"المنصة" في جزءيه... البشرية التي لم تتطوّر تُختبَر في وحشيتهاhttps://www.majalla.com/node/323125/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B5%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D8%B2%D8%A1%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%84%D9%85-%D8%AA%D8%AA%D8%B7%D9%88%D9%91%D8%B1-%D8%AA%D9%8F%D8%AE%D8%AA%D8%A8%D9%8E%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%AD%D8%B4%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%A7
يبدو الفيلم الإسباني "المنصة" The Platform من إنتاج شبكة "نتفليكس"، في جزءيه، الأول الصادر عام 2019، والثاني الصادر مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، محاولة لحكي قصّة البشرية مطروحةً منها الحضارة، وكأنه إعادة للزمن إلى الوراء، أو بمعنى أصح أسر للزمن وتجميده في حالة البربرية البدائية، وما يستتبعها من بحث دائم ويائس عن الطعام، والاستعداد المتواصل للتمرد، وإن قاد هذا التمرد إلى الموت الفوري.
ومع أن "الحفرة"، وهو الاسم الأصلي للفيلم الإسباني El hoyo من تأليف ديفيد ديزولا وبيدرو ريفيرو وإيغوتز مورينو، بالاشتراك مع المخرج غالدر غازتيلو أوروتيا، يُصنّف ضمن نوع الرعب والخيال العلمي، هي مكان للتأديب الذاتي، أو هي "المركز العمودي للإدارة الذاتية" كما تقول إيميوغري، إحدى الإداريات المؤمنات بعملها، يذهب إليه البعض لأغراض تطهُّرية، أي لعقاب الذات على أخطاء الحياة الطبيعية. أو قد يُرسِل إليه الأهل، أو تُرسِل إليه العدالة كبديل من السجن عقابا مجدّدا على الجرائم. مع كل ذلك، فإن المحصلة النهائية التي سنصل إليها مع نهاية كل فيلم تقريبا، ولا يزال في جعبة صُناع الفيلم أجزاء أخرى كما يُدلون في تصريحاتهم، هي أن البشرية لم تتحضّر قط كما تدّعي أو تتوهم، وأنها تحمل عوامل فنائها الخاص، وتستحضرها كلما سنحت الفرصة، وبغض النظر عن النتائج.
الالتهام والقتل، أكثر شهوات البشر حضورا هنا، وأفتكها كذلك تدميرا للذات وللآخرين.
مبادئ الحفرة
لمن لم يُشاهدوا الفيلم، فإن المنصة هي طاولة طعام في مكان أشبه بالبرج، تهبط عبر حفرة إلى 333 طابقا، في كل طابق يعيش شخصان، شريكا سكن. قبل احتجاز الفرد في البرج، إذ أنه لا يملك أن يغادر المكان متى شاء، وربما لم يحدث قط أن غادر أحدٌ هذه الحفرة؛ يُبلِّغ السجين إدارة الحفرة، بطبقه المفضّل، على أن يتناوله كل يوم من أيام المدة المزمع أن يمضيها في الحفرة.
تصوّر كابوسي وديستوبي، ما كان ليحلم به كافكا، الذي رأى في تحوّل بطله غريغور سامسا، إلى حشرة، أسوأ آثار الرأسمالية
هذا الإيحاء بالضيافة الفندقية الذي يتشكّل لدى الشخص في المقابلات الشخصية التي تُعقد له، وتُحدّد قبوله من عدمه في الدخول إلى الحفرة (أليست إشارة ساخرة الى نظام العمل الرأسمالي ومتاهاته القاتلة!)، يخالف القوانين الحقيقية التي تباغت المرء حين يستيقظ ذات يوم فزعا في طابقه، ليُخبره بها شريكه أو شريكته في السكن. منها مثلا أنه قد لا يجد طبقه المفضل ذاك، لأن غيره التهمه، أو أن نظام الإدارة العشوائي قد يحكم عليه بالسكن في أحد الطوابق السفلى التي لا يصل إليها أصلا أي طعام. علاوة على ذلك، فإن الحفرة لا تضمّ نوافذ، ولا يرى قاطنوها الشمس، ووفقا للنظام الغذائي غير السويّ والشحيح، فإن البشر يسهل تحويلهم، تحت ضغط الجوع والكراهية، إلى آكلي لحوم بشر، أو إلى قتلى أحياء أو "زومبي" بالمعنى الحديث. أي أن "الحفرة" تنطوي على عملية نزع تدريجي وحتمي للإنسانية.
