قمة الرياض... والعالم متعدد الأقطاب

ما جرى في القمة العربية- الإسلامية قد يصبح نقطة تحول تاريخية

باري فالس
باري فالس
المفكر والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين

قمة الرياض... والعالم متعدد الأقطاب

في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عقدت في الرياض قمة عربية- إسلامية مخصصة للقضية الفلسطينية. ومن اللافت مشاركة خصمين لدودين معا في هذه القمة، وهما الرئيسان السوري بشار الأسد، والتركي رجب طيب أردوغان. كان لقاء كهذا يعد حتى وقت ليس بالبعيد أمرا مستحيلا. كما شارك في القمة النائب الأول للرئيس الإيراني، محمد رضا عارف الذي التقى بعد القمة، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وكان الأمير محمد بن سلمان قد قال في افتتاح القمة: "إنه على المجتمع الدولي أن يوقف على الفور الإجراءات الإسرائيلية ضد إخواننا في فلسطين ولبنان"، وأدان الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة باعتبارها "إبادة جماعية". كما قال: "إنه على المجتمع الدولي أن يُلزم إسرائيل باحترام سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانيةالشقيقة، وعدم الاعتداء على أراضيها". وفي ختام القمة، صدر بيان ختامي باسم جميع الدول المشاركة.

بعد فوز ترمب

من المعروف أن الرئيس المنتخب دونالد ترمب من أشد الداعمين لليمين في إسرائيل، فهو يدعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بقوة، وخلال ولايته الرئاسية الأولى، اعترف بصورة فردية بالقدس (والتي يعدها الكثير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أرضا محتلة) عاصمة لإسرائيل، وعلى الأرجح فإن ترمب يعتزم دعم متطرفين في حكومة نتنياهو، مثل الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وبن غفير، وزعيمهما الروحي دوف ليئور، فكل هؤلاء يصرحون علنا بأن على إسرائيل التعجيل بالسيطرة على المسجد الأقصى، وإلغاء الفلسطينيين، وحتى احتلال سوريا بما في ذلك دمشق لإقامة إسرائيل الكبرى من البحر إلى البحر.

وفي أعقاب انتخاب ترمب، صرح سموتريتش بأن الوقت قد حان للمضي قدما في "إبادة الفلسطينيين" في الضفة الغربية لنهر الأردن أيضا، وبالطبع إلى جانب ذلك تفجير المسجد الأقصى. ومهما حاول الزعيم الفلسطيني في الضفة الغربية والخصم السياسي اللدود لـ"حماس"، محمود عباس الاحتفاظ بموقف معتدل حتى وهو يشاهد الإبادة الجماعية لشعبه في غزة، فإنه لن يكون في منأى عن الإرادة الحديدية لليمين الإسرائيلي في محاولة الوصول إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.

لقد قام ترمب بتسريع هذه الإجراءات. وفي الوقت الحالي جرد أنصار الموقف المعتدل في العلاقات مع الغرب من الحجج. فإسرائيل عازمة على إبادة أو ترحيل الفلسطينيين من إسرائيل، وهدم المسجد الأقصى والمباشرة ببناء الهيكل الثالث، وهذا برأيهم يمهد الطريق لظهور المشيح (المسياه) المنتظر عند اليهود. ويدعو الكاتب الصهيوني اليميني يتسحاق شابيرا في كتابه "توارة الملك" والذي نشر في 2009 وأقره الحاخام دوف ليئور، أحد منظري المسيحية اليهودية، بصورة مباشرة إلى التصفية الجسدية لكل "أعداء إسرائيل" بمن فيهم النساء والأطفال وكبار السن. وهذا هو بالضبط ما يقوم به الإسرائيليون في غزة ويستهدفون اليوم السلطة الفلسطينية (والتي تعترف بها الأمم المتحدة كدولة مستقلة) في الضفة الغربية لنهر الأردن. وعليه، فإن كانت الأمم المتحدة ضد ما يحدث، فإن الأمم المتحدة هي "عدو إسرائيل" أيضا كما يخلص إليه المتطرفون الإسرائيليون والذين يصرحون بأن رئيس هذه المنظمة أنتونيو غوتيريش "شخص غير مرغوب فيه".

