أغنية لعبور النهر مرتيْن

أغنية لعبور النهر مرتيْن

نيويورك، أكبر مدينة كوزموبوليتية، تغري الشعراء بالكتابة عنها. وقد تناولها شعراء عرب من وقت إلى آخَر، على أثر الزيارة الأولى لكل منهم. ربما لأنهم وجدوا في ما تمثله هذه المدينة موضوعا (عالميا)، يتيح لهم الكلام على مختلف المسائل والقضايا، العامة منها والخاصة.

في هذا الموضوع، يجد الشاعر العربي نفسه راغبا في الكلام على تجربته الشخصية حيال نيويورك: دهشة، إعجاب، خيبة، نقمة، تغرب، انسحاق... إلخ. كما يجد نفسه راغبا في الكلام على رؤيته إلى ما تمثله هذه المدينة من مظاهر (حضارية): تَلاق، صراع، تفاعل، تناحر، انبهار، نفور، استلاب، حماسة، نكوص... إلخ. هذا كله غالبا ما يدفع الشاعر العربي إلى التفكير في مآلات الحضارة الغربية التي تمثل نيويورك وجها من وجوه حضورها الصارخ.

"قبر من أجل نيويورك" هو عنوان قصيدة طويلة كتبها أدونيس لدى زيارته الأولى إلى نيويورك في أوائل السبعينات من القرن الماضي. وقد كتب الكثير عن هذه القصيدة. أما "أغنية لعبور النهر مرتين" فهو عنوان كتاب للشاعر السوداني محمد عبد الباري، يتضمن قصيدة كتبت ما بين يونيو/حزيران 2020 ومايو/أيار 2021. وقبل هذه القصيدة، كان له ديوان بعنوان "لم يعد أزرقا"، كتبه في نيويورك أيضا بين أغسطس/آب 2018 ونوفمبر/تشرين الثاني 2020. إذن، ما كتبه عبد الباري لم يكن على أثر زيارة عابرة أو قصيرة، بل خلال سنوات من الإقامة في نيويورك.

"أغنية لعبور النهر مرتين" قصيدة طويلة، أو بالأحرى هي قصائد في قصيدة. إنها تتألف من اثني عشر مقطعا، أو لنقُلْ من اثنتي عشرة قصيدة، تتناول المدينة (العالمية) من نواحٍ مختلفة، وفي فصول زمنية مختلفة، ومن منطلقات متعددة. إنها كتابة شعرية تبحث عن (معنىً) في نيويورك، تريد القبض على المدينة التي تبتلع سكانها. إنها محاولة المبحر لاستيعاب البحر، كما يقول عبد الباري نفسه :

... وأنيَ أوسع من عالمي

وقد يغرق البحر في المبحرِ

حيال نيويورك، كل سؤال يستدعي نقيضه. فإذا قلتَ: ما الغرب؟ فإنك تعني: ما الشرق؟ وإذا قلتَ: أي معنىً يتفتح في نيويورك؟ فأنت تعني أيضا: أي معنىً يندثر؟

الديوان هو قصائد في قصيدة، يحافظ الشاعر في بعضها على العمود، أي على نظام البيت والقافية، ويجعل بعضها الآخر موزونا على نظام التفعيلة. كأنما أراد الشاعر أن يكون متنوعا في كل شيء، من نواحي اللغة والوزن والموضوعات، وإن كانت نيويورك هي محور القصائد كلها، أو الديوان كله. كأني بالشاعر قد سعى إلى تنوع يتناسب مع تنوع المدينة التي شاءها موضوعا له. لقد أظهر محمد عبد الباري في هذا الديوان تمكنا وتفننا ورهافة وقدرة على جعل الكتابة الشعرية ذات سياق أو نظام. في نسيج هذه الكتابة يتداخل الوطن والمنفى، ويتداخل الشرق والغرب، ويتداخل البعيد والقريب، وتتداخل السهولة العذبة والرؤى العميقة :

لي حكمتي أن المياه بعيدة

أن القريب من المياه سرابُ

لي في يدي وطن وأعرف أنه

وطن وبالمنفى البعيد مصابُ

فهي البلاد هوىً وهاوية

وهو الرحيل عذوبة وعذابُ

حيال نيويورك، تختلط المشاعر والمواقف والرؤى التي تنتاب الشاعر، فتدفعه إلى إجراء ما يشبه المسح الشامل. ليس في ما يتعلق بالمدينة فقط، وإنما في ما يتعلق به هو، بذاته الفردية وكذلك بالذات الجماعية التي جاء منها أو نُسب إليها. وأكثر من ذلك، يجد نفسه مدفوعا إلى مراجعة ذاته ماضيا وحاضرا، وإلى النظر في علاقتها بالآخر ماضيا وحاضرا. كأنه يجد نفسه، حيال نيويورك، متأملا في مصيره وفي مصير العالم. وحيال نيويورك، كل سؤال يستدعي نقيضه. فإذا قلتَ: ما الغرب؟ فإنك تعني: ما الشرق؟ وإذا قلتَ: أي معنىً يتفتح في نيويورك؟ فأنت تعني أيضا: أي معنىً يندثر؟ وإذا قلتَ: ما المنفى؟ فأنت تعني: ما الوطن؟... وهكذا إلى ما لا نهاية.

أجرى محمد عبد الباري حواره مع المدينة، وجال جولته فيها، وفي ما يتصل به وبها من بعيد أو قريب. محاورا في الوقت نفسه لغته التي جعلها تندمج بالموضوع بكل سلاسة: "أنا في المدينة/ يركض الطاعون في الأجواء/ ترتطم الضحايا بالضحايا/ تعلق الأرواح في هلع بدائي/ وتهبط من أعالي الخوف أقنعة على كل الوجوه/ يغادر البرق الشوارع للبيوت/ وتسقط البورصات في المجهول/ ترتد القطارات البعيدة للمحطات البعيدة/ تمّحي في الليل أضواء الكنائس والشموع/ ويمّحي صمت الطمأنينات ما بين الضلوع/ وتخفت الأشياء في الأشياء...

font change