تصوّر كابوسي وديستوبي، ما كان ليحلم به كافكا، الذي رأى في تحوّل بطله غريغور سامسا، إلى حشرة، أسوأ آثار الرأسمالية. ذلك أن العبرة في "الحفرة" ليست في تشبيه البشر بالحيوانات، بل في تشبيههم بأنفسهم.
بطلة الجزء الثاني تدعى بريبموان، وكانت قبل وصولها إلى الحفرة فنانة ثرية ومتحققة، أقدمت على إنجاز معرض فني يُبرز وحشية الحيوانات. لخدمة فكرتها، ابتكرت منحوتة لكلب شرس بأنياب حادة وحقيقية وتركتها من دون حواجز حماية، متسببة بذلك في قتل طفل صغير كان يلعب ببراءة إلى جوار التمثال. ستكتشف هنا في "الحفرة" أن وحشية البشر تتخطّى بكثير وحشية الحيوانات.
ومع هذه الصورة السوداوية التي تجعل حتى من شخص مصاب بمتلازمة داون، يفارق صورته النمطية كملاك، ويشي بزملائه طمعا في الاقتراب من السلطة، فإنه يبقى مع ذلك أشخاص يسعون للحفاظ على إنسانيتهم، وإنقاذ الآخرين، وإن ارتكبوا بعض الأخطاء بين آن وآخر، مثل شخصية غورينغ، بطل الجزء الأول، عاشق رواية "دون كيشوت"، الذي يرفض تناول لحم زملائه، ومثل بريمبوان، بطلة الجزء الثاني، التي جاءت إلى هنا بحثا عن الوقت كي تغفر لنفسها.
يتكرّس الجزء الثاني لمحاولة فحص هذه الفرضية: ماذا لو أجبرنا سكان الأدوار العليا على تطبيق الفكرة الشيوعية، داخل نظام سلطوي شمولي؟
الجزء الثاني... لماذا؟
على الرغم من أن الجزء الثاني من "المنصة"، تسبّب مثل "جوكر" في جزئه الثاني
Joker: folie à deux، بإحباط عند محبي الجزء الأول حال بدء عرضه، وطرح سؤالا لا مفر منه، عن سبب إنتاج جزء ثان من عمل ناجح يلتف حوله عشاقٌ، فإن الثاني يأتي مع ذلك تطورا طبيعيا ومنطقيا لفكرة الجزء الأول. صحيح أن ظهور بعض الشخصيات التي قضت في نهاية الجزء الأول، مجدّدا هنا في الثاني، يوحي بأن أحداث الثاني دارت قبل الأول، أي أن الجزء الثاني هو Prequel وليس Sequel للأول، فإن المنطق الفيلمي نفسه، يميل إلى أن الثاني يلي الأول وليس العكس. في "المنصة" الأول كان الكلام عن السلطة، عن عزلها للأفراد الواقعين في الحفرة، عن تشريسهم، إن جاز التعبير بحيث يلتهم بعضهم بعضا. وفقا لمنطق الحفرة، فإن هذه المنصة التي تهبط من الدور الأول، تكفي لإشباع سكان الخمسين طابقا الأوائل فقط، ليشحّ الطعام بعدها، ولا يكاد يصل إلى سكان الطوابق الثلاثمائة والثلاثين التي تحتوي عليها الحفرة. كنا في الجزء الأول مشدودين إلى محاولة فهم طريقة عمل المنصة، لأن سوء فهم القواعد يؤدّي في أغلب الأحيان إلى الخطأ القاتل. مثلا، إن احتفظ الفرد بثمرة تفاح بعد هبوط المنصة، فقد يتعرض لخطر الموت حرقا أو بردا، بما أنه مُراقَب دوما بعين السلطة الكلية الحضور. تركزت رحلتنا على محاولة إدراك قانون هذه الحفرة كما وضعته السلطة، وهي سلطة تكذب إذ تقول مثلا إن الحفرة تتكون من مائتي طابقا فقط، وإنه لا أطفال فيها.
