المنزل كل يوم ولا تعود إلا عند أفول الشمس.
انفصال
مع وصول النازيين إلى الحكم وتشديد قبضتهم على ألمانيا، تنقلب حياة كليمنس رأسا على عقب لأن أمه، القلقة على حياته ومستقبله، ستحرمه منها ومن هاندا، حين ترسله للعيش في دار قريب عجوز، محمّلة إياه كمتاع وحيد كمان جدّه الذي بات قادرا على استنطاق أوتاره. انفصال ضروري لكن مؤلم للغاية لأنه "حين تعوي الذئاب في الخارج، لا ملاذ أرقّ من صدر الأم"، ولأن هذه الأم لا تلبث أن ترمى في مصح، قبل أن تخضع لـ"القتل الرحيم" الذي مارسه النظام النازي على نطاق واسع على "المعوقين عقليا وجسديا" بحجة الحفاظ على نقاء العرق الآري وتفوقه.