رمزية اجتماع الرياض

دفعت كل هذه العوامل قادة العالم الإسلامي إلى تجاوز خلافاتهم الداخلية والاجتماع في الرياض، وقد دعا أردوغان إلى مقاطعة إسرائيل، وطالبت السعودية بالاعتراف بفلسطين، وتوحيد كل البلدان الإسلامية لصد العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ولبنان وإيران. وفي الوقت ذاته، فإن إسرائيل تهاجم سوريا، ولذا فقد كان لحضور الأسد وكلمته القاسية المناهضة للغرب رمزيته الكبيرة.

شكلت المشاريع القائمة على الإسلام الصرف صيغا ذات عمق فكري، حيث دعا المنظرون الإسلاميون شعوب الأمة إلى التخلي عن الأعراف الوطنية والوحدة على أساس الشريعة فقط


بدأ القطب الإسلامي في عالم متعدد الأقطاب في اتخاذ تعبير واضح، فربما يفضل زعماء العالم الإسلامي الاستمرار في تجنب الاندماج، وإبرام صفقات مع الغرب. وليس لدى الشعوب الإسلامية التي تشاهد في كل لحظة الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وتترقب بخوف تدمير مقدساتها الدينية نية التساهل مع ما يحدث لفترة طويلة.

القطب الإسلامي في سياق متعدد الأقطاب

من منظور تاريخي، قد تصبح هذه القمة العربية- الإسلامية الطارئة، المعلم الأهم نحو التكامل الإسلامي، فالمسألة هنا أن بناء عالم متعدد الأقطاب، ليس شعارا لحظيا، وإنما التوجه الأكثر أهمية في السياسة العالمية، فمن الواضح أن الغرب ككل والولايات المتحدة قد فشلا في لعب دور زعيم العالم هذا، وعلى الرغم من وصول المحافظ ترمب المعادي للعولمة إلى السلطة في واشنطن، فمن غير المرجح أن تكون أميركا قادرة على الحفاظ على هيمنتها على المدى البعيد، بل حتى على المدى القريب. قد يتمكن ترمب من تقوية الولايات المتحدة داخليا وحل الكثير من القضايا المحلية، فليس من المستبعد أن يفي بوعوده ويجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، إلا أن هذا يتعلق بأميركا نفسها فقط، ومن الواضح أن بقية دول العالم ستمضي في مسارها الخاص حيث ستعمل على تعزيز حضاراتها بشتى الطرق الممكنة، واستعادة سيادتهاالتامة ومتعددة المستويات.

بعد الاتفاق على وضع أحد الجوانب الإنسانية، يمكن للغرب أن ينسجم مع تعددية الأقطاب وعلى أسس جديرة تماما، إلا أن الغرب لن يعود أبدا السلطة الوحيدة والعليا في صنع القرارات العالمية، وتقرير القواعد والأسس العالمية. وعليه، فإن تعددية الأقطاب أمر لا مناص منه، ولا بديل عنه.

وأس
الزعماء المشاركون في القمة العربية – الاسلامية التي عقدت في الرياض في 11 نوفمبر 2024

فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للعالم الإسلامي؟ الحاجة إلى التكامل، وإقامة هيكل يتخطى الحدود الوطنية بوسعه توحيد الإمكانات الهائلة للأمة الإسلامية، وبالتالي تكوين قطب متكامل، فلا يوجد اليوم دولة إسلامية قادرة وحدها على لعب دور قطب الحضارة الإسلامية، أو يمكن اعتبارها بؤرة التكامل، هناك دول مستقلة تماما كالمملكة العربية السعودية وتركيا وإيران وإندونيسيا وباكستان النووية ومصر وغيرها، إلا أنه لا يمكن لأي منها أن تتولى مهمة توحيد الجميع. ولذلك، فإن هناك حاجة إلى مشروع جديد تماما لتوحيد العالم الإسلامي. والتوحيد ذاته، في مقاربته الأولى، قد أصبح وشيكا، بما في ذلك في مواجهة العدوانية الإسرائيلية. وهذا ما نراه في القمة العربية-الإسلامية في الرياض. فقد تم كسر الجليد، ولكن ما هي الغاية من ذلك؟

