الإيجارات القديمة في مصر... جدال العدالة وتنمية الاقتصاد

حكم تاريخي للمحكمة الدستورية لإصلاح العلاقة بين المالك والمستأجر

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
منطقة عين الصيرة في وسط القاهرة، 28 أبريل 2023.

الإيجارات القديمة في مصر... جدال العدالة وتنمية الاقتصاد

شكّل حكم المحكمة الدستورية المصرية، الذي ألزم مجلس النواب التدخل "لإحداث التوازن في العلاقة الإيجارية" بين المالك والمستأجر، حالة من الرضا والإنصاف وأثلج صدور الملايين من مالكي العقارات القديمة، الذين ظلوا لعقود يشعرون بضياع حقوقهم تحت مظلة "قانون الإيجار القديم". واعتبر كثيرون هذا الحكم تحريكاً للمياه الراكدة، إذ منح القانون المستأجر حق المكوث في الوحدة المؤجرة وتوريثها لأبنائه في مقابل جنيهات قليلة، بينما قد يعاني المالك من عدم وجود مسكن له أو لأبنائه، بسبب عدم امتلاكه الحق في إخراج المستأجر أو ورثته من العقار.

وجاء هذا الحكم بعد مطالبات وشكاوى متكررة من المالكين حول تدني القيم الإيجارية الشهرية التي لا تتجاوز 15 جنيهاً (30 سنتاً). بل تصل في بعض الأحياء، التي كانت يوماً ما مساكن لعلية القوم والباشوات، مثل ضاحيتي غاردن سيتي والزمالك، بالإضافة إلى مصر الجديدة والكربة، إلى ما بين جنيهين و10 جنيهات فقط. وقد جرى إبرام عقود تلك الوحدات في خمسينات القرن الماضي وستيناته، مما يثبت أحقيتها في الإيجار لمدة 59 عاماً قابلة للتجديد والتوريث إلى الأبد بالقيمة نفسها.

اعتبر حكم المحكمة الدستورية ثبات القيمة التأجيرية مع مرور العقود بمثابة انتهاك للعدل وإهدار لحق الملكية، مما يمهد الطريق لإعادة النظر في هذا الملف المعقد

وعلى الرغم من مرور أكثر من 60 إلى 70 سنة على إبرام تلك العقود، ظلت الحكومات المتعاقبة تتجنب الاقتراب من هذا الملف الشائك، الذي ظل حبيس الأدراج خوفاً من التبعات الاجتماعية والاقتصادية. إلا أن حكم المحكمة الدستورية الأخير، الذي قضى ببطلان مادتين في قانون "الإيجار القديم" المتعلقتين بثبات الأجرة السنوية للأماكن السكنية، اعتبر ثبات القيمة التأجيرية مع مرور العقود بمثابة انتهاك للعدل وإهدار لحق الملكية، مما يمهد الطريق لإعادة النظر في هذا الملف المعقد.

غضب المستأجرين

تعارض المصالح بين المالكين والمستأجرين دائماً ما تترتب عليه آثار اقتصادية واجتماعية، خصوصا على المديين القصير والمتوسط، تمتد لتشمل الدولة ومؤشراتها الاقتصادية كافة. وقد أثار حكم المحكمة الدستورية حالة من الغضب بين المستأجرين، نتيجة لعدم وضوح الرؤية في شأن ما ينتظرهم من زيادات محتملة في القيمة التأجيرية، واحتمال فقدان البعض لمساكنهم التي يشغلونها منذ عقود طويلة.

Shutterstock
أبراج القاهرة ومبانيها المطلة على نهر النيل.

وفي ظل حالة الجدال التي أثارها الحكم، تزايدت المخاوف والاتهامات المتبادلة، حيث أبدى المستأجرون اعتراضهم على التعديلات عبر منصات التواصل الاجتماعي، ورفعوا شعارات مثل "نرفض تعديل القانون"، "العقد شريعة المتعاقدين"، و"لا لتشريد الملايين في الشوارع". مع ذلك، يرى كثيرون أن الأمر ليس بالسوء المتوقع، حيث يعمل البرلمان بجد للوصول إلى حلول عادلة تحقق الإنصاف للمالكين، وتضمن في الوقت ذاته حماية المستأجرين.

تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر 

ومن الواضح وجود ضرورة ملحّة لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر بما يحقق العدالة للطرفين، مع الأخذ في الاعتبار تأثير التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، وهو ما يطالب به المالكون الذين يسعون للحصول على مبالغ مالية عادلة عبر زيادات في القيمة التأجيرية. واعتبر بعض الخبراء القانونيين أن قرار المحكمة الدستورية العليا يشكل خطوة نحو تحول نظام العلاقة بين المالك والمستأجر إلى علاقة مرنة تحقق العدالة في القيم التأجيرية بما يتماشى مع السوق.

هناك نحو مليوني وحدة سكنية شاغرة، تقدر قيمتها بـ 20 مليار دولار، مغلقة بسبب القيود التي يفرضها القانون الحالي

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي

وكانت المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى سلطة مختصة بمراقبة تطابق القوانين مع الدستور، قد أصدرت حكماً تاريخياً ببطلان الفقرة الأولى من المادتين (1 و2) من القانون رقم 136 لسنة 1981، ويتعلق بثبات الأجرة السنوية للأماكن المخصصة للسكن من دون مراعاة التغيرات الاقتصادية مثل التضخم وارتفاع الأسعار. ومن المقرر أن يدخل الحكم حيز التنفيذ في اليوم التالي لانتهاء دور الانعقاد التشريعي العادي الحالي لمجلس النواب في يونيو / حزيران المقبل.

الحكم التاريخي من القضاء الى البرلمان

وعقب صدور الحكم، أصدر البرلمان بياناً أكد فيه التزامه مناقشة القوانين الاستثنائية المتعلقة بإيجار الأماكن، بالإضافة إلى التعديلات التشريعية المطلوبة لتنفيذ حكم المحكمة الدستورية. وأكد أن البرلمان يسعى الى تحقيق التوازن والعدالة، مع حماية مصالح جميع الأطراف من دون تغليب مصلحة طرف على حساب الآخر.  

يُذكَر أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعا في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى إعداد قانون متكامل للإيجار القديم، وأشار إلى أن هناك نحو مليوني وحدة سكنية شاغرة، تُقدَّر قيمتها بتريليون جنيه (20,22 مليار دولار)، مغلقة بسبب القيود التي يفرضها القانون الحالي.

إجتهادات وآراء قانونية

وكانت المحكمة الدستورية قد أصدرت عام 2002 حكماً بعدم دستورية الفقرة الثالثة من المادة 29 من القانون رقم 49 لسنة 1977، إذ لم تتضمن ما يشير إلى انتهاء عقد الإيجار الذي يلتزم المؤجر إبرامه لمن لهم الحق في شغل العقار بانتهاء إقامة آخرهم، سواء بالوفاة أو الترك. وعام 2011، فسرت المحكمة الدستورية هذا الحكم بأنه يكون لمرة واحدة فقط، بحيث يقتصر الامتداد على الأبناء، والزوجات، والوالدين بشرط الإقامة المستقرة لمدة سنة على الأقل قبل وفاة المستأجر الأصلي. ويُطبق هذا الحكم فقط على الأماكن المعدة للسكن من دون أن يشمل الوحدات التجارية أو المهنية.

تدخل الدولة في تحديد الإيجار واستمرار العلاقة الإيجارية يعكس أساليب تدخل اشتراكية لم تعد تتماشى مع الاقتصاد الحر والإصلاحات الهيكلية التي تشهدها مصر

وليد جاب الله، خبير اقتصادي

اعتبر الخبير القانوني والمحامي بالنقض أسامة ضيف الحكم الصادر بعدم دستورية تثبيت القيمة الإيجارية للأماكن السكنية المؤجرة "تحولاً تاريخياً في العلاقة بين المؤجر والمستأجر". وأوضح لـ"المجلة" أن هذا الحكم "يُعَد خطوة نحو تحقيق العدالة للطرفين، وفرصة لتصحيح مسار العلاقة الإيجارية بما يتماشى مع الواقع الاقتصادي الحالي". وأكد أن الكرة الآن في ملعب المجلس التشريعي لإكمال هذه الخطوة بإصدار قانون يحدد القيمة التأجيرية التي سيبدأ العمل بها، إلى جانب وضع آلية للزيادات السنوية لكل وحدة.