بدت السلطة في الجزء الأول، غاشمة، باطشة، قاتلة بطبيعتها، حتى إن أي أسئلة عن منطقها في ما تفعل، هي بلا قيمة ولا جدوى.
انتهى الجزء الأول بحلم، حلم غورينغ بإقناع سكان الأدوار العليا بالاعتدال في استهلاك الطعام واحترام الحصص كي لا يموت الآخرون في الأدوار الدنيا. معتنقا هذا الحلم، ضحّى غورينغ بنفسه، لكن أيضا بالآخرين الذين لم يحترموا فكرته، وأصرّوا على وحشيتهم. ويتكرّس الجزء الثاني لمحاولة فحص هذه الفرضية: ماذا لو أجبرنا سكان الأدوار العليا على تطبيق الفكرة الشيوعية، داخل نظام سلطوي شمولي كافكاوي غير عاقل أصلا؟ بدأ الجزء الثاني من كلمة "القانون" التي تتخذ هنا طابعا دينيا مسيحيا، إذ تحوّل صاحب الفكرة، وقد يكون هو غورينغ نفسه، إلى "مايسترو" أو نوع من المسيح، الذي أكل في ساعات الجوع وأطعم الآخرين من لحمه، والذي وضع القوانين المقدسة الجديدة. أي أننا في الجزء الثاني، أمام معضلة النظام داخل النظام، والسلطة داخل السلطة، والهدف الظاهري إرساء العدل، مع أن النتيجة النهائية فوضى ومذابح وسُعار، وضحايا بلا عدد.
الجحيم التي يُنزلنا إليها "المنصة" في جزئه الثاني أقرب حالا الى مشاهد القتل وحرق البشر أحياء التي نراها كل يوم لضحايا بلا ذنب في فلسطين ولبنان
الفارق بين الفيلمين
من الناحية السينمائية، يتفوق "المنصة" الثاني على الأول في المشاهد العنيفة وطرائق القتل والتمثيل بالجثث وتبعثر الدماء في كل مكان، لكنه يتفوّق على الأول أيضا في لحظات الدفء الإنسانية العابرة التي يعيشها بعض المحتجزين مع زملاء طابقهم. مثلا، علاقة بريمبوان مع زميلها الأول المنبوذ من أهله زاميتن. كما تعود بريمبوان وتنحاز إلى خطة زميلتها الجديدة المقطوعة اليد، حين تقرّر الأخيرة التمرّد على قانون "داغين بابي"، مندوب المسيح المزعوم، وتخطط لتنفيذ محاولة انتحارية للخروج من الحفرة.
يتفوّق الثاني على الأول أيضا في متاهات السيناريو وألاعيبه العقلية، إذ تنزلق الأحداث بسرعة من مواجهة إلى مواجهة وبصورة عشوائية أحيانا، تُضيّع المُشاهد وتُشتته، مقارنة بوضوح أفكار الجزء الأول وانتظام إيقاعه.
أمّا حكاية موقع أحداث الجزء الثاني من الأول، فمع الاعتراف بظهور بعض الشخصيات التي ماتت في الأول، حيّة مجددا تؤدّي أدوارا حرجة في الثاني، فإن ظهور غورينغ في نهاية الثاني، بطريقة أقرب الى شبح يلاقي بريمبوان، تُحيل ربما، لا إلى أن الثاني يلي الأول، بل ربما إلى أننا أمام زمن دائري، يصطف فيه الأشباح بجوار الأحياء، ويتكرر فيه البشر المعذبون في حلقة سيزيفية جهنمية لا تنتهي.
إن الجحيم التي يُنزلنا إليها "المنصة" في جزئه الثاني أقرب حالا الى مشاهد القتل وحرق البشر أحياء التي نراها كل يوم لضحايا بلا ذنب في فلسطين ولبنان. هذا مع أن "الحفرة" يستقي معظم إحالاته من الثقافة الغربية، مثل "جحيم" دانتي، وتاريخيا بدايات المسيحية والثورة الفرنسية. بالطبع هناك أسئلة لم يرد عليها العمل حتى الآن، مثلا أين هي الحفرة، ومن الذي صنعها ولأي هدف صُنعت؟ لكن لعلّ نظرة في الواقع من حولنا، تجلب بعض الإجابات.