ما الأيديولوجيا؟

لقد طرحت مسألة ما الأيديولوجيا؟ أو ما النموذج الذي من الممكن تبنيه كأساس للتكامل الإسلامي؟ قبل وقت طويل، حتى في المرحلة الأولى من الكفاح المناهض للاستعمار ضد الغرب، فقد بدأ الباحثون الإسلاميون باقتراح صيغ متباينة لهذه الوحدة. لا نبحث في الوقت الحالي في الصيغ السياسية الغربية- كالليبرالية والاشتراكية والقومية، والتي لا يمكن لأسباب واضحة أن تشكل أساسا عقائديا للتكامل الإسلامي. وتمثل الاستثناء في هذا المقام في البعثية القائمة على القومية العربية ذات السمات الاشتراكية، إلا أن منظريها كانوا إما من العلمانيين (زكي الأرسوزي وعبد الرحمن بيطار من "البعث" في سوريا) أو حتى من المسيحيين (كميشيل عفلق في سوريا)، ولم يكن للإسلام دور مركزي في ذلك. وقد شكلت المشاريع القائمة على الإسلام الصرف صيغا ذات عمق فكري أكبر، حيث دعا المنظرون الإسلاميون في هذا المقام شعوب الأمة إلى التخلي عن الأعراف الوطنية، وبناء الوحدة على أساس الشريعة فقط. وفي معظم الأحيان، فقد شكلت أول خلافتين الأساس والنموذج في هذه الحالات- العربية، والتي أسسها الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ضمن حدود شبه الجزيرة العربية. والخلافة الأموية، التي كان مركزها في دمشق، أنشئت سنة 661 ميلادية تحت حكم معاوية، أول خليفة أموي.

نموذج ساطع

يتجلى النموذج الآخر بوضوح في الوهابية، التي ظهرت في المملكة العربية السعودية. وفيها يتم استبعاد جميع المذاهب الشرعية الإسلامية التي تطورت في مرحلة متأخرة جدا، وأي أعراف محلية. وبالإضافة إلى ذلك يتم استبعاد كل تقاليد تفسير القرآن والسنة. ينتج لنا عن ذلك صورة واضحة تماما للدين تقتصر على ممارسة الطقوس والفهم الحرفي للنصوص. وفي الوقت ذاته، ونظرا لوضوحها، فيمكن لأي شخص الوصول إليها بسهولة.

وضع الرئيس أردوغان الدعوة إلى "الخلافة الرابعة" (الأخيرة) في جوهر سياسته. يجمع هذا المشروع الإسلاموية (بالمفهوم السلفي) والقومية التركية، رغم أن أردوغان نفسه ينتمي إلى الطريقة الصوفية النقشبندية

هنالك تيار في الإسلام وهو السلفية، هذا التيار لا يتخذ من شكل الخلافة الأولى بل من الخلافة الثانية نموذجا له. كانت هذه الخلافة دولة متكاملة في حين قامت الخلافة الأولى على كاريزما الزعيم الديني ومثلت مجتمعا مسلحا (جيشا وفق روح العادات العربية أيضا) من المؤمنين. ظهرت السلفية كعقيدة في القرنين الثامن والتاسع. لجأ دعاة الكفاح ضد الاستعمار في العالم الإسلامي إلى السلفية، الأمر الذي دفع إلى الواجهة فكرة دولة إسلامية عالمية واحدة. وهنا أيضا تم نبذ التقاليد المحلية بصورة حادة، إلا أن موقفها كان أكثر مرونة بكثير تجاه المذاهب الشرعية، وحتى بعض صور الإسلام الداخلية كالصوفية (والتي ينبذها الوهابيون بصورة قاطعة).

وعليه، تم تأسيس حركة "الإخوان المسلمين" السلفية على يد حسن البنا، وأسس الشيخ أحمد ياسين "حماس" كأحد فروع "الإخوان المسلمين". وأصرت السلفية على التفسير المبسط والحرفي للقرآن وعلى نبذ التقاليد المحلية. على أن التركيز الأساسي انصب بصورة محددة على إقامة "دولة إسلامية" دون أي فروق على أساس الإثنية أو المنشأ أو الجنس، إلخ. ورغم ذلك فقد أبدى عدد من الطرق الصوفية تأييده لهذه الأفكار السلفية. وفي بعض المراحل انجذب كل من الرئيس أردوغان إلى السلفية، في حين تمثل حركة "طالبان" الأفغانية اليوم هذا التيار في نسخة آسيا الوسطى منه. كما أن هذا التيار رائج بقوة في باكستان، وكذلك في إندونيسيا وماليزيا. وتستند غالبية المجموعات المتطرفة إلى الآراء السلفية.