وأشاد الخبير الاقتصادي الدكتور وليد جاب الله، في حديث لـ"المجلة"، بالحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا، معتبراً إياه "حكماً تاريخياً يرسخ مبدأً جديداً في قانون الإيجارات، وهو عدم جواز تثبيت الأجرة إلى الأبد". وأكد ضرورة وجود آلية لزيادة الأجرة في القوانين الاستثنائية، التي تُعرَف بقوانين الإيجارات القديمة. وأوضح أن القوانين الاستثنائية تقتضي تدخل الدولة لتحديد الإيجارات، "لكن ذلك يجب أن يكون مصحوباً بمراجعات دورية تتماشى مع نسب التضخم، حتى لا تتآكل القيمة الإيجارية". وأضاف أن الأجرة الزهيدة، أو "البخسة" كما وصفها، "تُعد سبباً من أسباب إبطال عقود الإيجار القديمة".

رويترز
منطقة كانت تحتوي على مقابر تاريخية ردمت بسبب أعمال بناء مشروع في القاهرة، 13 يونيو 2023

ولفت جاب الله إلى أن الأهم في حكم المحكمة الدستورية هو تحديد موعد نهائي، بانتهاء الدور التشريعي الحالي لمجلس النواب، لإصدار التشريع الجديد. واعتبر أن هذا الموعد يدفع البرلمان إلى تحمل مسؤولياته في معالجة هذه القضية المهمة، مؤكداً أن المقترح التشريعي الجديد لا يستهدف الإضرار بالمستأجرين، وإنما يسعى الى خلق توازن في العلاقة بين المؤجر والمستأجر. كذلك أوضح أن التوازن الحقيقي يتطلب زيادة الإيجار إلى جانب توسيع حالات إنهاء التعاقد، خصوصاً في حالات الوحدات السكنية المغلقة، أو من يمتلك أكثر من مسكن، أو من استفاد بمزايا من الدولة.

اتهامات إعلامية متبادلة 

وأضاف جاب الله أن الاقتصاد المصري يعتمد حالياً على آليات الاقتصاد الحر في كل القطاعات، "في حين أن تدخل الدولة في تحديد الإيجار واستمرار العلاقة الإيجارية يعكس أساليب تدخل اشتراكية لم تعد تتماشى مع الإصلاحات الهيكلية التي تشهدها مصر". وأشار إلى أن الإيجار القديم لغير الأغراض السكنية "يمثل تشوهاً في السوق، حيث أن هناك مشاريع تستفيد من عدم دفع إيجار، مما يؤدي إلى منافسة غير عادلة بينها وبين الشباب الذين يمارسون النشاطات نفسها". واعتبر أن توحيد الإيجار وفق آليات الاقتصاد الحر وتحويل نظام الإيجار القديم إلى إيجار حر خلال فترة انتقالية أمر ضروري لإزالة التشوهات التي يواجهها الاقتصاد في هذا الملف، مع ضمان وجود آليات للحماية الاجتماعية لغير القادرين على تسديد هذا الإيجار من خلال المزايا الحكومية وغيرها من إجراءات المساندة.