على أنه، حتى في حالة السلفيين الذين يتخذون من الخلافة الأموية قدوة لهم، لم تلق قضية الاندماج الإسلامي رواجا حيث رفضت غالبية الأمة تطرفهم ورفضهم الشديد للخصائص الإقليمية وأساليبهم الإرهابية. حاول السلفيون لعب دور قيادي في "الربيع العربي"، إلا أنهم أسهموا في الحروب الأهلية والاضطرابات في كل من تونس وليبيا ومصر والعراق وسوريا. ونتيجة لذلك، فهم لم يتصارعوا فيما بينهم فحسب، بل إنهم فقدوا مصداقيتهم في وجهة نظر بقية المسلمين أيضا.

رويترز
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

المشروع العثماني

وضع الرئيس طيب أردوغان الدعوة إلى "الخلافة الرابعة" (الأخيرة) في جوهر سياسته. يجمع هذا المشروع الإسلاموية (بالمفهوم السلفي) والقومية التركية، على الرغم من أن أردوغان نفسه ينتمي إلى الطريقة الصوفية النقشبندية، إلا أن هذا المشروع لا يتناسب أبدا والكمالية العلمانية المتجذرة في تركيا. على أي حال، فقد نظر أردوغان بجدية إلى نموذج الخلافة العثمانية، تحديدا قبل انقلاب 2016، عندما كان لا يزال يحظى بتأييد شخصيات مناصرة للغرب مثل عبد الله غل، وأحمد داود أوغلو، اللذين دعما بقوة مشروع العثمانية الجديدة (لأسباب ليس أقلها الروسوفوبيا التي شجعهما عليها رعاتهما الغربيون). تلبي فكرة استعادة الخلافة العثمانية المصالح الاستراتيجية لتركيا شرقي المتوسط، ويمكن لها أن تضفي نوعا من الشرعية على مطالبها بالسيطرة على أراضي شمال العراق وسوريا، بالإضافة إلى أنها تستقطب عددا من الأنظمة العربية التي لها ارتباط بشكل أو بآخر بالسلفية و"الإخوان المسلمين".

لم يتأت للمشروع الشيعي أبدا أن يصبح أساسا لوحدة المسلمين، وخصوصا أن الإيرانيين كان بوسعهم فقط طرح إما مشروع الدولة الصفوية أو الخلافة الفاطمية، والتي اعتبرت هرطقية حتى بمعاييرهم

إلا أن هذه الاستراتيجية قد باءت بدورها بالفشل، ويعود ذلك من حيث الأساس إلى الرفض العام للهيمنة التركية من قبل الدول العربية، والتي ليس لديها الرغبة بأي من الأحوال في عودة الأتراك للعب أدوار أساسية في المنطقة. ولا يزال لدى العرب ذكريات حية عن الإمبراطورية العثمانية، والتي لم تكن ذكريات جميلة على أي حال. وباختصار، فقد تبين بوضوح أن مشروع الخلافة الرابعة كنموذج لوحدة جميع المسلمين لم يكن واقعيا.

المشروع الشيعي

لنكن منصفين، يتوجب علينا قول شيء ما عن المشروع الشيعي. فبعد نجاح "الثورة الإسلامية" في إيران في 1979، أعلن زعيمها آية الله الخميني عن حقبة جديدة: نضال الشعوب ضد هيمنة الغرب المادي. كان الخميني نفسه شيعيا، وأسس في إيران نظام حكم شيعي (ولاية الفقيه) وحظي بدعم الشيعة في دول أخرى، لبنان في المقام الأول. وقد كان يؤمن بأن دعوته موجهة إلى جميع المسلمين الذين دعاهم الخميني إلى التمرد على السلطة في مرحلة ما بعد الاستعمار، وإلى إقامة نظام حكم إسلامي.

أ.ف.ب
المرشد الإيراني السابق الخميني

وفي سياق ذلك، فقد توجه الخميني بصورة مباشرة إلى الصوفيين السنة، واضعا مقارنات بينهم وبين الباطنية الشيعية والتعاليم المتعلقة بنهاية الزمان. وبالإضافة إلى ذلك، فقد وجه خطابه كذلك إلى غير المسلمين داعيا إياهم إلى الوقوف في وجه "الشيطان الأكبر" أي الحضارة الغربية، إلا أنه بالرغم من انتصار أفكار الخميني في إيران وحصولها على دعم في أوساط الشيعة (في العراق ولدى "حزب الله" اللبناني ولدى الشيعة في اليمن وسوريا وغيرهما) فإنها لم تحظ بالثقة لدى السنة.

العراق في الوضع الراهن محكوم عليه بالانهيار، فليست هناك أي فكرة أو أيديولوجيا يمكنها أن تحافظ على تماسك الأقطاب الثلاثة في العراق الحديث- العرب الشيعة، والعرب السنة، والأكراد

لم يتأت للمشروع الشيعي أبدا أن يصبح أساسا لوحدة المسلمين، وخصوصا أن الإيرانيين كان بوسعهم فقط طرح إما مشروع الدولة الصفوية أو الخلافة الفاطمية، والتي اعتبرت هرطقية حتى بمعاييرهم (حيث كانت الهيمنة فيها للشيعة الإسماعيلية والتي ترفضها الأغلبية الشيعية) كسابقتين تاريخيتين. لذلك فقد نظر العرب إلى هذا المشروع كمشروع فارسي، كما نظروا إلى المشروع التركي- العثماني. ولذا فلم يكن هذا الشكل لوحدة المسلمين مقبولا.

العباسيون المنسيون

حتى هذه النظرة المختصرة إلى أفكار الوحدة الإسلامية، تدل بصورة مباشرة على ما تم إغفاله. يدور الحديث هنا عن الخلافة الثالثة- العباسية. لم يسبق لأي حركة إسلامية أن لجأت إلى هذا النموذج. يعد هذا الإغفال الأكثر غرابة حيث نقف في ظل الخلافة العباسية على الزمن الأكثر سطوعا وأكثرها انسجاما للازدهار الإسلامي. فالعباسيون، الذين كان مقر حكمهم في بغداد (ومنها جاء الاسم الآخر خلافة بغداد) استمالوا العرب والفرس وآسيا الوسطى وشمال أفريقيا، وما بين النهرين والأناضول وبين السنة والشيعة. وفي هذه الحقبة تأسست المدارس الشرعية للتفسير، وازدهرت الفنون والعلوم والفلسفة والتقنية، كما نشأت فيها التعاليم الصوفية الأساسية والتشيع الروحاني. كان الفلاسفة العباسيون كالكندي والفارابي وابن سينا وجابر بن حيان معروفين في أرجاء العالم كافة، وقد تمت دراسة أعمالهم بجد في أوروبا القرون الوسطى، حيث أخضعوا كل كلمة إلى تفسير دقيق.

مثلت خلافة بغداد قمة تاريخ الإسلام بلا منازع وذروة نهضته. وهنا تجلى ضمان وحدة جميع المسلمين، ولكن ليس من خلال تبسيط الدين بل من خلال تعقيده وتفسيره الفلسفي الأصولي والمصقول، فقد دعا الدين المنفتح على الجميع العقول العليا المستغرقة في المعاني اللامتناهية للقرآن والسنة والأعمال الأصيلة للفلاسفة والمتصوفين والمدرسين الإسلاميين. وحدث التداخل بين الأصل العربي والأصل الفارسي بتناغم، كما أسهمت شعوب أخرى بحصتها في ذلك، كالأتراك والأكراد والبربر وغيرهم.

نصل هنا إلى النقطة الأهم: فبالنظر إلى القمة العربية- الإسلامية الطارئة في الرياض، فإن ما يتبادر إلى الذهن هو الخلافة العباسية حيث اجتمعت هنا كل الدول والتيارات الإسلامية الرئيسة. اجتمعوا هنا أمام تحد أساسي وهو التهديد الذي يحيق بالمسجد الأقصى.

ترد في الأحاديث رواية تتحدث عن ظهور "رايات سود من خراسان" قبل نهاية الزمان قبيل المعركة الأخيرة مع الدجال (وهو الاسم الذي يطلقه المسلمون على المسيح الدجال). وبعد ذلك سينطلق جيش المؤمنين في حملته الأخيرة. كانت أراضي خراسان تقع على أراضيهم في العصر العباسي. ستتمكن الحضارة الإسلامية من أن تمثل قطبا متكاملا في عالم متعدد الأقطاب فقط إن نجحت في تحقيق الوحدة. وفي هذه المرة، فإن الأساس العقائدي يمثل أمرا بالغ الأهمية. يمثل الدور المفقود لخلافة بغداد إجابة على هذا السؤال.