الوحدات المغلقة ستعود إلى المالكين في حال ارتفاع الأسعار، ما يزيد عرض الوحدات السكنية المتاحة ويساهم في سد فجوة الإسكان القائمة، ما سيزيد القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي ويعزز الاقتصاد

محمد عبد العال، خبير اقتصادي

شهدت الساحة الإعلامية والتواصل الاجتماعي تراشقاً حول الزيادات الإيجارية المزمعة، مع تبادل الاتهامات بين الأطراف. يستند المستأجرون إلى القاعدة القانونية، "العقد شريعة المتعاقدين"، بينما يتهم البعض منهم المالكين بالتقاعس عن ترميم العقارات المتهالكة، في انتظار انهيارها وإقامة أبراج بديلة. وينتظر الجميع التشريع المزمع إقراره من البرلمان لحسم هذا الجدال، وتعديل القيمة التأجيرية بشكل متوازن ومن دون إجحاف أو مغالاة.

آثار اقتصادية واجتماعية حالية ومتوقعة

من جانبه، أشار الخبير الاقتصادي محمد عبد العال إلى أن تعارض المصالح بين المالكين والمستأجرين يحمل آثاراً اقتصادية واجتماعية. وأوضح في حديثه لـ"المجلة" أن التأثير سيظهر أولاً من خلال تغير في سلوك المستهلك، "حيث سيكون المستأجر المتضرر مضطراً إلى خفض إنفاقه أو تقليل معدل ادخاره واستثماراته لتعويض النقص الناتج من زيادة الأعباء الإيجارية. وفي المقابل، سيستفيد المالك من زيادة دخله، مما يرفع إنفاقه ويخلق توازناً في العرض والطلب على السلع والخدمات، ويساهم في الحفاظ على استقرار المنظومة الإنتاجية".

واستناداً إلى تعداد 2017 الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أشار عبد العال إلى وجود مليون وثمانمائة ألف وحدة سكنية تخضع لقانون الإيجار القديم، منها أربعمائة ألف وحدة مغلقة، في حين يشغل المستأجرون نحو مليون وأربعمائة ألف وحدة. واعتبر أن الوحدات المغلقة ستعود إلى المالكين في حال ارتفاع الأسعار، "مما يزيد عرض الوحدات السكنية المتاحة ويساهم في سد فجوة الإسكان القائمة". وأضاف أن هذه التحولات "ستزيد القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي، مما يعزز تأثير الحكم إيجابياً على الاقتصاد".

غيتي
معالم مدينة القاهرة القديمة.

وتوقع عبد العال أن يؤدي تحرير أسعار إيجارات المساكن "بلا شك" إلى تحفيز الاستثمار في قطاع العقار والبناء، سواء من قبل القطاع الخاص أو المطورين العقاريين، "مما يزيد عرض الوحدات السكنية ويساهم في خفض أسعارها". وأوضح أن هذا التطور يمكن أن يساعد في خفض معدلات التضخم المرتفعة، التي بلغت 26,5 في المئة الشهر الماضي.

هذه التحولات تنشط الصناعات المكملة مثل مستلزمات البناء والمواد الخام، كما تؤدي إلى ارتفاع إيرادات الدولة من الضرائب العقارية المتنوعة، مما يساعد في خفض عجز الموازنة

محمد عبد العال، خبير اقتصادي

وأشار إلى أن النشاط العقاري "يرتبط بأكثر من عشرين نشاطاً مشتقاً، مما يعزز عجلة الإنتاج، ويزيد فرص التشغيل، ويرفع مستويات الدخول الحقيقية للمواطنين، فمع ازدهار النشاط العقاري، يزداد الطلب على أنشطة التمويل العقاري من المصارف وشركات التمويل العقاري غير المصرفية. إلى جانب زيادة الاستثمار المباشر في مختلف المجالات العقارية السكنية والصناعية والسياحية".

وأكد أن هذه التحولات تُنشّط الصناعات المكملة مثل مستلزمات البناء والمواد الخام الداخلة في المقاولات، كما تؤدي إلى ارتفاع إيرادات الدولة من الضرائب العقارية المتنوعة، "مما يساعد في خفض عجز الموازنة". وأشار إلى أن هذا التحسن في الإيرادات "يعزز قدرة الدولة على مواجهة التحديات الاجتماعية المحتملة، خصوصا تلك التي قد تتطلب تدخلها لتوفير مظلات حماية للمستأجرين من محدودي الدخل".

font change

مقالات ذات صلة