القضية العراقية

أخيرا وليس آخرا، فقد تمثل خلافة بغداد حلا للمشكلة العراقية. يعد هذا الأمر مجرد تفصيل في المشروع العام للوحدة الإسلامية، إلا أنه تفصيل بالغ الأهمية.

وفي الوضع الراهن، فإن العراق محكوم عليه بالانهيار، فليست هنالك أي فكرة أو أيديولوجيا يمكنها أن تحافظ على تماسك الأقطاب الثلاثة في العراق الحديث- العرب الشيعة (الأكثرية) والعرب السنة والأكراد- ولو من بعيد. قام العراق في عهد صدام حسين على "البعث" وعلى هيمنة العلمانيين من العرب السنة. وقد ولى ذلك إلى غير رجعة. كما أن المشروعين الشيعي والسلفي (والذي تمت تجربته في محاولة إقامة دولة إسلامية في العراق) لن ينجحا. فالأمر لا يتعلق بالاحتلال الأميركي، فإن غادر الأميركيون، فسيظل الصراع الأهلي أمرا لا مفر منه.

عندما يكون هناك عدو مشترك ومخيف يوجه تهديدا للمقدسات، تجتمع كل القوى، وتعود كل السوابق التاريخية إلى الذاكرة، وتكتسب التقاليد والنبوءات والأساطير القديمة حياة جديدة

لنتخيل الآن أن العالم الإسلامي أخذ يفكر بصورة جادة في مشروع "الخلافة العباسية 2"، فمن المنطقي العودة إلى ما بين النهرين، حيث يمثل العراق العاصمة الرمزية لها. ويعني هذا أن العراق سيتحول تلقائيا ليصبح مركزا يوازن بين شبه الجزيرة العربية وإيران وتركيا والمغرب والشرق الأوسط وجنوب آسيا. هنا تم التخلص من سؤال: "شيعي أم سني". وتم رفض السلفية كفكرة عامة، ولكن يمكن لهما أن يوجدا فقط كتيارات ليس لها بعد ادعاء التفرد. سيتحقق حلم الشيعة في أن يصبحوا في خانة واحدة مع بقية العالم الشيعي، وسيصبح حلم الأكراد الذين لن تقطع بينهم حدود ما بعد الاستعمار حقيقة. كما سيحقق الأتراك خططهم التكاملية لتوسيع نفوذهم إلى ما وراء حدود الدولة القومية، وسيعود التوازن مرة أخرى بين العرب والإيرانيين. ستصبح هذه لحظة النهضة الحقيقية للإسلام كقطب ذي سيادة في عالم متعدد الأقطاب، وسيتحول العراق من بلد ممزق إلى أرض جديدة مزدهرة.

الإشارات الزمنية

إن ما جرى في الرياض في 11 نوفمبر 2024 قد يصبح نقطة تحول تاريخية. وإن استمرت الأمور على النحو الذي تكشفت عنه، فسيطلق عليها المؤرخون "بداية تكوين قطب إسلامي في عالم متعدد الأقطاب". نعم، ستقف هذه الوحدة وجها لوجه أمام التحدي القاتل لإسرائيل. ولكن هذا ما يحدث عادة: عندما يكون هنالك عدو مشترك ومخيف يوجه تهديدا للمقدسات، تجتمع كل القوى، وتعود كل السوابق التاريخية إلى الذاكرة، وتكتسب التقاليد والنبوءات والأساطير القديمة حياة جديدة وتكشف لنا عن معانيها السرية.

لا نريد فرض أحداث معينة. ولكن المعنى الرمزي لما يحدث جلي. إلا أنه ليس بمقدورنا أن نعرف كيف يمكن هذه المرة للعلاقة بين المنطق الروحي وحالته الواقعية المباشرة أن تتطور. على أن ذلك لا يعفينا من محاولة فك رموز الإشارات الزمنية على نحو صحيح قدر المستطاع.

* تنسيق راميا يحيى

font change

مقالات ذات صلة